عبدالله المتقي
الشعراء كثيرون في كل زمان ومكان ، لكن القصائد النوعية والمختلفة نادرة وقليلة في منجم الشعر ، مثلما ذرات الذهب في كثير من ذرات الثرى ، ومبارك الراجي واحد من هذه القلة الهائلة والخلاقة والبرومتيوسية التي تكتب مجازاتها بكرياتها الحمراء والبيضاء في الخلوات الذهبية وبأصابع القديسين والنساك .
إن من يقرأ ديوان ” ضد اليابسة أو بهاء النسيان ” الحائز على جائزة عبد الوهاب البياتي الشعرية ، يجد الشاعر قد جعل من الماء مادة مكونة لقصائده ، وموقعا جغرافيا امتزجت فيه مختلف التحولات والمتغيرات والدلالات ، وبذلك تتحول مدينة ” موغادور” إلى كون شعري شيمته الماء ، ينشئ فيه ومنه وعليه الشاعر زورقه الشعري كي يمشي فوق مياه بحرها وأمواجها ، وتحت مطرها ، إنها مواد للغرق والإيرتيكا والتشكيل والتداعيات وسقوف المجاز وجنون المعنى ، ومما يعضد هذه الهيمنة للماء، العنوان المركزي المعلق في سقف غلاف الديوان ” ضد اليابسة أو بهاء النسيان ” ، ولن يكون هذا الضد سوى الماء الذي لا تخلو منه أغلبية القصائد ، حتى غدا موضوعة مائية مهيمنة ومالحة ، إذا كلما شربت منه في قصيدة ما تفاقم عطشك لمزيد من مائيات الشعر ، ولعل الملفت للانتباه في هذا الديوان الفاتحة لمبارك الراجي هو هذا الانسياب والحضور المكثف لعنصر الماء ، حتى أن الشاعر جعل منه النواة الدلالية حيث ” يمتزج في قصائد هذه المجموعة المتخيل بالبيئي ، حيث البحر مرآة أثيرة لتكوين صور تشكيلية متماسكة ، متجاوزة خط البدايات ، ومستفيدة من موروثات شتى “2
ومن المعلوم الماء واحد من بين الأسطقسات الأربعة (الماء والنار والتراب والهواء) ، هو في الأعماق والسماء وما بينهما . كما يعني الحياة وفق البعد الديني ّ “وجعلنا من الماء كل شيء حي “، وفي بعده الجغرافي هو النبع، والبحر ، والنهر ، والواحة، والمستنقع و… ، هو سقي وارتواء، شعور بالنقاء والطهارة في مقابل القذارة، إنه “البذرة السماوية التي منها اللؤلؤ،لأن كل لؤلؤة ما هي إلا قطرة ماء عذب نزلت من السماء،فتلقفها فم صدفة صعدت من أعماق البحر” حسب الشاعر المراكشي آيت وارهام الحاج .
هكذا تتكرر لفظة الماء على المستوى التلفظي ، أو بالألفاظ الدالة عليه من قبيل : البحر ، والموجة، والمطر ، والبحيرة ، السحائب ، النوارس ، الغرق ، الملاح ، محارة و .. ، كما تكررت لفظة الماء على مستوى الأفعال : أرشف ، لعقت ، يفنجنها …
بهكذا مائيات معجمية يكون ديوان ” ضد اليابسة أو بهاء النسيان” شلالا مائيا ، مندغما ومتشابكا ومتناغما ومتنافرا ومستفزا لأفق انتظار كل من اختار الغرق في بلاغته ، ليجد ذاتا شاعرة تتنفس رؤى وتصورات تنبع من الماء كما تصب فيه ، وهذا ليس بغريب ولا عجيب عن ماء الشعر ، بل إن الماء ” اسم قديم للشعراء ” ، يكتب شاعر الومضات الخاطفة ” إبراهيم قازو ” .
