الرئيسية | فكر ونقد | عوالم الفرجة السردية: اللغة والعلامات الرُّكحية | لبروزيين عبيد
(عمل لـ منى باسيلي صحناوي/ لبنان)

عوالم الفرجة السردية: اللغة والعلامات الرُّكحية | لبروزيين عبيد

لبروزيين عبيد

 

يعد مفهوم الفرجة من المفاهيم المخاتلة، يختلف معناها في اللغة والاصطلاح، فالتتبع الإتمولوجي لكلمة الفرجة في اللغة العربية، يحيلنا إلى معان عديدة، ودلالات متنوعة، فقد وردت في المعاجم العربية القديمة، وبالأخص في لسان العرب في ”باب فرج الفرج” بمعنى ”الخلل بين الشيئين، والجمع فروج، والفرجة بالضم: فُرجَة الحائط وما أشبهه، يقال: بينهما فُرجَة أي انفراج. والفُرجة : الراحة من حزن أو مرض والفَرجة : التفصي من الهم”[i].

نلاحظ من خلال هذا التعريف، أنه لا وجود لمفهوم الفرجة بمعناه الحديث في المعاجم العربية القديمة، وإن كانت بعض الدراسات تتناوله من منطلق العصر الراهن، وهذا لا يعني أن العرب لم تعرف الفنون الفرجوية كما يحاول البعض أن يدعي، إلا أن سبب عدم وجود مفردة تدل عليها يثير العديد من الأسئلة المرتبطة بالسياق الثقافي، فربما تم تجاهلها نظرا للنظرة الدونية التي وسمت هذه الأشكال التعبيرية، أو إن الأشكال الفرجوية الموجودة إذ ذاك كانت تعرف بأسمائها فقط مثل “خيال الظل” و”الحكواتي”…إلخ. وبالتالي فعدم وجود كلمة الفرجة في “لسان العرب” لا يعني أن العرب لم تعرف أشكالا فرجوية كما لا يعني وجودها.

أما مفهوم الفرجة بمعناه الحديث، فإنه لم يظهر إلا في المعاجم المتأخرة عن “لسان العرب”، وترد أول إشارة في المعجم الوسيط بمعنى ”الفرجة: الشق بين الشيئين، وانكشاف الهم، ومشاهدة ما يتسلى به (محدثة)”[ii] فإضافة كلمة “محدثة” دليل على أن القاموس العربي لم يعرف الفرجة بمعناها الحديث، وإنما هو معنى مولد من خلال فعل المثاقفة.

أما في المعاجم الاصطلاحية، فإن الفرجة spectacle فيها أكثر غموضا من المعاجم اللغوية، حيث نجد ”في اللغـة العربية الفرجـة بالمعنى العام هي الخلوص من الشدة والهـم، وهناك أيضا معنى يقترب كثيرا من العـرض تدل عليه المولدة السريانية الأصل فرجـة، وهي اسم لما يتفرج عليه من الغرائب، سميت كذلك لأن من شأنها تفريــج الهمــوم، ومنها فعل فرجة على شيء غريـب لم يره من قبل أي أراه إيـاه”[iii].

وبعد أن أنكرت المعاجم اللغوية وجود كلمة الفرجة بمعناها الحديث في الإرث العربي القديم، يظهر في المعاجم الاصطلاحية المتخصصة، خصوصا عند ماري إلياس وحنان قصاب الحس في محاولة إثباتها في التراث العربي القديم من خلال المولدة السريانية حسب قولهما المتأثر بنظريات تأصيل المسرح العربي، بحيث يظهر في قولهما هاجس البحث عن السبق المعرفي لمواجهة الإرث الثقافي الغربي، أو المركزية الثقافية الغربية بتعبير جاك ديريدا، وذلك بمحاولة قول إن الفرجة كانت متداولة عند العرب منذ القديم دون تفصيل في ذلك أو حتى تقديم الكلمة السريانية.

ومن خلال المعنيين اللغوي والاصطلاحي، يظهر أن الفرجة تحتمل مجموعة من الدلالات المختلفة، لأنها اصطلاحيا ليست محصورة في دلالتها على شكل أو قالب معين، بل تضم فيما تضم “أنواعا عديدة من العروض، منها السرك والألعاب الرياضية، وعروض التزحلق على الجليد، وعروض افتتاح الألعاب الأولمبية وكل أنواع العروض الأدائية”[iv].

