بقلم: د. مراد القادري*
لا ضفافَ لمغامرات عبد الرزاق بوكبة، ولا حدودَ لمفاجآت سليل ولاد جْحَيْش، الذي امتهَن، فيما يبدُو، حِرفة إبهارِ القارئ، بكتاباتٍ قادمةٍ من مواقعَ إبداعيةٍ مختلفة. فهو شاعرٌ وروائي ومسرحي وإعلامي. وهو قبل كل ذلك حفيد وردية ومريم، الجدّتين الأمازيغة والهلالية اللتين تتجسّدان في أعماله الروائية: جلدة الظل (2008) وندبة الهيلالي (2013) زيتونتين كريمتين، لا تكفّان عن العطاء المتواصل والموصُول.
هو ذاتُ العطاء الذي قادَ الممارسة الإبداعية لعبد الرزاق بوكبّة نحْو تجريبِ أجناسٍ كتابية مختلفة، مؤكّداً بذلك حُرّية الكتابة ورحابة أفقها. فالإبداعُ لا يقبل بأيّ ديكتاتورية ولا يؤمن بالتصنيفات التي انتفض ضدها بوكبة ذات حوار: “لستُ مهووساً بالتّصنيف وأنا أكتبُ لأنني أصْلاً أكتب هروباً من المنطق الأحادي وعقلية التصنيف، وهوسي الحقيقي هو: هل ألامسُ روح الفن والجمال في كتابــــاتي، بل حتّى في صمتي”. (كتابه عطش الساقية، ص 311).
على أنّ عبد الرزاق بوكبة، بالرّغم من كوْنه، امتطىَ صهوةَ التجريب؛ واختبارِ الكتابة من مَواقعَ أدبيةٍ مختلفة، فإنّ الشّعر ظلّ نقطةَ انطلاقته الأولى وحُبّـَه الدفينَ الذي يعودُ إليه كلّما أعياهُ السفرُ في براري الأجناس الأخُرى.
نذكرُ أنّ المغامراتِ الإبداعية الأولى لبوكبة انطلقت في حلّة الشّعر عبر ديوانه من دسّ خُفَّ سيبويـــه في الرّمل ؟ سنة 2004، وعلى الرّغم من أنّ إقامتـَه في كنفِ أجناسٍ أخرى، أثمرت كتاباتٍ نثريةً عديدة، فضلاً على انخراطِه في الممارسة الصحفية وتقديم برامج إذاعية وتلفزية ثقافية ناجحة، إلا أنّ الشّعر سيظلّ هويّته الأثيرة وحبّه المفضّل الذي يُعلنُه علينا كلّ مرة… كما حدث سنة 2008، إذْ بعد تجوالٍ نثريّ شفيف، عاد بوكبة إلى الشعر محلّقاً بـ”فصول الجبة”، على هامش كتابه السردي أجنحة لمزاج الذئب الأبيض….
تلك هي عاداتُ عبد الرزاق بوكبة: تنويعٌ في أجناس الكتابة، وحرّية في المرور بين درُوبها وشوارعها دون الاحتكام لإشارات المنْع والتنبيه. وهو التـّنويع الذي يصْدرُ عن وعْيٍ تامّ بالمقتضيات الجمالية والفنّية والفكرية؛ التي تظلُّ هي ما يوجّهُ بوصلة الكتابة، ويجعلُها طليقة، متحرّرة من استبدادية الجنس الأدبي. هذا، علاوة على أنّ بوكبة في الشعر لا يضعُ جانباً تجربته الروائية. كما أنه لا يبدُو، في الرواية، بعيداً عن مشروعه الشعري. و هو في كِلا النّمطين الكتابيين نجحَ في خلْق لغته الخاصة، وفي بناء؛ من خلال الحوار بينهما؛ جسر للتواصل المُثمر بين الشّعر والنثر والانتصار في كليْهما للعُمق والكثافة.
في تجربته الزجلية الجديدة يبلل ريق الماء/ منشورات دار فيسيرا، لنْ يخونَ بوكبة أفقَ انتظار قارئه فحسب، ذلك المتلقي المسكين، الذي كلّما خمّن الشّعر، فُوجئ بالنثر يخرجُ من طاقيته. وكلّما خمّن النثر، فاضَت على أكفّه أنهرٌ من عَسل الشّعر ومائِه. ذلك أنّ جديدَ بوكبة الشّعري، هذه المرّة، جاءَ ممتطياً ذلك الصّوت الأمُومي، محمُولاً على لغة الطّفولة الأولى، التي بها ناداه أصحابُه في اولاد جحيش، وبها بنىَ الطفلُ أحلامَه وعبرها اكتشفَ ذاتَه ومُحيطه والعالم. إنها اللـّغة التي تُعيدُ للفرد الإحساس بالفرح والتّغطرس ، بحسب جمال الدين بن الشيخ ( مواقف، العدد 66، شتاء 1992، ص 14 ).
