سعيد الريان:
استمرارا منها، تعمد الموجة، إلى إعادة نشر مجموعة من المقالات الهامة، لمجموعة يسيرة من المفكرين المغاربة والمشارقة، غاية في إعادة تسليط الضوء حول تجربتهم وعطائهم. هنا نقف عند مفكر من العيار الثقيل، من عيار الزمن الصعب، أو صراع لغتين في لسان واحد، كاتب ومفكر يكتب بكلا يديْه اليسرى واليمنى، يكتب صباحا مساءً، ويقرأ صباحا مساء، متنقلا بين لغتين (الفرنسية والعربية)، بين تراثهما ومعاصرتهما، بين قديمهما وجديدهما، محدثا قراءة جديدة للتراث الأدبي العربي عبر مقارنة داخله وخارجه مع الأدب العالمي الفرنسي منه بالخصوص. إنه بهذا يكون من المجددين القلائل الذين يعرفهم تاريخنا الفكري.
إليكم المقال الثاني:
عبد الفتاح كيليطو
كان التوحيدي يكره متّى بن يونس، حتى قال عنه إنه « كان يملي ورقة بدرهم مقتدري (نسبة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله) و هو سكران لا يعقل، و يتهكّم، و عنده أنه في ربح، و هو من الأخسرين أعمالاً، الأسفلين أحوالا »(1). ينبغي التعامل مع هذا الكلام بشيء من الحذر، فالتوحيدي أكبر هجّاء عرفه الأدب العربي، بل يُمكن اعتباره أسلط لساناً من الحطيئة. إلا أننا عندما نقرأ ترجمة متّى لـ فن الشعر، لا نملك إلا أن نميل إلى ما يقوله أبو حيان عنه. إنها ترجمة ركيكة منفرة، و كلامها يكاد يكون شبيهاً بهذيان المخمورين و الموسوسين.
لا يغفر أحد اليوم لمتّى بن يونس إقدامه على ترجمة « طراغوديا » بالمديح و « قوموديا » بالهجاء. و مع ذلك يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت ترجمة أخرى متاحة له آنئذ؟(2) ثم لا ننسَ أنه ترجم عن السريانية و ليس عن اليونانية(3)، فلا نستبعد أن يكون سوء فهم كتاب أرسطو قد بدأ مع المترجم السرياني(4).
في كتابه ساعات حاسمة في تاريخ الإنسانية، يروي الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ أحداثا تاريخية قد تبدو تافهة في حد ذاتها، و لكنها هامّة جداً و خطيرة لما تمخض عنها من نتائج. فمثلا قبيل معركة واترلو، كان نابليون ينتظر النجدة من أحد ضباطه، لكن هذا الأخير ضلّ الطريق و لم يصل إلى ساحة المعركة إلاّ بعد قضي الأمر و حلّت الهزيمة بالإمبراطور. هكذا تغيّر وجه أوروبا بسبب شيء سخيف، ضابط ضلّ طريقه. و ربما يمكن أن نضيف إلى الساعات الحاسمة التي رواها ستيفان زفايغ، تلك التي شرع فيها متّى بن يونس في نقل فن الشعر لأرسطو إلى العربية.
و لعلّ من الطريف أن نذكّر بما كتبه عبد الرحمن بدوي في هذا الشأن: « يخيل إلينا أنه لو قدر لهذا الكتاب، كتاب فن الشعر لأرسطو، أن يُفهم على حقيقته و أن يستثمر ما فيه من موضوعات و آراء و مبادئ، لعني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، و هي المأساة و الملهاة، منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، و لتغيّر وجه الأدب العربي كله »(5). يفتقر الأدب العربي إذن إلى الفنون الشعرية العليا، و من هذا المنظور فإنه يتصف لا محالة بالدونية و النقص. و الظاهر أن هذا ما كان ليحدث لو تُرجم فن الشعر ترجمة أمينة و جيّدة؛ فلو لم يخفق متّى بن يونس في ترجمته، لتغير وجه الأدب العربي كله… كان من الواجب أن يتغيّر، إلا أنه، و يا لسوء الحظ، ظل على حاله، لسبب تافه، لعِلّة كان بالإمكان تلافيها.
