عن يسار روجيه ألان | عبد الفتاح كيليطو
هل يستطيع المرء امتلاك لغتين؟ هل بإمكانه أن يبرع فيهما معا؟ ربما لن نهتدي إلى جوانب إلا إذا أفلحنا في الإجابة عن سؤال آخر: هل يمتلك المرء لغة من اللغات؟ أتذكر أنني سمعت كلاما لم أعثر بعد على مرجعه، يصف فيه أحد القدماء علاقته بالعربية، فيقول: “هزمتها فهزمتني، ثم هزمتها فهزمتني”، مشيرا إلى أن علاقته بها متوترة، وأن الحرب سجال بينهما، مرة له ومرة عليه؛ ولكن الكلمة الأخيرة لها، لهذه الكائنة الشرسة التي تأبى الخضوع والانقياد. ينتهي القتال دائما بانتصارها، ولا يجد المرء بدا من مهادنتها ومسالمتها والاستسلام لها، وإن على مضض.
إذا كان هذا حال المتكلم مع لغة واحدة، مع لغته، فكيف حاله مع لغتين أو أكثر؟ كيف ينتقل من هذه إلى تلك، كيف يتصرف بينهما، وكيف يتدبر أمره مع الترجمة المستمرة التي يمارسها؟ سأحاول الخوض في جانب من هذه الأسئلة استنادا إلى الجاحظ، إلى كاتب لا نعرف بالتأكيد إن كان يتقن لغة غير العربية، مع العلم أن في مصنفاته علامات تشير إلى أنه لم يكن يجهل الفارسية.
ولنبدأ بما قال في البيان والتبيين عن أبي علي الأسواري، الذي قص في أحد المساجد “ستا وثلاثين سنة، فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات، لأنه كان حافظا للسير، ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع”. إن تفسير القرآن عملية طويلة لا يحدها إلا عمر المفسر.. بأية لغة كان أبو علي الأسواري ينجز شرحه؟ بالعربية طبعا، والظاهر أن جمهوره يتكون أساسا من العرب، ومن بعض العجم الذين تعلموا العربية. ولكن كيف كان يتم تفسير كتاب الله لأولئك الذين يجهلون اللغة التي أوحي بها؟
لعل السؤال لم يكن ليتبادر إلى ذهني لو لم يكن هذا النص مرفقا بآخر، يصف فيه الجاحظ قاصا اسمه موسى بن سيار الأسواري، فيقول عنه: “وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين”.
العرب من جهة، والفرس من جهة أخرى. ليس هناك اختلاط أو اندماج بين المجموعتين، فلكل واحدة مكانها المرسوم لا تتعداه إلى غيره. إن سدا منيعا يفصل بينهما، وهو اللسان المختلف. وحده القاص يعرف اللسانين، “فلا يدري بأي لسان هو أبين”، فهو يفسر كتاب الله بالعربية، ثم بالفارسية، وبالسهولة نفسها. وإذا اعتبرنا التفسير ترجمة (داخل اللغة نفسها)، فإن صاحبنا يقوم بترجمتين، يترجم الآية مرة إلى العربية ومرة إلى الفارسية (لنلاحظ أنه يبدأ التفسير بالعربية، وهو شيء ذو مغزى). وفي كل مرة يلتفت إلى جهة، يلتفت إلى يمينه عندما يخاطب العرب، وإلى يساره عندما يخاطب الفرس. أن يتكلم معناه أن يلتفت، مع ما يترتب عن ذلك من دلالات مرتبطة بالجهتين، باليدين، بالموقعين. أمن الصدفة أن تجلس العرب عن يمينه والفرس عن يساره. أبالإمكان تصور العكس؟ لو حدث هذا، لو قعدت العرب عن يساره والفرس عن يمينه، لكانت العربية ثانوية بالنسبة للفارسية، وهو شيء لم يكن يخطر إطلاقا ببال موسى بن سيار أو ببال الجاحظ. وكيف يكون ذلك والنص الأصلي الذي يتم تفسيره نزل بالعربية؟
نستخلص من هذا المشهد نتيجة أولى وهي أن التحدث بلغة يستلزم الالتفات إلى جهة من الجهات. اللغة مرتبطة بموقع ما على الخريطة أو على مساحة من المساحات. أن تتحدث بهذه اللغة أو تلك معناه أن تكون جهة اليمين أو جهة اليسار. أما المزدوج اللغة، فإنه دائم الحركة، دائم الالتفات، وبما أنه ينظر إلى جهتين، فإن له وجهين.