إن هذا التعريف المترامي الأطراف، يجعل الفرجة تختفي فيها الخصائص الجوهرية المميزة لها، فتصبح الفرجة إذن ـ حسب أصحاب المعاجم السالف ذكرهم ـ كل شيء مرئي ومشاهد، مما يجعل الباحث يتيه في دوامة بحثه عن ما يميز الفرجة عن غيرها. فهل يكفي تمييزها من قبل ماري الياس وحنان قصاب على أنها تحتوي على حيزين “حيز اللعب Aire de jeu وحيز المتفرجين”؟

ترتبط دلالة الفرجة ارتباطا وثيقا بالحضارة والثقافة والتاريخ، فما تعنيه عند جماعة من الناس في حقبة ما، ليس ما قد تعنيه عند الآخرين، وبالتالي فالعناصر السابقة هي التي تكسبها معناها، إذ ليس من الغريب أن نجد تمثلات الفرجة مختلفة بين سكان أفريقيا وأوربا، لأن الشكل الفرجوي في مكان ما، وزمان ما، هو الذي يسمح بتمثل الفرجة، وذلك وفق سياق تؤسسه مجموعة من العوامل، حيث نجد مثلا في الثقافة الغربية أن ”الفعل تفرج spectare يدل على ‘المشاهدة مع الانتباه’ وكلمة spectaculum تعني ‘كل ما يثير للمشاهدة”’[v]، إذن فالكلمة تاريخيا كانت تضم عروض المصارعة وسباق العربات وكل ما يدخل في خانتهما، أو كل ما يشاهد ويبعث الإثارة في المتلقي. لكن سرعان ما ظهرت عروض جديدة تندرج بصفة عامة تحت الفنون الفرجوية artes du spectacle كـ(السينما والمسرح والأبرا والسيرك والحفلات الكلاسيكية وحفلات الروك)، مما يدل على أن الفرجة تتخذ معناها من السياق الثقافي والتاريخي معا.

وقد ربطنا المفهوم بالتاريخ والسياق الثقافي لأنه يتحدد وفقهما، فـ”من الضروري رؤية متى وكيف يعني المسرح مثل ما تعنيه الفرجة، لأنه في روما قديما كانت كلمة spectaculum لا تخص المسرح فقط، ولكن أيضا كانت تعني الألعاب ومبارزات السيرك”[vi].

 وبالرغم من أن الفرجة تتحدد وفق المرجعين، الثقافي والتاريخي، إلا أنها كذلك محط اختلاف أصحاب المعاجم الاصطلاحية، إذ يعرفها “باتريس بافيس” بكونها “كل ما يعرض للمشاهدة (فالفرجة كونية تحت نوع كل ما يشاهده العالم، بارث، 1975) وهذا المفهوم النوعي يوظف في الجزء المرئي من العرض ((représentation وفي أشكال فنون العرضarts de la representation  (رقص، أبرا، سينما، الميم، السيرك …)، إضافة للأنشطة الأخرى التي توظف مشاركة الجمهور (رياضة، شعائر، عبادات cultes تفاعل interaction)”[vii] وهنا تتخذ الفرجة أشكالا مختلفة ومتنوعة يصعب على الدارس حصرها.

يستوجب جعل الفرجة مادة للدراسة التحقق من كيفية إنجازها، وتحليلها بمناهج نقدية تراعي قواعد الحقول العلمية (النظريبات النقدية) التي ينتسب إليها، ولتيسير فهمها ما كان من النقاد الفرجويين (أقصد نقاد المسرح والسينما بالخصوص) وأصحاب المعاجم إلا أن حاولوا تقسيمها، ليضيف “ميشيل كرفان” بعد أن أحس أن جغرافية مفهوم الفرجة مازالت غير مرسومة الحدود، وغير واضحة المعالم، فشرع يقسمها إلى فئتين كبيرتين:

  • فنون العرض arts de la représentation.

  • فنون الخشبة arts de la scène.