بهذه اللغة، انكتبَ ديوانُ يبلـل ريق الما، و بها سَعى الشّاعر عبد الرزاق بوكبة أن يمْنحَنا من خِلال صُورها واستعاراتها، مجازاتها وتعبيراتها لحظاتٍ من الدّهشة والبهجة الشعريتين، لنكتشفَ العالم والوجودَ بعيونِ لغةٍ مافتئت تُولدُ من مُخيّلتنا وأوجاعِنا. في يبلّل ريق الما، لا يكتفي عبد الرزاق بوكبة بالعودة إلى الشّعر فحسب، بل هو يعودُ إليه، عبر ممرّاتِ بيته الأول الذي سكَنه وحلم فيه….يؤوبُ إليه من بوّابة الكلمة الدّارجة في اللّحظة التي تنجحُ فيها، هذه الكلمة في طَراوتها، أنْ تمنحَنا لحظاتٍ من الحلم والعـــــــــُــــــمق والجمال، من خلال انفِصالها عن معانيها المرتبطة بالتخاطُبِ والتواصُل اليوميين، لتحتضنَ دلالاتٍ سياقيةً مخالفة لدلالاتها المعجمية، ما يجعلُها من ثمّ دارجةً إيحائية ًمنذُورة لتقديم رؤية الشاعر للذّات وللعالم ولحالاتٍ جمالية مُعبّرة عن الزمان والمكان التاريخيين.
ينخرطُ ديوانُ يبلل ريق الما ضِمن شعر الشذرة، تلك التي نُعتت بأنها “خِطاب المستقبل”. انخراطٌ أجِدُه على قدر كبيرٍ من الأهميّة الشعرية، لكوْن قصيدة الدارجة أو العامية في ربوع مغربنا الكبير، قليلة المغامرة والتجريب. إنها في غالبها الأعمّ محكُومةٌ بذاكرة الأسلاف، لذلك يكونُ استثمارها لفنّ الشذرة، فرصة لاجتراح كتابةٍ مُغايرة واختبارِ الشّعر المسْكُون برُوح الســــّــؤال والقلق، أليستِ الشذرة كِتابةٌ معصورة من دمِ القلق: قلقُ الفرْد في علاقاته بذاته، بالطبيعة، بالكون وبالآخرين….؟
ولنا أنْ نتساءل: ماذا تضيفُ الشذرة لشعر الدارجة ؟
تتيحُ الشذرة الاحتفاءَ بالبياض والفرحَ بالكتابيّ داخل ممارسةٍ شعرية ضاجّة بالشفويّ و المقُول…
تتيحُ بناءَ إيقاعٍ جديد، مغاير و مخالف، ضِمن ممارسةٍ شعرية أنهكَـــــــــها الوزن واستنزفتها القافية…
تتيحُ الشذرة، قبل هذا وذاك، تلْقينـَنا الكثافةَ اللاّزمة للكتابة داخل ممارسة شعرية يفيضُ فيها كأسُ العبارة وتضيقُ الرؤية.
والحقيقة أنّ كتابة الشّذرة عند عبد الرزاق بوكبة ليست وليدة ديوان يبلل ريق الما، ذلك أنّ الشذرة كثيراً ما وجدناها مُتسلّلة إلى نصوصه الشعرية و النثرية على حدّ سواء. فديوانُه من دسّ خف سيبويه في الرمــــــــل؟ يحفلُ بالكثير من الشّذرات التي نعثرُ عليها طيَّ نصُوصٍ ذاتِ نفسٍ مقطعي متشظٍ، ما أشّر على ذاكرة متنطـّعة، تحاصرُ الشاعر وتقتحمُ خلواتـِه وصلواته. يـــــــكتبُ في مقطع موسوم ب لا إله إلا الله :
” غير أنّه بعد التحية يركن إلى أمنية ألا يدخلَ الإمام، فيبقى مع الله في بيته” ( ص 39).
وفي النثر، يمكنُ التـّمثيلُ بكتاب عطش الساقية، الذي يحفلُ ببعض الشذرات، وخاصّة في الفصل الموسُوم ب على هامش القصة . كما هو الحال في الشذرة المعنونة ب تحوّلات سمكة:
” أهدى لحبيبته الحزينة سمكة ملونة بالفرح، فتبادلتا المشاعر: حزن في قلب السمكة وفرح في قلب الحبيبة. فاجأ الطوفانُ المدينة فتبادلتا الموت والحياة. جفّ الطوفان فاشتركتا في التعفن و العراء. ( ص 228 ).