يعلق الجاحظ على هذه الحالة، مبديا استغرابه وإعجابه، فيقول: “واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكرنا من لسان موسى بن سيار الأسواري”. وبقدر ما يمكن اعتبار قول الجاحظ باعثا على اليأس، لأنه يجزم بأن المرء لن يتمكن أبدا من لسانين، بقدر ما يمكن اعتباره باعثا على الطمأنينة، أو على التسليم بما لا بد منه. فإخفاق المرء في عدم امتلاك لسانين ليس نتيجة تقصير من جانبه، وإنما لأن الإنسان، كيفما كان شأنه، عاجز عن ذلك.. هناك إذن قاعدة عامة، وهي تعذر التصرف في لغتين بصفة تامة، والسبب هو العداوة بين اللغتين، وهذا ما توحي به كلمة الضيم التي يستعملها الجاحظ: “أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها”. ويتعلق الأمر بظلم وانتقاص متبادلين، فليس هناك لغة ظالمة ولغة مظلومة، بل كل لغة ظالمة ومظلومة في آن، كل واحدة منهما معتدية وضحية “إذا التقتا في اللسان الواحد”. ليست العلاقة بينهما مبنية على تعايش سلمي، إنها علاقة جذب وأخذ واعتراض. ومن طرف خفي يوحي الجاحظ أنهما كالضرتين؛ وحسب ابن منظور، “سميتا ضرتين لأن كل واحدة تضار صاحبتها”، ولأن “ضرائر النساء لا يتفقن”.
هذه القاعدة لا تعرف، حسب الجاحظ، إلا استثناء واحدا هو موسى بن سيار الذي استطاع الجمع بين العربية والفارسية وعدل بينهما فإذا بهما تلتقيان في لسانه دون صراع أو تنافر (وبتداعي الأفكار يحيل اسمه على النبي موسى وعلى ما هو معروف عن علاقته المتوترة بالكلام: “وحل عقدة من لساني يفقهوا قولي”). لكن هذا الاستثناء يزج بنا في مشكلة دقيقة لعلها غابت عن الجاحظ: من يحكم على موسى بن سيار بأنه يمتلك العربية والفارسية بصفة كاملة ومتكافئة؟ الجاحظ طبعا. ولكن الجاحظ لا يزعم أنه يعرف الفارسية، أو يعرفها بقدر ما يعرف العربية، فهو والحالة هذه ليس بالعمدة ولا يمكنه أن ينصب نفسه حكما في هذه القضية. لا بد، لكي يستقيم رأيه، أن يستند إلى مراقبين لهم معرفة تامة باللغتين وبوسعهم بالتالي الإقرار بأن موسى بن سيار له كامل السيطرة على اللسانين. ولكن أين هم هؤلاء المراقبون أو الحكام؟ وإذا ما افترضنا وجودهم، فإن القاعدة التي أكدها الجاحظ (استحالة البراعة في لسانين) ستسقط لا محالة، ولن يظل موسى بن سيار استثناء. اللهم إلا إذا افترضنا أن الحكام المفترضين يمثل البعض منهم إحدى اللغتين، والبعض اللغة الأخرى، فيحكمون عليه بصفة مستقلة: العرب من جهة، والفرس من جهة.
علاوة على ذلك، وإذا أخذنا بقول الجاحظ، ما هو يا ترى موقفه من الترجمة؟ ألا يقتضي كلامه أنها متعذرة على كل الناس، ما عدا موسى بن سيار؟ إنه يقدم ضمنيا هذا المفسر كمترجم مثالي، وما عداه مترجمون ناقصون تختلف درجاتهم باختلاف معرفتهم باللغتين. القاعدة المقررة في البيان والتبيين أن الترجمة مستحيلة، وأن ما يتم إنجازه منها ناقص لا محالة.