   أو إلى:

  • فنون الخيال arts de la fiction: (مثل المسرح والسينما غير الوثائقية، الميم…)

  • الفنون غير الخيالية arts non-fictionnels: (مثل السيرك، وسباق الثيران، والرياضة…)[viii]

لقد حدد “ميشيل كرفان” الفرجة بهذا التقسيم، وأصبحت موضوعا محددا بعد أن كان غامضا وغير واضح المعالم، وإليه يرجع الفضل في تطور الدراسات الفرجوية. ويبدو أن “آن أبرسفيلد” تأثرت بطروحاته، فهي تتفق معه، حيث تقول: إن لكلمة الفرجة معنيين :

أ ـ تدل على تظاهرة أنتجها أناس أمام أناس آخرين يجدون فيها كل المتعة، كل رقصة وكل مباراة ملاكمة وكرة القدم وكل استعراض أو عرض هو بمثابة فرجة مثل تمثيل مسرحي. وليست سوى مبالغة في التعبير أو الكلمة إذا ما نحن اعتبرنا فلما أو تظاهرة تلفزيونية بمثابة فرجة، حيث هما صور وليس حـضورا آنيا للمرسلين …

ب ـ تدل على التظاهرة المسرحية، كل ما يجعل من الممثل حضورا فعليا إلى جانب الديكور، الملابس والإنارة، الحركة وكلام الممثلين، الموسيقى والرقص…[ix].

لقد أسهمت المعاجم الفرجوية، والمسرحية منها خصوصا، من تحديد مفهوم الفرجة، وإزالة الغموض الذي كان يكتنفها، سواء بتحديد عناصرها، صانع الفرجة ومتلقيها، أو أنواعها، أي الخيالية وغير الخيالية.

والفرجة التي سنتحدث عنها في هذه المقالة هي الفرجة المسرحية، التي تعتمد السرد والحكي باللغة الملفوظة أو عناصر السينوغرافيا أو حركات الممثل. وبذلك تختلف وسائط السرد في الفرجة حسب أهميتها، فيمكن أن يكون السرد بالصورة أو الإشارات والرموز أو الإيماءات…إلخ، لبناء حدث يتضمن بداية ووسطا ونهاية، ولكن اهتمامنا سينصب على السرد في العروض المسرحية بواسطة اللغة والجسد والسينوغرافيا.

اللغة:

تعد اللغة مجموعة من الرموز التي توافق الناس على إكسابها معان ودلالات مختلفة، ونقصد بها في العرض المسرحي اللغة الملفوظة التي ينطق بها الممثلون، فبواسطتها يتم سرد الأحداث والوقائع أو نقلها وسردها للمتلقي، ويمكن أن نقول بأن الفرجة هي التي تقوم بعملية السرد، أي معادلة للسارد في النصوص الأدبية، فالعناصر التي تكون الفرجة، مهما اتسقت أو اختلفت، تتضمن قابلية لتتحول إلى علامات دالة قابلة من خلال علاقاتها للقيام بعملية السرد، ومنه، يتم إنتاج نص فرجوي متكامل، وهذه العناصر هي: الإخراج والتأليف والتمثيل، والسينوغرافيا. وبالتالي يمكننا أن نقسم السرد في العرض المسرحي بواسطة اللغة –سواء كانت ملفوظة أم بصرية- في علاقته بالحدث إلى ما يلي:

شعرية الحدث: السرد الممكن

تجسد اللغة الأحداث والوقائع التي تسرد بطريقة أو بأخرى أمام الجمهور، وتنبني على محور الاختيار، أي اختيار مجموعة من الإمكانيات اللغوية المتاحة، بمعنى اختيار كلمة دون مرادفاتها، مثل اختيار صبي عوض طفل، أو جزء من الديكور عوض أجزاء مشابهة له، وفي هذه الحالة يتم إنزال سرد سابق (مرجع العلامة الواقعي) مكان سرد آني من خلال خطاب مكونات العرض المسرحي (مرجع العلامة المسرحي) وخصوصا الملفوظ الحواري، فعبارة “اذهب إلى حال سبيلك” يمكن أن تقال على خشبة المسرح بطرق مختلفة، تستند إلى مرجع واقعي، أي التداول اليومي للغة، ومرجع مسرحي، أي علاقتها بالعرض وبانفعالات الممثل.

وعليه، تقوم اللغة في هذه الحالة باستحضار وقائع وأحداث ماضية، وتصاغ بطريقة تعتمد على قدرة المبدع على الوصف والتعبير والسرد وامتلاك تقنيات الكتابة، وتقدم على أنها تعرض آنيا، والمرجع المسرحي هو الذي يجعل العلامة المسرحية مفارقة للعلامة الواقعية، فتتضاعف في علاقاتها المتشعبة لتقدم على أنها انزياح، وهو ما يخلق العنصر الفرجوي spectaculaire، أي ما يجعل من الفرجة فرجة إذا اقتدينا بعريف الأدبية عند رومان ياكبسون والشعرية عند جون كوهين.