إذا كانت الشذرة تشتغلُ بشكلٍ متقطّع وغيرِ مُنتظم في كتابات بوكبة الشعرية والنثرية، فإنّها في يبلل ريق الما تصيرُ سيدّة البياض. فهي تحتلّ الديوان من مُفتتحِه إلى مختتمه. بها يوقّع الكاتب هويته الجديدة : شاذر . وبها يقتعدُ كرسيّاً داخل مملكة الكتابة التي نُعتت بأنها تجمعُ بين الفلسفة والشعر، بين العقل واللّاعقل، بين الشعور واللاشعور ، وبكونها تنتصرُ للشكّ والحيرة والقلق.
°°°°°°°°
يتركّبُ ديوان يبلل ريق الما من كُتيّبين شِعريين، لكلّ واحدٍ منهما عنوانُــــــه وإهداؤه الخاص، الذي يحرصُ الشاعر على توقيعه باسمه الأول: عبد الرزاق مرفوقاً بعنوانِ بريده الإليكتروني abdezak@hotmail.com. توقيعٌ وبريدٌ يُضاعِفُ من حضورِ الاسم الشّخصي للمؤلّف، ويعيدُ صياغةَ وضْعيته الاعتبارية كذاتٍ كاتبة، ما انفكت تبصمُ بتوقيعِها الشّخصي ما تنتجُه من أعمالٍ تترواحُ هويّتها الإبداعية بين الشعر والنثر و… الشذرة، فيما هو يهْجسُ بإيقاع حضُور الذّات في الكُتيّبين الشّعريين معاً. ذاتٌ متعطشة إلى ماءِ الكتابة وصحن الحروف. ذاتٌ واحدة. تحملُ نفس الاسم: عبد الرزاق. على الرغم من كونها تتلبّسُ صوتَ المتكلّم في الكتيّب الشّعري الأول، بينما تتقنّعُ وراء صوتِ الغائب في الكتيّب الشّعري الثاني.
يسِمُ عبد الرزاق بوكبة الكِتابَ الأوّل من الديوان بـ نشرب من كاس الرّيح، فيما يسمُ الثاني بـ يَاكل من صحن الجوع . هكذا، نكونُ إزاء ثلاثة عناوين: واحد مركزي، هو يبلل ريق الما، الذي يتصدّر الغلاف، فيما الآخران فرعيان.
والواقع أنّ هذه العناوين التي وسمَت الديوان وارتضت أنْ تعتليَه كُلّاً أو جزءاً، متبدّيةً مرةً كدالّ مركزي يبلل ريق الما، ومرة كدالّ فرعي: يُشرب من كاسْ الريح وياكل من صحن الجوع، ليست سوى شذرةٍ وردَت في مُختتم الديوان:
يبلـّل ريق الما
يُشرب من كاسْ الريح
ياكل من صحن الجوع
تفتحُ هذه الشذرة، التي قام الشّاعرُ بتقطيعِ أوْصالها وتفريقِ دَمِها على مفاصِل العمل، أعْيُنَنا على السِّمة الفنية والجمالية والرؤيوية للديوان. إنها سِمة الاستحالة والعبث واللاّجدوى التي تسري روحُها في كافة الشّذرات والمقاطع.
تهدفُ استراتيجية الشّاذر، من وراء انتخابه لهذه الشذرة، إلى خلقِ بؤرة دلالية، تخترقُ وتكثّف مضْمونَ التجربة الشعرية، التي لا يمكنُ استغوار ُكنْهها إلّا عبر إعادة بناء العلاقة بين المركزي: يبلل ريق الما و الفرعي: يُشــــــــــرب من كاسْ الريـــــــــــــح وياكل من صحن الجوع، لتكتملَ الغِواية التي يستدْرجُنا إليها الشاذر.
والعناوين الثلاثة المعيِّنة للدّيوان لا تكتفي بالأدوار التقليدية المسنُودة لجهاز العنْونة: فهي ليست متواليتَه اللِّسانية الأولى فحسب. كما أنها لا تكتفي بفِعل التّسمية فقط، بل وظيفتُها تتجاوزُ ذلك… إنها عناوين تعملُ على تعْيين المضمُون، فيما موقعُها في آخر الكتاب نِداءٌ صريح بوصْلِ ما تفرّق من الديوان وجمْعه وتضْفيره على إيقاع الفراغ والمفارقة والهباء. ذاك أنها تخلقُ وحدةً دلاليةً يسري أثرُها من بداية العمل إلى نهايته، وتقوّي الوشائج بين الكتيّبين الشّعريين وتُسهمُ في بناء الرمزية الشعرية والإيحائية لديوان يبلل ريق الما. فيما الاختيارُ الأخير يبــــقى للــــــقارئ: شـــظية كأسٍ …أم شظيــة صِحن ؟.