وهذا بالضبط ما يذهب إليه الجاحظ أيضا في كتاب الحيوان، عندما يثير قضية لا تتعلق هذه المرة بتفسير القرآن الكريم من العربية إلى الفارسية، وإنما بترجمة كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية. يقول عن الترجمان: “ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها”. ولوضع هذا الكلام (الذي لا يختلف كثيرا عما جاء في البيان) في سياقه العام، ينبغي أن نشير إلى أن الجاحظ، في مقدمة الحيوان، يتوجه بالخطاب إلى قارئ من نوع خاص، قارئ يناصبه العداء ويعيب كتبه. فمن هو هذا الخصم العنيد الذي لا يكتفي بالتقليل من شأن كتب الجاحظ، بل يتطاول ويتمادى في إزرائه فيعيب كل الكتب: “ثم لم أرك رضيت بالطعن على كل كتاب لي بعينه، حتى تجاوزت ذلك إلى أن عبت وضع الكتب كيفما دارت بها الحال، وكيف تصرفت بها الوجوه. وقد كنت أعجب من عيبك البعض بلا علم، حتى عبت الكل بلا علم، ثم تجاوزت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزت ذلك إلى نصب الحرب فعبت الكتاب”. لم هذا الإزراء بالكتب، وما هي بواعثه ودوافعه؟
يثير الجاحظ في مقدمة الحيوان (التي تستغرق زهاء مائة صفحة)، العديد من القضايا المختلفة، إلا أن بالإمكان، رغم الاستطرادات الكثيرة، اعتبار قضية الكتاب (أو الكتابة) مدار الأمر ومحط الكلام. وإذا نحن أمسكنا بهذا الخيط الرفيع، يتضح لنا أن هناك من يعيب الكتب، وهناك من يشيد بها، ونخلص إلى أن المقدمة مبنية على مناظرة بين أنصار الرواية (أو النقل الشفوي) وأنصار الكتابة. وفي هذا الجو من الصراع بين نزعتين متعارضتين، يتناول الجاحظ مسألة الترجمة، وبالضبط ترجمة الشعر وترجمة الفلسفة.
عند حديثه عن ترجمة الفلسفة اليونانية، يقدم تعليلين لفشلها أو قصورها، فيقول: “إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه(…) وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه؟ فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، وابن قرة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفع، مثل أرسطاطاليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟” الترجمة ناقصة لأن علم الترجمان دون علم الفيلسوف، فمهما بلغ الترجمان من سعة المعرفة، ومن الإحاطة بمادة الكتاب الذي يترجمه، فإنه يظل عاجزا عن اللحاق بمؤلفه.
ثم هناك عقبة ثانية يعرضها الجاحظ: “ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقولة إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها. وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟ وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات”.
في هذا النص، لا يقصي الجاحظ أحدا من استحالة الترجمة، بخلاف ما فعل في البيان والتبيين عندما استثنى موسى بن سيار، مفسر القرآن، واعتبره من أعاجيب الدنيا. إن ترجمة الفلسفة متسمة في كل الحالات بالنقص والإخفاق. ثم إنه لا يحاول إخفاء استهانته بمن ترجموا من اليونانية، بل لا يخفي احتقاره لهم: “ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟” وهنا لا يسعنا أيضا إلا أن نبدي استغرابنا من هذه الموازنة. كيف توصل الجاحظ إلى كون خالد أقل شأنا من أفلاطون؟ لكي تصدر هذا الحكم، ينبغي أن تكون مطلعا على أعمال كليهما، وينبغي أن تكون عالما بالعربية واليونانية. لا يدعي الجاحظ ذلك، ولكن ألا يتضمن كلامه أن هناك من هو قادر على عقد تلك الموازنة وإثبات تفوق أفلاطون على خالد، وأن هناك من يستطيع الانتباه إلى ثغرات المترجمين وهفواتهم، ويسعى بالتالي إلى تصحيحها وتنقيحها؟ هل ينفي تقصير المترجمين محاولة تدارك القصور والتقريب إلى حد كبير بين النص المترجم والنص الأصلي؟
قبل أن يتطرق الجاحظ إلى ترجمة الفلسفة اليونانية، أثار مسألة ترجمة الشعر، والمقصود هو الشعر العربي. فإذا صدقنا الجاحظ، فإن “الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل. ومتى حول تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب”.