تجربة الشاعر مبارك الراجي ليست تجربة مألوفة يأتي فيها الشاعر على الماء كأي شاعر آخر ، بل عايشه معايشة تقترب من حدود المعرفة الكاملة به ، حد تحوله إلى جنون وغرق عاقلين .
في قصيدة ” جنون بحري” 11، يشرع الشاعر في استهلالية هذه القصيدة تشرع الذات الشاعرة في محاورة ” زوربا ” :
” يا هذا الجنون ” الزوربا “
فليبدأ سفرك
حيث يجب أن ينتهي
أنت دائما المكان
الذي ستذهب إليه
في هذه محاورة ، يكون الشاعر و”زوربا ” مثنى بصيغة المفرد ، يمتزجان معا بالألم والملح والبحر ، ثم ما تلبث هذه المحاورة أن تتنبأ بما ينبغي أن يكون ، لأن الشاعر ” عراف” بمجازاته واستعاراته وأحلامه الخارجة عن المتداول والمألوف :
سيعود البحر إلى اليابسة
أسمع هديره الآن
في حجر المكان “
هو ذا الماء تحول وحياة ، ، ارتواء و سكينة ، أمل و جوهر ، إبداع وعشق ، لكن لا غرابة أن يرتبط أيضا بالموت ، ويتحول إلى كائن حاف وعار من الرحمة ، بل إلى قاتل محترف وبقلب صلد ، ونستحضر الشاعر الصيني ” لي بو ” 762-700 ق. م، الذي ركب زورقا في ليلة مقمرة ، شرب نبيذا و غنى و نظم شعرا ، و حين حاول أن يقبل صورة القمر على سطح الماء أنقلب ومات غرقا ، كذلك أمواج المحيط والأبيض المتوسط تتحول إلى شكل من أشكال الموت ، يقول الشاعر من قصيدة ” هدير” :
” كل موجة ،
هي ملاح قديم
مات غرقا “
في قصيدة ” ايروتيكا “13 التي تشرع باستغراق في التفاصيل المتأنية :
امرأة تكتب البحر
على الآلة الكاتبة
موجة،
موجة ،
خفيفا تحمله بين الأصابع “
فريثما تتدخل الذات الشاعرة مجال الشغب مما يتيح الفرصة لتتمظهر صورة إيروتيكية ، وحتى لا تتوقف مائيات القصيدة عند ساحل أو شاطئ معين ، لتؤسس لها هسيسا لبدايات اللعب الكبير “grand jeu” كما لدى الفرنسيين ، نقرأ للشاعر في نفس القصيدة :
” فوق أصياف صدرها
حيثني هناك
قط بحري يموء الرغبة
فوق أصابعها
وهي قربي من الشهوة
تسيل قروشا جائعة
لم تنته بعد
أسماكنا البعيييييييدة
ما تزال ترقص
في قطن الوسادة “
إذا كان الليل صباح الخونة واللصوص ، فهو أيضا مهنة الشعراء والعرابيط ، فبين أحضان أرقه المزدان بالنور، تخلق القصيدة إيقاعها الترميزي ، كما تنتج عوالمها المتخيلة والمتنوعة ، حتى أنهم ينسجون وإياه علاقة حميمية ، فيشاركونه همومهم وقلقهم الأكبر من بوابة عظيمة :
” يا ليل ذاتي
في أيما بحر
أرمي مفتاح
بابك العظيم ” 42
نلمس من خلال هذا المقطع المستشهد به حيث يبلغ الحلول مداه من خلال الدال ” يا ليل ذاتي ” ، بل وداخل هذا الفضاء الزمني المثقل بالأحلام وعلى وزن جبل ، لم يجد الشاعر عدا البحر هذه البقعة المائية التي يمكن أن تسع هذه المثاقل وهذه الأوزان .