من جهة أخرى، يثيرُ اصطِفاء الشاعر لهذه الشذرة، التي جاءت أشطُرها الثلاثة وفق صِيغةٍ فِعلية، أكثرَ من علامة استفهام. فقد جرتِ العادة، أن يتمّ، في محْفلِ العنونة، تفْضيلُ الجُملة الاسمية وتشغيلُها بانتظام. غير أنّ بوكبة؛ الذي عوّدنا أنْ يكونَ مع الفِعل و فِيه، اخـــــــــــــتارَ أنْ ينتصرَ للجُملة الفعلية وأنْ يحطّمَ بها الهيمنة الاسمية ويوقّف زحْفَها واحتكارها لمحفل العنْونة.
وبالجملة، فإنّ انشغال بوكبة بالعنْونة يكشفُ الوظائفَ الشعرية والإشارية التي يسنِدُها الشاذر لهذا المحفل، كي يضيءَ النصّ ويبْني دلالته الفنية والرؤيوية.
على أنّ العنْونة لا تكفّ عن السّريان داخل يبلل ريق الما. فالشّذرات الواردة في كلا الكتيّبين الشعريين تـرِدُ وقد اعتلتْها عناوينٌ صُغرى، سعَت إلى وسْمها وتسْميتِها وتهييء شرُوط حَسنة لاستِقبالها. عناوينٌ تنتقلُ بين الخاص والعام. ففي نشرب من كاس الريح، يحتفِي بوكبة بشعرية الخاص وذلك من خلال تجديد التّعريف بالظواهر والحالات في انتمائها الإنساني والمطلق، وإعادة مُساءلة هويّتها في لحظاتِ انفصامِها وتداخلِها الخاصّيين بذات الشاعر. تنبري شذرةٌ للتعريفِ ب التداخل الخاص على النّحو التالي:
نتي تبردي/ وأنا نعطس/حنا واحد/ بزوج ارزاق
أما الانفصام الخاص، فهو:
نسيت روحي في السرير/ كانت تحلم بيك/ وخرجت باش نتلاقاك/ ماعرفتنيش/رجعت نجيب روحي/لقيتك راقدة ف سريري/ تبوسي فيّ/ وتحلمي ما نجيش/
في هذا الكتيّب، ينجحُ بوكبة في استثْمار اللّغة الدارجة ليُعيدَ بها تسميةَ الوجود، ليكتسبَ معانيَ شعريةً وجمالية مُفارقة تبعثُ على الدّهشة والقلق. ينحتُ الشاذرُ قاموساً جديداً…ينتصرُ فيه لكل ما هو خاص، وينأى به عن العام والشّائع والمبتذل، ما يتيحُ للدارجة أنْ تلتقيَ، عبر الشذرة، بأدبيّتها وشعريتها الخاصّتين.
ثمّة تشديدٌ على تيمة الكتابة في يبلل ريق الما. تشديدٌ نلمسُه من عتبة إهداء الكتيب الشعري يشرب من كاس الريح، الذي يأتي على النّحو التالي:
قطرة إهداء
إلى عطش الكتابة- الماء
فلا نعلم ما لقطرة التي يعْنيها الشّاذر: أقطرة الماء…أم قطرة الحبر؟ منذ هذا الإِمْكان القرائي الواعد الذي تمنحُنا إيّاه عتبةُ الإهْداء، تتعزّز الدّوال ذاتُ الصّلة بفضاءِ الكتابة وعوالمها. نـُورد بعضاً منها :
التوطئة، الكاف،النون،الريشة،الحرف/حرفي،الإعراب،الورقة،السطر/سطري،
القراءة،الكلمة،القاموس،سيرفانتيس،نيتشه،قصيدتي،لكلام، ابن تيمية….إلخ
للكتابة في يشرب من كاس الريح ملمحان مائزان: السفر والتمرد. فبالنسبة للملمَح الأول، تتبدّى الكتابةُ بما هي رديفٌ للرّحلة المستمرّة ولاستكشافِ المغاير والمختلف. إنها سفرٌ جواني، بها نتسلّق سدرة الرّوح، لنقفَ على الأسرار التي تسكُننا ونسكنها. يتساءلُ بوكبة في شذرة:
علاش كلْ ما نسافر نكتب؟ / علاش كل ما نكتب نرجع لعتبة بيتي/ ونحلم نسافر؟
بينما يتجسّدُ الملمَح الثاني في انْضواء الكتابة، التي يؤمنُ بها بوكبة، تحت راية العِصيان والتمرّد. أيْ في توْقها لتكُون كتابةً حرّة، جديدة ومتجدّدة، ترفضُ القواعد والإملاءات، التي تحدُّ من شغَبها وسفَرها في اللاّممكـــــــــــــــــــــــــــــن والممنُوع :
نسوق وسط الورقة/ بلا (كود) / نصدم النظريات / ونطيحها شرطي … شرطي.