استحالة ترجمة الشعر مترتبة عن خاصية فيه هي الوزن الذي يتلاشى ويبطل عندما يتم التحويل. اللافت في هذا النص أن الجاحظ لا يتهم المترجمين بالنقص، ولا يستند إلى قصورهم في معرفة اللسانين لتبرير فشل ترجمة الشعر، كما فعل فيما يخص الفلسفة عندما أنحى بالملائمة على مترجميها. فحتى لو افترضنا وجود مترجم مثالي، أي أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، فإن المشكل سيظل قائما بالنسبة للشعر. إن سبب تعذر تحويل الفلسفة اليونانية يعود إلى عدم إحاطة المترجمين بالمادة الفلسفية، وإلى عدم تحكمهم في اللسانين اليوناني والعربي. أما تعذر ترجمة الشعر، فالجاحظ لا يرى سببه في عدم كفاءة المترجمين، وإنما في امتناع الشعر عن الترجمة وعدم قابليته لها. مهما تكن براعة المترجم، فإن الشعر يأبى النقل، وإذا ما حول عن لغته الأصلية فإنه يفقد قيمته ويصير في اللغة المنقول إليها نصا ممسوخا مشوها. إذا كانت ترجمة الشعر عملية عبثية ميؤوسا منها، فليس ذلك راجعا إلى المترجمين، وإنما إلى طبيعة الشعر نفسه الذي لا يحتمل التحويل.
قد نتفق مع الجاحظ ونرحب بما جاء في كلامه من استحالة ترجمة الشعر، قد نشاطره رأيه في كون الشعر يتفتق ويزهر في كنف لغة ما، ويذبل عندما ينقل إلى أخرى. ولكننا نشعر بالاستغراب الشديد ونتحفظ كل التحفظ عندما نقرأ الجملة التي تأتي مباشرة قبل النص السالف الذكر: “وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب”. هذا القول مشهور، وكثيرا ما ذكره الدارسون وعلقوا عليه واندهشوا صراحة أو ضمنا لما جاء فيه.
كيف حصل هذا؟ كيف توصل الجاحظ إلى هذا الاعتقاد؟ لماذا يزعم أن الشعر مقصور على العرب؟ صحيح أنه لا يقصي العجم تماما من الشعر، فهم قادرون على قوله، ولكن بشرط أن يتعلموا لسان العرب وينظموا فيه. ولعله كان يفكر في شعراء من أصل فارسي أبدعوا في الشعر العربي وتفوقوا فيه، كبشار وأبي نواس. فمن هذا المنظور فإن الشعر ليس مرتبطا بالعرب كجنس، كسلالة، بقدر ما هو مرتبط باللسان العربي. لكن هذا لا يقلل من استغرابنا. ألم يكن الجاحظ يعلم أن الشعر قاسم مشترك بين كل الآداب؟ بلى، كان يعلم هذا، والدليل على ذلك أنه في البيان والتبيين (وفي كتاب الحيوان أيضا) يذكر ديسيموس، و”كان من موسوسي اليونانيين، قال له قائل: ما بال ديسيموس يعلم الناس الشعر ولا يستطيع قوله؟ قال: مثله مثل المسن الذي يشحذ ولا يقطع”.
قد نقول إن كلام الجاحظ جاء في سياق من المفاخرة بين الشعوب، بين مختلف مكونات مملكة الإسلام آنذاك، في إطار نزاع طويل ومعقد بين عدة ثقافات، وقد أدلى الجاحظ بدلوه في هذا النزاع، فكتب عدة كتب من بينها كتاب العرب والموالي، وكتاب العرب والعجم. في هذا الجو قد نتغابى ونتفهم أن يندفع الجاحظ فيعلن أن الشعر مفخرة من مفاخر العرب، وفن مقصور عليهم. ولكن هذا لا يبرر التناقض المكشوف ولا يسوغه.