هكذا، و بجرة قلم مرير لا يعرف السخرية، يتمّ التشطيب على عشرة قرون من الأدب العربي. و لا يكتفي بدوي بذلك بل يضيف: « و من يدري ! لعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغيّر طابعه الأدبي كما تغيّرت أوروبا في عصر النهضة ! »(6). وجه الأدب العربي، وجه الحضارة العربية: كاد هذا الوجه أن يمسخ و يمحى؛ كاد العرب أن يفقدوا هويتهم و عروبتهم، و أن يصيروا أوروبيين. بل إنهم كادوا أن يتحوّلوا إلى أوروبيين قبل الأوان، أي قبل الأوروبيين ! فإذا كان هؤلاء قد حقّقوا نهضتهم ابتداءً من القرن الخامس عشر، فإن أولئك كان بإمكانهم القيام بالنهضة نفسها ابتداءً من القرن التاسع، أي ستة قرون قبل الأوروبيين.
و إذا استرسلنا بعيدا على هذا النحو و ذهبنا بالفكرة إلى أقصى حد، لاستخلصنا ما يلي: لو فهم العرب جيداً فن الشعر، لما كانت هناك ضرورة للنهضة الأوروبية؛ فما الداعي لأن يقوم الأوروبيون بنهضة يكون قد سبق للعرب أن أنجزوها و اضطلعوا بها؟ كل ما في الأمر أنهم سيستيقظون ذات يوم فيجدون العرب قد حقّقوا النهضة منذ قرون، فلا يسعهم، و الحالة هذه، إلا تقليدهم و التتلمذ عليهم. هكذا فإن ترجمة متّى الشنيعة عادت بالويل لا على العرب وحدهم –إذ حرمتهم من أن يكونوا أوروبيين- و إنما أيضاً على الأوربيين لأنها أخّرت نهضتهم لعدة قرون. كل هذا حصل بسبب كلمتين اثنتين كان مصير العالم أجمع متوقفاً على فهمها !
و لكن لم لا نقول إن العرب مدينون بالكثير لمتّى بن يونس؟ فربما قد يكون أنقذهم، بفضل رداءة ترجمته، من الخطر العظيم الذي كان يتهدّدهم. فلولاه لابتعدوا عما ألفوه و تعوّدوا عليه من فنون و أنماط أدبية، و لأقبلوا على دراسة الأدب اليوناني من أجل تقليده و النسج على منواله. بفضل متّى بن يونس و خيانة ترجمته إذن، تمكّن العرب من أن يظلوا يعتقدون أن شعرهم هو الشعر و لغتهم هي اللغة. لقد أنقذهم هذا الترجمان عن غير عمد، من دون أن ينوي ذلك أو يخطط له، و من دون علم بما يفعل.
من دون علم؟ هل حقاً كان يجهل ما يقصده أرسطو بالطراغوديا و القوموديا؟ و من يدري ! لعله كان على علم تام بدلالتهما، و لعله تعمّد ترجمتهما بالمديح و الهجاء… لحاجة في نفسه(7).
هذا أمر لا يمكن التأكّد منه على أية حال، لكن ما لا شك فيه هو أن متّى لم يكن ليعلم أنه مع مرور القرون سيتغيّر شيء ما في العالم، و سيغدو العرب في حاجة إلى نقل الآداب غير أدبهم، و التكلّم بلغات أخرى إلى جانب لغتهم.
——
(1) الإمتاع و المؤانسة، ج 1، ص 107.
(2) يمكن في هذا السياق اعتبار حالة رفاعة رافع الطهطاوي عندما حاول تحديد المسرح: « و لا أعرف اسما عربيا يليق بمعنى ‘السبكتاكل’ أو ‘التياتر’، غير أن لفظ ‘سبكتاكل’ معناه منظر أو منتزه أو نجو ذلك، و لفظ ‘تياتر’ معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب و محله، و يقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خيالياً، بل الخيالي نوع منها » (تخليص الإبريز، ص 207).
(3) و هو ما عيّره به أبو سعيد السيرافي في المناظرة الشهيرة التي جرت بينها: « أنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلّم اللغة اليونانية و أنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ […] على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟ » (أبو حيان التوحيدي، الإمتاع و المؤانسة، ج 1، ص 111).
(4) عن الترجمة السريانية التي لم تصلنا منها إلا أسطر قليلة، أنظر فولفهارت هاينريش، الشعر العربي و الشعرية اليونانية (بالألمانية)، ص 112 – 118.
(5) عبد الرحمن بدوي، « تصدير عام » لكتاب أرسطوطاليس، فن الشعر، ص 56.
(6) نفسه.
(7) قد يصلح هذا الافتراض موضوعا لرواية !
* من كتاب لن تتكلم لغتي