عزالدين بوركة*
علي أفيلال .. 27 كتاباً من دون أن تطأ قدمه عتبة مدرسة
روائي نادر الحصول.
وهو كذلك..!
دقيق في مواعيده لدرجة الصفر دقيقة، يشبه في هذا ذلك الروائي الولود الذي يمتلك من الحكي ‘ربع’ ما حكى العرب “نجيب محفوظ”. تجده دائم الابتسام وبروح الدعابة. بقلب شابٍ ورأسٍ اشتعل بالمشيب. التقيْتُه في إحدى مقاهي البيضاء، خفيف الروح وشفيف الكلام، واضحٌ حدّ السعادة، ورائق المزاج. ممتلئ الخاطر بما جاده الواقع من حكي.
حديثنا الذي جمعني وإياه، استمرّ لما يناهز الساعتين من الحكي والتساؤل والإجابة، لا شيء عنده ليُختَبَأ أو يُكتم، خلف أي جبلٍ كان.
لماذا الرواية؟ ولماذا المَهجر بالذات وليس أي ثيمة أخرى؟ ولماذا المرأة: البطلةً والمحكي عنها؟ كيف وَلَجَ العصاميّ (وهنا الحديث عن فكّ رموز اللغة) إلى براثين الرواية والسرد؟ وكيف له هذا الكمّ الغزير من السرد قصةً وروايةً؟ أسئلة وأخرى لا يسعني الترقين لكتابتها كلها. أسئلة كان لي سِعة الوقت لطرحها وكان له سِعة الخاطر والقلب للإجابة..
في حوارٍ سعيد وجلسة ألطَف من النسيم، جالسنا بعضنا، لا صحفياً/مُحاوِراً يحاور روائيا/مُحاوراً ، بل صديقين من جيلين متفاوتين زمنيا، لا أدبياً.. إنه الكاتب المغربي علي أفيلال.
يتابع بإستمرار النقرّ على زرّ الحاسوب وتقليب صفحات الصحف، لمستجدات الأدبي والكتابة المغربية والعربية.. عن ما يقرأه حاليا؟ كان له أن يجبني: إنه يقرأ باستمرار ودونما انقطاع منذ زهاء سنة، للروائيين اللبنانيين الشباب منهم (الحديث هنا عن السن) والقدامى. جميل هذا أليس كذلك..؟
خائن هو بامتياز، وما الخيانة عنده سوى ذلك التِرحال الجميل والهادئ من بيت القصة القصيرة.. إلى قلاع الرواية. لعلها ألطف خيانة أن تزاوج بين جنسين مُتقاربَين لحدّ الأمومة. يربطهما الحبل السُريّ للحكي والسرد. يخونهما الاثنين رحيلا إلى المقالة، وله الحق في كلّ ذلك.
روائي عصاميّ
يوافق على القول بأن عصاميته هي “عصامية حقّة”، والمعنى هنا؟ واضحٌ بعدَ الإجابة. يوضح قائلاً : “العصامي هو الذي لم يَلج أيّ مدرسة أو مكان للتعلّمِ، له ارتباط بما يُبدع هو فيه”.
عن سؤالِ من أين له تمكّن حلّ الرموز (الكلام عن الأحرف) وهو الذي لم يطأ عتبات المدارس.؟ يقول “تعلمت القراءة الأحرف وأنا في سنّ الشباب، في إحدى محلات الحلاقة التي اشتغلت فيها. ومباشرة بعد تمكني من جمع الأحرف بدأت في قراءة مؤلفات كبار الأدباء العرب من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعباس محمود العقاد وحسين هيكل وغيرهم لا أستطيع حصرهم بالكامل.. وأيضا لشعراء فرنسيين مُترجمة قصائدهم إلى العربية”. روائيين وشعراء وقاصين وكتاب الشذرة الشعرية والفلسفية، كبار. هم هؤلاء الذين بدأ بنصوصهم ولوجاً لعالَم الأدب من أوسع أبراجه النجمية.
روائي كان له كل جمال الحكي واللغة، دونما فتحِ أو تصفحِ أي كتاب، كان ما كان، في النحو والصَرف.
زخمٌ باذخٌ من الحكي
أزيد من سبعة وعشرين كتاباً، مجموعات قصصية وروايات. هي ما أنتجه من عسل السرد، وسوّده من حكي.. نذكر منها( أفعى في الصدر (مجوعة. ق.) 1994، أوراق الصفصاف 1995، ذئاب الليل 2005، رقصات على حافة الموت 2006، أيام من السراب (مجموعة ق.) 2009، الزمورية أنا 2015… إلخ.) ومن الرويات التي تُرجِمة له إلى اللغات الأجنبية، سواءً الفرنسية منها أو الإنجليزية، فلنا أن نذكر بكل حبّ (“شجرة التين” 1996 التي ترجمة إلى اللغة الفرنسية، “الخوف” 2000 ترجمة إلى اللغة الإنجليزية.. وغيرهما كُثُر..). بالإضافة لكون مجموعة من الروايات التي حصدت كماً هائل من الجوائز العالمية في السرد والقص. كما أنها تُدَرّس في مجموعة من الجامعات والمدارس العالمية.
عن كل هذا الزخم والقدرة على الكتابة بشكل مكثف باستمرار، كان لي معه سؤال. قال إنه جاءَ إلى حصون القصّ والحكي، تأثرا بأُلاء الحكواتين في “الحَلْقة”، ذلك الجنس الأدبي الشفوي، الذي يتمتع بكل مقومات السرد، من تشويق وقفلٍ وظرفيات زمنية ومكانية.. إنها جنس قائم بذاته. داخل عالم السرد. وكيف له ألا يتأثر و”جامع الفنا”، ساحته المفضلة وهو ابن مدينتها مراكش، كتابٌ ضخم من السرديات والمحكيات.. جميل هذا لحدّ الفرح.