ومما يزيد في اندهاشنا أن الجاحظ، بعد التأكيد على أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، يضيف ما يلي: “وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس؛ فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا”. ترجمة حكمة الأمم الأخرى، واليونان من جملتهم، تبقى في مستوى الأصل لا تنقص شيئا، بل قد تصير أحسن من الأصل! وهذا كلام يخالف الكلام السابق الذكر عن استحالة ترجمة الفلسفة اليونانية. كيف غاب هذا التناقض الجديد عن الجاحظ؟ كيف يقول في فقرة إن ترجمة الحكمة تشوهها، وفي فقرة غير بعيدة إن الترجمة قد تزيدها حسنا؟
لقد حان الوقت لكي نطرح على أنفسنا سؤالا قد يبدو متكلفا، ولكنه رغم ذلك قد يساعدنا على الخروج من هذه الحيرة التي نتخبط فيها. السؤال هو: هل قال الجاحظ حقا إن فضيلة الشعر مقصورة على العرب؟ لا جدال أن هذا الحكم وارد بحرفه في كتاب الحيوان، ولكن هل يجوز نسبته إلى الجاحظ؟
كوني أطرح السؤال يدل على أن شكا راودني فيما يخص مصدر القول، وبالرجوع إلى النص، إلى فقرة الجاحظ المتعلقة ببؤس ترجمان الفلسفة، بقصور المترجمين عن نقل النصوص الفلسفية اليونانية، تبين لي، ويا للمفاجأة، أنها مسبوقة بالعبارة التالية: “قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له”، أي أن مصدر القول بتعذر ترجمة الفلسفة ليس هو الجاحظ، وإنما شخص آخر غير مسمى، ولكنه يختلف عن الجاحظ بلا شك. وكذلك الشأن بالنسبة للفقرة التي نقرأ فيها أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، فهي لا تعبر بالضرورة عن اعتقاد الجاحظ، لأنها مسبوقة بلفظة: “قال”. إنه كلام يحيل إلى وجهة نظر، إلى رأي لشخص من الأشخاص، ومن المجازفة نسبته إلى الجاحظ دون تدبر وتأمل.
قد يعترض علي أن النساخ يضيفون أحيانا كلمة “قال” في ثنايا النص وهم يقصدون المؤلف، وقد تأتي هذه الكلمة متلوة باسم المؤلف. لكن هذا الاعتراض لا يثبت هنا، فليس لدينا في كلتا الفقرتين عبارة من نوع: قال الجاحظ. ومن جهة أخرى، ما أن نشرع في قراءة الصفحات التي تشكل سياق الفقرتين حتى يتبين لنا أن الأمر يتعلق بحوار بين شخصين أو طرفين متنازعين. ويؤيد هذا أن العديد من الفقرات المجاورة تبدأ بـ “قال”، و”قالوا”، و”قال الآخر”. الجاحظ لا يتكلم باسمه، يضيف الكلام للغير، وهي طريقة عزيزة عليه، وكثيرا ما يلجأ إليها، ليس في كتاب الحيوان فحسب، وإنما في سائر كتبه. وهذا يقتضي منا أن نحترس وأن لا نتسرع في الاعتقاد بأنه يؤمن ضرورة بما يعرضه من آراء، كما أننا، عندما نقرأ رواية من الروايات، لا نبادر بالجزم بأن ما يفوه به أشخاصها يعكس حتما اعتقاد الكاتب. إن كلام شخص روائي يتحدد بميوله ورغباته، وبوضعه الاجتماعي، ويتحدد أيضا بموقعه في السياق العام للرواية، وبدرجة موافقته ومخالفته لكلام الأشخاص الآخرين. وكذلك نتعامل مع راوي الأحداث، أو السارد، فحتى وإن استعمل ضمير المتكلم فإننا لا نبادر باعتباره معبرا عن صاحب الرواية، بل نحتاط ونتعامل عادة مع كلامه كما نتعامل مع كلام باقي الأشخاص.
