الرئيسية | شعر | عن راهنية قصيدة اليوم | مبروكة علي
لوحة تشكيلية للفنان المغربي صلاح بنجكان

عن راهنية قصيدة اليوم | مبروكة علي

مبروكة علي:

 

لم يعد الشعر على ما كان عليه ديوان العرب ومفتتح حديثهم ، الحرب التي نسفت المدينة ومحت معالمها وبعثرت تفاصيل الشوارع وذاكرة الأرصفة، نهشت جسد القصيدة و أعادت ترتيب الملامح من جديد وفق معطيات الحرب: (الرصاص/ الجثث المشوهة/ الطريق الطويل للمنفى/ أشياؤنا التي تركناها ولم تتركنا /….).

الشاعر لم يعد “شاعرا ” فحسب ولسان حال الجمال، بل أن خطابَه الجمالي لصالح الموت أكثر من صلاحيته للحياة ودفاعه عنها كخيار، فصار لاجئا و منفيا و شهيدا و معتقلا ومقتولا و جائعا و وجد نفسه أمام مهمات أخرى لم تكن من مهام القصيدة أو كان يمكن للقصيدة أن تكون في غيابها. وأمام فضاعة الحرب و انتشارها الوحشي قَضَت الضرورة التي تبيح المحظورات أن يلبس (الرهيف) عباءة “المؤرخ” و يدون تاريخ إنسانيته المغتصبة، أن يوقظ النار داخل ذاكرة العالم كي لا ينسى، ربما بأدواتٍ تتفارق عن أدوات القصيدةِ من قبل، تصدم وتوجع أكثر

 هكذا يجد نفسه في مسرح الجريمة متورطاً بها، يُعيد الصوت لمن كممت أصواتهم ظلما و يصرخ في محاولة منه لإعادة ترتيب الأولويات وفق ما استجدَ من أحداث وهي غالباً كثيرة ومتسارعة. من منطلق هذا الوعي الضمني والإنساني الثقافي _وهنا أضع الوعي الإنساني سابقا للوعي الثقافي لأن الثقافة التي لا تنبع من إنسانيتنا هي محض هواء وهراء_ والتورط الذي يقع الشاعر فريسته ما لم يكن ليوثق صرخة الوجع فأنه لايخلق شعراً وبالتالي شاعراً!.

ثمة شعر” مختلف” نقرأه اليوم خصوصا عند الشعراء السوريين و العراقيين مع خصوصية كل تجربة منهما، شعر يحاكي الموت والخوف والمنفى و الدمار والحنين، يحاكي الحرب التي تقتل الحياة، يحاول أن يواجهها بدل الاختباء وراء اللغة ومحاولة تجميلها

 يركض تماما مقابلها وكأن القصيدة لم تعد تخاف أن تركض وسط القذائف في ساحة معبأة بالجثث أو حتى أن تركب “البلم” لتختنق وقد شربت ما شربت من الماء الملح.

ثمة جمالية شعرية تنبع من ذاك النبش الوحشي للقبح من خلال تعرية الواقع وكشف ما كنا نداريه بأحكام كثيرة لعل أكثرها بلاهة أن الشعر جمالي وليس مطالبا بتبني “قضايا” معينة في حين أن أي تغير أو ثورة لا يتم ما لم يمر عبر التغير و الفعل الثقافي، نحن فشلنا كعرب مرات ومرات لأننا دائما ما وضعنا الفعل الثقافي ضمن الدرجات الأدنى

قصيدة اليوم رغم حساسيتها تحاول التفلّت من صروف القصيدة التقليدية وتنحاز للسرد، للسيرة، كما لو أنّها تعاني فراغاً في شكلها القديم أو ضيقاً وهي في حالها الجديدة تقدم بديلاً موازياً جمالياً وأكثر فاعلية، لكنه بديل مرهونٌ بالتنظير له وإخراجه من حالة الحالة الفردية إلى النَسق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.