المرأة والمهجر
تمتاز سرديات والخصائص الأسلوبية لدى علي أفيلال بتعدد الشخصيات، وكذلك تعدد الثيمات والمواضيع، وكذا التعدد على مستوى اللغة والأسلوب والاحتفال بالحوار والحوار الداخلي.
حامل هو لهمّ المرأة في المهجر، ليجعل منها دوام الحكي بطلةً لمسروداته وثيمة غالبة الحضور. محاولا تتبع خطوات تلك المرأة المغربية المهاجرة إلى تلك الديار الغريبة، ورصد مشاكلها وهمومها.. إن كل رواية هي بحث ميداني سيكولوجي وسوسيولوجي وبسيكولوجي عنده، إنها نقلٌ للواقع بمهارة حكيّ منقطعة النظير، في محاولة باذخة الاشتغال. بهذا يختلف كل الاختلاف عن باقي الروائيين الذين حاولوا عبر أقلامهم الحاكية نقل هموم المهاجر، غير أنهم راصدون بشكلٍ عام هموم الرجل، متجاهلين الأنثى التي لاح بها الزمن خارج الوطن. وما يؤكد كلامنا هذا ما قال ذات حوار شفاف “معظم الروايات العربية التي قرأت أجد البطل دائما هو الرجل الذي يهيمن على الأحداث ويسيرها حسبما يتلاءم، وما فيه كينونته من الهيمنة على المرأة. وأنا عكس هذا التيار”. تاركا هو للمرأة البطلة، كل حقّ وحرية السرد، مستعملا ضمير المتكلم، ذلك الضمير الذي يجعلك، أنت القارئ العاشق، تلج لعالمها المحكي، وتتغيّر بتغيّر نفسيتها داخل القصة. إنه أسلوبٌ بارق الحكي داخل عالم السرد الروائي.
غير أنه، ولَشيء جميل هذا، كان له الانتقال في ثيمات الحكي من “مهجر” إلى “التراث الشعبي”، ليعالج تلك الثنائية الميثولوجية “الإنس/ الجان”، وخاصة في ثلاثيته (والآن يا هند، وكر العنكبوت، والوجع).. وهذا هو الروائي الحقيقي، ذلك الذي لا يظل حبيس الثيمة الواحدة. والفكرة الواحدة. إنه روائي نادر الحصول.
السيرة الذاتية
لِمَ لا نجد لعلي أفيلال سيرة ذاتية، وهو الذي لاج عالم الحكي منذ عقود، فشاخ فيه وشمِخَ، قال ببسمة خفيفة الظل، أنه لم يصل بعد للمبتغى ليجعل منه سردا ذاتيا، إنه ما زال طالبا في مدرسة الحكي.
وعن كتابه مع الناقد نور الدين صادوق “الرواية والحياة”، ذلك الكتاب الذي حاول فيه في حوار طويل رصد ووضع النقط على مسيرته الأدبية، قال لإنه ليس سيرة ذاتية بالمعنى الحقيقي ، يكفي النظر للعنوان الجنس الأدبي للكتاب ليتضح المعنى: “نبذة من حياتي”.
السرد والنقد
عن سؤال النقد، ولمَ اسم علي أفيلال قليل التداول بين النقاد المغاربة، أجاب أنه لا يكتب لنقاد اليوم. وما معنى هذا؟ إنه -كما قال- يكتبُ لناقد الغد، ذلك الناقد الذي يعرف قيمة المُنجز. لا ذلك الناقد الذي يتحلّق كالآخرين حول الأسماء المُكرسة عينها. قال ذات حوار: ” أنا لا أكتب لناقد اليوم، لكني أكتب للناقد النزيه الذي سيأتي من بعدي”.
الرواية سينما
علي أفيلال، المقيم بباريس منذ سنة 1968، بدأ الكتابة منذ ذلك الحين، ولم تر كتاباته الروائية ضوء النشر إلا في سنوات التسعينات من القرن الماضي. غير أن عددا من قصصه ومقالاته كان لها حق النشر في مجموعة من الصحف المغربية، في زمن قبل التسعينيات، صحف نذكر منها بكل بسمة (الإتحاد الاشتراكي، القدس العربي، العلم، الشعب الجزائرية… إلخ).
كل هذا الحكي رائع، كان لي عنه سؤال، لما لم يلج أشرطة السينما، أو التلفزيون؟.
مشكل الرواية المغربية والسينما، يو تلك العقلية الأجنبية (المتفرنسة) التي يرى بها المخرج المغربي الواقع المغربي، وعدم إطلاعه على الزخم الهائل للروايات المغربية التي ترصد هذا الواقع، فالرواية ما هي إلا نقلٌ للواقع وتمريره عبر صور سردية ومِخيالية. يقول. نعم وهي كذلك.!
وقد أضاف حاكيا عن خلافات مع بعض المخرجين الذين تطاولوا على مجموعة من رواياته دونما أي استشارة منه، أو مراسلة قانونية. وهذا بالفعل ما جعله يدخل في مجابهات مع بعضهم.. كما حدث مع أحد المخرجين المغاربة ومحاولة تشخيص رواية “ميلودة” دونما علمه، هو صاحبها. غير أن هذا غير مُهم ولا يحدّ من إمكانية تناول رواياته من قبل المخرجين السينمائيين في أشرطتهم، سواءً المُتلفزة أو السينمائية. كما هو الحال مع بعض روايته الأخيرة، التي ستلج قاعات السينما قريبا.
هذا علي أفيلال من مقص الحلاقة، إلى مقص السينما. ومن شخوص الواقع إلى شخوص الحكي والمِخْيال. روائيّ عصاميّ نادر الحصول.