هناك إذن، في كتاب الحيوان، شخص من أنصار الشعر يزعم أن ترجمة الفلسفة اليونانية لا تستقيم، ولا يخفي احتقاره للمترجمين. وهناك شخص يزعم أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، وأنه لا يستطاع أن يترجم. هل يتعلق الأمر بشخصين أم بشخص واحد؟ من الواضح أن الإطار الذي يرد فيه هذا الكلام إطار مفاخرة ومنافرة، وقد نميل إلى الاعتقاد أننا أمام شخص واحد، فالذي ينصر الشعر (العربي طبعا)، ويعتقد استحالة تمكن المرء من لسانين، لا جرم أنه هو نفسه الذي يعلن أن الشعر مقصور على العرب. ولا جرم أيضا أنه عربي، أو على الأقل منافح عن العرب ومدافع عنهم. ولعمري من يعن له، في إطار المفاخرة بين الشعوب، أن يقصر الشعر على العرب وعلى من يتكلم بلسانهم، ما عدا شخص عربي؟
هذا ما كنت أعتقده، إلى أن تبين لي أن كلام الذي يقصر فضيلة الشعر على العرب لا يأتي في سياق المدح والثناء، وإنما في سياق التحفظ والاحتياط، فصاحبه لا يعتبر الشعر مفخرة أو مزية يمكن أن يعتد بها العرب على غيرهم من الأمم. وعندما يضيف أن الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل، فماذا يقصد؟ يقصد أن العجم لا يستطيعون الاستفادة منه، وبالتالي فإن فائدته مقصورة على العرب وعلى من يتكلم بلسانهم. فهو بهذا المعنى يبخس من قيمة الشعر ويغض من شأنه ويحتج ضده.
لنتمعن في سياق هذا النص وكيفية وروده. لقد قلت إن مقدمة كتاب الحيوان تتطرق لمسألة الكتاب. فالقارئ الذي يفترضه الجاحظ ويتوجه إليه بالقول يعيب الكتب، والجاحظ يرد عليه فيشيد بها ويسهب في الإبانة عن فضلها، فيقول في دفاعه عن الكتاب: “ونعم الذخر والعقدة هو، ونعم الجليس والعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة”. وفي خضم هذا الدفاع، يرد النص التالي مسبوقا بكلمة قال: “فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب، وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها(…) وذهبت العجم على أن تقيد مآثرها بالبنيان، فبنوا مثل كرد بيداد، وبنى أردشير بيضاء اصطخر، وبيضاء المدائن، والحضر، والمدن والحصون، والقناطر والجسور، والنواويس”.
بعد هذا الكلام نجد من جديد كلمة قال: “ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتتفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران، وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد(…) وغير ذلك من البنيان”.
ثم تطالعنا مرة أخرى كلمة قال: “ولذلك لم تكن الفرس تبيح شريف البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء، إلا لأهل البيوتات، كصنيعهم في النواويس والحمامات والقباب الخضر، والشرف على حيطان الدار، وكالعقد على الدهليز وما أشبه ذلك”.
مباشرة بعد هذا الخطاب، نقرأ ما يلي: “فقال بعض من حضر”، وهي جملة غريبة جدا لأن السياق لم يهيء ورودها.. من هو هذا الحاضر، وإلى أين حضر، ومتى، ومع من، وكيف، ولماذا؟ هذا ما نجهله تماما. لكن من الراجح أن الأمر يتعلق بمجلس جمع عدة أشخاص مختلفي الأصول والميول والمشارب، وأنهم خاضوا في المقارنة بين مآثر الأمم ومناقبها. إلا أنه لم يرد ذكر لهذا المجلس في كتاب الحيوان، والحال أنك إذا قلت: “فقال بعض من حضر”، فإن ذلك يستلزم أنك تحدثت عن الحاضرين ووصفت اجتماعهم، وهذا ما لم يحصل إطلاقا في الكتاب. فربما يحق لنا أن نتساءل هل وقع في النص تشويش، وحذف منه كلام قليل أو كثير عن هذا المجلس، وإلا فما معنى ذكر عبارة: “فقال بعض من حضر”؟
على أي حال، لنقرأ ما قال هذا الشخص: “كتب الحكماء وما دونت العلماء(…) أبقى ذكرا وأرفع قدرا وأكثر ردا، لأن الحكمة أنفع لمن ورثها، من وجهة الانتفاع بها، وأحسن في الأحدوثة، لمن أحب الذكر الجميل”. إنه من أنصار الكتب، لا شك في ذلك. فبعد أن قال قائل إن العرب احتالت في تخليد مآثرها بالشعر، والعجم بالبنيان، وبعد أن قال قائل (هل هو الشخص السابق نفسه؟) إن العرب جمعت المنقبتين، فشاركت العجم في البناء وانفردت بالشعر، إذا بصاحبنا الذي حضر يقول إن الكتب أبقى ذكرا وأرفع قدرا. ويدلل على زعمه فيضيف: “والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم”.