ولعل لجوء الشاعر للبحر من أجل إغراقه وليله ، من شأنه ضخ هذه الذات الشاعرة ، وهذا الليل بطاقة وبدماء حيوية تقوم على استنهاضهما ، وإعادة إخراجهما بديكور جديد ، وكذا بقصد الدفاع عن معاني نبيلة في الحياة
في قصيدته الموسومة ب” من تداعيات البحر الشاعر ” ص 34 ، تتكشف صورة الشاعر الذي لا يكفيه مداد البحر ، كي يحبر هذا العرمرم من المتخيل والحلم والحياة والشعر :
” البحر
لم أجده في نفس المكان من يديه
أين ذهب البحر هذا الصباح ؟
هل مر من هنا شاعر ؟”
ثم تحضر النوارس لتقترن بالحاجة إلى بياض الكراريس التي شغرها الشاعر بقصائده :
“النورس
لم يجد كراسا يكتب عليه حيرته
هل مر من هنا شاعر ؟ “
يحدث هذا ، لأن شاعرا مر بمحاذاة البحر ، فاستهلك كل ماء البحر حبرا ، كي يكتب قصائده على بياض أجنحة النوارس .
ويتجلى عرفان و شفافية الماء ومر آويته في عين البحيرة تجليا واضحا في قصيدة ” ماااااء” ص 43 :
” البحيرة
تعرف أنها بحيرة
أنت الذي تبحث
في وجهك
عن وجهها
لا تعرف وجهك
يا لمعرفة الماء
يا لجهل اللحم “
إن الدوال المشكلة لفضاء القصيدة ” البحيرة ، وجهك ، وجهها ، يا لمعرفة الماء ، يا لجهل اللحم ” ، ترسم محنة وجه مخاطب لا يهتدي إلى ملامحه في ماء البحيرة ، وكذا يصور تيهه والجهل الذي فيه ، في مقابل صورة الماء التي تحتفظ ببريقها الشفيف ومعرفتها واهتدائها إلى وجهها ، وبذلك يكون ماء البحيرة احتفاء بالوجه وإدلاء بملامح مستحيلة على النسيان ، وتغييبا لوجه لم تعثر عليه مرايا الماء .
ومن أجل نطفة وولادة جديدتين ، وحياة أخرى ، وخلق آخر ، وطفولة جديدة نقرأ في قصيدة ” من أجل أجنحة بووووم ” ص 49
“حيث كل شيء يجب أن يبدأ من جديد،
حيث
قطعان النمل تنبطح ضاحكة
و
تخلق
البحر “
في هذا المقطع المشحون بالتفاؤل والفرح من خلال الشواهد النصية ” من جديد ، تنبطح ضاحكة ، تخلق البحر ” والتي تنتقل القاريء عبر مكوك متخيل صوب عوالم ثانية مزدانة بالحبور الرشاقة والأناقة وهذا من شأنه ولادة بحر آخر ، أي حياة شاسعة وبسعة أحلام الشاعر ، إذ لا موقع ولا رقعة في مدن الشعراء لكل ما يمت إلى التيئيس والإحباط بأية قرابة دموية ، ذلك أن الشعراء خلقوا من أجل إحداث تقوب في كل ما من شأنه شل حركة الحلم والخرق .
وفي خاتمة هذه القراءة نعود إلى التأكيد أن ديوان ” ضد اليابسة أو بهاء النسيان ” للشاعر مبارك الراجي، فاتحة شعرية في تجربة هذا الشاعر المتفرد في قصائده وحياته وحتى تدخين سجائره ، شاعر مكتظ بحرقة المعنى ، وشاعر يتميز بقصيدته ، وفي نفس السياق ، يمكن القول ، أنه استثمر عنصر الماء استثمارا عميقا وأصيلا ، وفق رؤية لا تخلو من خلفية معرفية وجمالية ، مما جعل قصائد هذا الديوان كما لو أنها شلالا شعرية .
____
إحالات
1 _ مبارك الراجي ، ضد اليابسة أو بهاء النسيان ، دار الوطن ، الرباط ، 2013
2 _ نفسه ، ص 5