وفي شذرة أخرى، لا يجدُ الشّاذر أوْفى من الحرف، قرينِ الكتابة وصِنْوِها، ليأتمنه على وصيّته:
يا حرفي/ كِنموت/ ماتغسلنيش/ ماتدفنيش/وحكيلي ع اللي يقراك.
تيمة الكتابة تجدُ مجراها،كذلك، في الكتيّب الشعري ياكل من صح الجوع. بل إنّ الشاذر يختارُ عن قصدٍ أنْ يجدَ القارئُ نفسَه، وهو ينتقلُ من كأس الريح إلى صِحن الجوع، محاطاً بذات الأجواء التخييلية والدلالية والرؤيوية التي نسجتِ العملَ الشّذري منذُ بدايته. ولتأكيد هذا المسعَى، يفتتح الشاذر صِحن الجّوع بشظية شعرية وسمها ب مفاجأة. جاء فيه:
شي حروف مايتكتبوش في لوحة المفاتيح، وهو حزين، وحابْ يكتب شي نص أسود، تجنب الكلمات اللي فيها ذيك الحروف، صاب روحو… كاتب نص منقط بالابيض.
في ياكل من صحن الجوع، يواصلُ عبد الرزاق بوكبة الحفــْـــــرَ عن الخفيّ والسرّي، والسّعيَ نحو استخراجِ المعنى من اللاّمعنى من خلال تفكِيك الأضداد والثنائيات، كما في شذرة معاناة، حيث الصّراع بين الكلمة والصّمت :
الكلمة اللي يقولها ماتوصلش، يغنيها ماتوصلش، يكتبها ماتوصلش، يرسمها ماتوصلش، قرر يترجم كلماتو للسكات. عيطلو القاضي، راك تقلق الناس بالهدرة.
أو كما في شذرة تمرد، التي تعيدُ الإلماحَ للصّراع الأبدي بين الشاعر والكلمة، في لحظة عِصيانها وتمنّع مَعناها عن الحضورِ و المجيء إلى حضرة الكتابة:
هربولو النقط م حروفو، رجّعهم، هربولو لحروف من كلماتو، رجعهم، هربولو كلماتو، رجّعهم، هربولو لمعاني من كلماتو، قطّع ورقتو، وكسّر ريشتو، رجعولو.
على هذا النّحو، تتقدّمُ التجربة الإبداعية الجديدة لعبد الرزاق بوكبة: جمّاع شذراتٍ وشظيات وجيزة… خطرات وشطحات أنيقة، تعكسُ تأمّلاتٍ شعريةً وفكريةً حول الذّات والوجود والحياة. وهي وإنْ تمظهرت مُنفصلةً… مُستقلة…ممزّقة ومتفرقة عن بعْضها البعض، إلّا أنّها، في العُمق، تكْشفُ عن خَطْوٍ مُشترك نحو بناءِ أفق فنّي ورؤيويّ ودلاليّ خَصيب.
يفتحُ يبلل ريق الما لشِعر الدارجة، في مغربنا الكبير، سماءً أخرى، ويمنحُ لقصيدة الزّجل نفَساً شعرياً، تثري به خلفياتِها ومرجعياتِها الفنية والثقافية، وتعزّز شعريتَها وأدبيتها. به تتوطّنُ كتابةُ الشّذرة داخل القصيدة الزجلية الحديثة، فتنقلَ إليها كافة الخصائص الفنيّة والسّمات الكتابية التي توفّرها الشذرة من تركيزٍ واختزال واقتضاب وسخرية ومفارقة… وبه تتأكّد قيمة ودينامية لهجتِنا المحلية؛ ليست بما هي وسيلةٌ للتخاطُب اليومي والتواصل بين الناس في الشارع فحسب، بل بما هي أداةٌ قادرة على شحْن الألفاظ والجُمل بدلالاتٍ إيحائية وتأمُّلية، لم تعهدها من قبل.
*زجّال وباحث من المغرب.