وبعد هذه الموازنة بين الكتب والبنيان يستطرد قائلا: “وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة. وكتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس، وديموقراطس، وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب(…) فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له –إلى أن جاء الله بالإسلام- خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام”.
لم هذه الموازنة بين الفلسفة والشعر؟ ما القصد من التأكيد على أن الشعر العربي حديث الميلاد، بينما الفلسفة اليونانية غارقة في القدم؟ لا جدال أن هذا المتكلم يقدم الفلسفة على الشعر ليس في الزمن فحسب، وإنما في القيمة أيضا. فكأن الأسبقية الزمنية تمنح الفلسفة جدارة ومزية واستحقاقا، بينما تأخر ظهور الشعر علامة على طفولته وسذاجته وعدم نضجه. الفلسفة كالشيخ الذي جرب الأمور واستفاد من عمره الطويل، بينما الشعر كالصبي الطائش النزق الذي لا يؤبه لكلامه ولا يعتمد عليه ولا يعتد به. لقد تأخرت نشأة الشعر، وجاءت ولادته بدون سابق إنذار. في يوم ما، ظهر الشعر مع مهلهل وامرئ القيس، فجأة، دون أن يكون قبلهما سابقون. عمر الشعر على أكبر تقدير قرنان قبل الإسلام (أي أن عمره، في عصر الجاحظ، أربعة قرون لا أكثر). وإذا كانت بداية الشعر معروفة محددة، فإن بداية الفلسفة غير مضبوطة، فكأنها شبه أزلية أو نابعة من غور ماض سحيق.
وأخيرا يصل هذا الشخص إلى النقطة المحيرة فيقول: “وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل”.
هذا الكلام الذي ينسب عادة إلى الجاحظ يأخذ الآن بعدا آخر لأنه مضاف إلى أحد أنصار الفلسفة اليونانية. وتبعا لذلك يتغير مدلوله ومرماه. فليس معناه أن العرب وحدهم قادرون على قول الشعر، وإنما معناه أن الشعر لا ينتفع به إلا أهله وذووه، ولا فائدة تجنيها منه الأمم الأخرى، بخلاف كتب العجم: “ولو حولت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن؛ مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم. وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان، حتى انتهت إليها، وكنا آخر من رثها ونظر فيها. فقد صح أن الكتب أبلغ في تقييد المآثر، من البنيان والشعر”.
وعندما يصل إلى هذه النتيجة، ينبري له الشخص الذي ينصر الشعر، فيزري حينئذ بترجمة كتب الفلسفة ويقلل من قيمتها لأن المترجم، كما ذكرنا ذلك سالفا، لا يتوفر على المعرفة التي يتوفر عليها مؤلف الكتاب، ولأن التمكن من لسانين مستحيل. ثم يتعرض بعد ذلك إلى ما يلحق الكتب من فساد بسبب الناسخين، ويتساءل أخيرا: “فكيف تكون هذه أنفع لأهلها من الشعر المقفى؟” (العجيب أن هذه الجملة مسبوقة بكلمة قالوا).
لكن ناصر الكتب، أي ناصر الفلسفة اليونانية، رغم إقراره بمساوئ الترجمة وبما قد يصيب الكتب من تحريف وتصحيف ناتجين عن غفلة النساخ، فإنه لا يرى أن من شأن ذلك أن يقلل من قيمة الكتب: “أليس معلوما أن شيئا هذا بقيته وفضلته وسؤره وصبابته، وهذا مظهر حاله على شدة الضيم، وثبات قوته على ذلك الفساد وتداول النقص، حري بالتعظيم، وحقيق بالتفضيل على البنيان، والتقديم على شعر إن هو حول تهافت، ونفعه مقصور على أهله”.