آفاق سردية: شعرية السرد الحواري

في هذه الحالة تكون لغة الحوار ساردة ومسرودة في نفس الوقت، ساردة لأنها تقدم حدثا آنيا (التعبير عن الحدث أو مكنونات الشخصية وطموحاتها…) ومسرودة لأنها تقدم كيفية بناء الأفعال السردية المتعلقة بالحدث والشخصيات، وهكذا تتحول المقاطع الحوارية إلى تقنية للسرد، قادرة على خلق آفاق شعرية رحبة، وهي لا تكتسب جماليتها إلا في علاقتها بعناصر السينوغرافيا.

لنأخذ مثلا اللغة الشعرية عند المسكيني الصغير، وهذا لا يعني أن نرصد مدى انزياحها عن اللغة اليومية، بل شعريته تكمن في استحضار بنية المسرحية أولا، وجمال العبارة ثانيا، ونقصد هنا بالجمال التوفق في استعمال الصور الشعرية التي تنقل الخطاب العادي إلى خطاب جمالي، كما هو شأن الانزياح اللغوي في هذا المقطع الحواري:

ابن دانيال: …لكنهم يَلعَقُون بشراهة كل أنواع الإهانات، يتمسحون بالصبر كالقطط الجرباء.. خوفا من قولة الحق.

    طيف الخيال: الحق سيف يا معلمنا الأكبر.

    ابن دانيال: من يرفع السيف المنتظر.. ويحصد هذا الطحلب الملفوف فوق الرؤوس.. شارات وعناوين باهتة”[x].

        وعندما نتأمل عبارة “يلعقون بشراهة كل أنواع الإهانات” يتضح فيها الانزياح الدلالي، فالناس لا يلعقون، والإهانات ليست سائلا يمكن لعقه، أو التشبيه في عبارة “الحق سيف” حيث شبه الحق بالسيف، وغيرها من الانزياحات الأخرى، وهذا ما يجعل لغته لغة شعرية بامتياز، وهو ما نقصده بشعرية السرد الحواري.

         شعرية اللغة الساردة المتعالية

لغة رواية الأحداث، تصدر عن الراوي/السارد، هي تقنية تعتمد في المسرح داخل المسرح غالبا، متعالية، لأنها تستقل بأسلوبها في تقديم الأحداث، وتجعل مسافة بينها وبين المرويّ، فهي تشتغل كلغة فوقية. إن اللغة وسيلة سردية وغاية، فهي وسيلة لطرح الأحداث وفق قالب معين، والفضاء الذي تتشكل فيه بشكل كرونولوجي أو غيره من أشكال السرد المختلفة، وغاية لأنها رسالة تركز على ذاتها، أي على كيفية نقل الأحداث والوقائع، وهذا ما يميز الخطاب الأدبي والفرجوي عن الخطاب اليومي العادي.

 

[i]– أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري: “لسان العرب، باب فرج الفرج”، دار صادر بيروت، المجلد الثاني، دط، دت، ص 341.

[ii]– مجموعة من الكتاب، “المعجم الوسيط”، الجزء الأول، من أول همزة إلى آخر الضاد، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، اسطنبول، تركيا، دط، دت، ص 679.

[iii] – ماري إلياس وحنان قصاب: “المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض”، مكتبة لبنان ناشرون ط1، 1997، ص 36.

[iv]– نفسه، ص 36.

[v]– Michel Corvin, Dictionnaire encyclopédique du théâtre, Bordas, Paris 1991, P 787.

[vi] -Ibid, P: 787.

[vii] – Patrice Parvis, dictionnaire du théâtre, Edition sociales, Paris 1987, P P  369 -370.

[viii]– Michel Corvin, Dictionnaire encyclopédique du théâtre, Bordas Paris,  P 371.

[ix]-Anne Ubersfeld, les termes clés de l’analyse du théâtre, Edition du seuil, février 1996, P 78.

– المسكيني الصغير: “البحث عن رجل يحمل عينين فقط”، منشورات دار التوحيدي، ط 1، 2015، ص: 9.[x]

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.