نستنتج من كل هذا أن هناك تعارضا جوهريا بين الفلسفة والشعر. الفلسفة يمكن ترجمتها فيعم نفعها كل الناس، بينما الشعر لا يتعدى نفعه العرب. وعند التدقيق يتبين أن الموازنة تشمل عدة مستويات، فالتعارض بين الشعر والفلسفة يتطابق مع التعارض بين الشفوي والمدون، ويتطابق مع التعارض بين ما هو حديث الميلاد (الشعر) وما هو غارق في القدم (الفلسفة)، ويتطابق مع التعارض بين العرب والعجم، وخاصة اليونان.
ويمكن ترتيب هذه التعارضات في منظومتين، منظومة الرواية ومنظومة الكتابة. فنجد من جهة اللغة العربية، والشعر، واستحالة الترجمة، والشفوي، والحداثة أو صغر السن، والأصل العربي. وفي المقابل نجد اللغة اليونانية، والنثر، والفلسفة، وإمكانية الترجمة، والتدوين، والقدامة، والأصل غير العربي. في إطار هذا التعارض العام، وفي حوار أو شبه حوار بين شخصين أو أكثر يمثل كل واحد منهم إحدى المنظومتين، تثار مسألة الترجمة.
بقي لنا أن نتساءل عن موقف الجاحظ من هذا الحوار. فإلى أية منظومة ينتمي؟ لنتذكر رده على من يعيب الكتب، بدءا بكتبه هو، وهذا يعني أنه منخرط في منظومة الكتابة وأن موقفه على النقيض من موقف ممثل منظومة الرواية. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فالجاحظ يختفي كعادته وراء أشخاص ينسب إليهم القول في سياق جدالي سجالي؛ إنه حاضر غائب، يوزع الخطاب بين ممثلين لهذا الرأي أو ذاك، ويضن فيما يخصه بالكلام، فلا يقوم بدور الحكم ولا يقول القول الفصل. وحتى عندما يتحدث بضمير المتكلم، باسمه الخاص، فإن رأيه لا يتمتع مبدئيا بأية مزية أو أفضلية، لكونه يتجاور مع آراء أخرى مضادة أو مختلفة. إنه كاتب يبدو غالبا بلا موقع وبلا مأوى.
ثم هناك شيء ينبغي تأمله، وسأكتفي بالإشارة إليه هنا: الجاحظ غير قادر على إنشاء كتاب! قد يبدو هذا الحكم مخالفا للواقع ومجانبا للصواب، فالجاحظ ألف أكثر من ثلاثمائة مصنف.. لكن ما أقصده أنه لم يكن يعتبرها كتبا بكل معنى الكلمة، وكثيرا ما يعتذر لكونه عاجزا عن تأليف كتاب مع ما يستلزمه من تقسيم وترتيب للأبواب وتسلسل للمعاني وتقديم وتأخير. والشواهد على ذلك متعددة، ومن بينها قفزه السريع وغير المتوقع من موضوع إلى موضوع ومن غرض إلى غرض، ومزجه الجد بالهزل. وفي حديثه عن كتبه ما يوحي بأنه كان يرى في الاستطراد نقصا وتقصيرا من جانبه، فيبرره بالرغبة في نفي الملل عن القارئ. ولكن هل سنقنع بهذا التبرير؟ ألا يجوز لنا أن نفترض أنه لم يتخلص تماما من “الرواية”، من “الشعر”، من النقل الشفوي، من الحوار الذي يتم في المجالس والمأدبات، والذي لا ضابط له إلا الرغبة الآنية للحاضرين؟
إن كتب الجاحظ تنتمي إلى المنظومتين الآنفتي الذكر، وهو ما يؤكده بنفسه في تقديمه لكتاب الحيوان، فيقول: “وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيا أعرابيا، وإسلاميا جماعيا، فقد أخذ من طرف الفلسفة”.. إنه يخاطب صنفين من القراء (أي أن كتابه كتابان)، وهو تبعا لذلك يلتفت إلى جهتين، إلى يمينه ويساره، ولا جرم أن يذكرنا وضعه المزدوج هذا بموقع موسى بن سيار الأسواري بين العرب والفرس•
روجيه ألان عبد الفتاح كيليطو 2017-01-24