الرئيسية |
فكر ونقد |
سمفونية العري: قفزات فاشلة إلى بر الأمان | عاطف محمد عبد المجيد
سمفونية العري: قفزات فاشلة إلى بر الأمان | عاطف محمد عبد المجيد
عاطف محمد عبد المجيد
ثمة قصص قصيرة، كغيرها من الأجناس الإبداعية، تسعى إلى تجميل الواقع ولو كذبًا، غاضةً الطرف عن مساويء المجتمع وخطايا أفراده، فيما تسعى قصص أخرى لتعرية هذه المساويء وكشفها، طمعًا في الوصول، أو التوصّل، إلى علاج لها، حتى لا تتوغل وتستشري وتتفاقم، ويفوت أوان علاجها.من هذه الأخيرة المجموعة القصصية ” سمفونية العري ” الصادرة مؤخرًا عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، والتي يُهديها مؤلفها المبدع المغربي يوسف كرماح إلى روح والده في الملكوت الأعلى، وإلى أخته الغالية في دار الزوال وإلى أخرى أنشدتْ في روض قصيدة مشتهاة: ” نعيش معًا، ونموت معًا، ويضمنا قبر واحد، ونُحاسب حسابًا واحدًا “.
ما وراء الأقنعة
تضم المجموعة عشر قصص قصيرة تمتد على مساحة ورقية تتجاوز المائة صفحة بقليل، وكُتبت جميعها في مدينة القنيطرة الساحلية خلال العام 2012.في قصصه يُعري كرماح نماذج سيئة عجّت بها المجتمعات العربية، ويكشف حقيقتها المخزية التي ظلت تتوارى وراء الأقنعة لوقت طويل.هنا يعري الساسة ويفضح فكرهم وسلوكياتهم، إذ ينفي عنهم إحساسهم بالضعفاء ويُثْبت عليهم عدم تفكيرهم فيهم، لأنهم ليسوا من طبقتهم ولا يحتكّون بهم ولا يسمعون معاناتهم، ولا يهمهم ما يتخبطون فيه.الساسة الذين لا يحبون سماع شكاوى الناس وهمومهم يكفيهم، كما يصورهم كرماح في مجموعته هذه، أن يعيشوا وليذهب الآخرون إلى مطحنة الزمن.ما يهم الساسة فقط هو كئوس الجعة وثرثرة الصفقات المُربحة والاستثمارات والمزايدات وتضخم الأموال.لقد نجح كرماح في رسم صورة، تقترب من الحقيقة، للساسة الذين يتشابهون حد التطابق في معظم بلدان العالم، وخاصة في بلدان عالمنا الثالث.قصص كرماح تعجّ بالمقارنات ما بين الشيء ونقيضه: رجال يتمتعون بفحولة أكيدة، وأشباه رجال، شباب يأتي الجنس أولا في قائمة يومهم، وآخرون لا يوْلونه أدنى اهتمام بعد أن عضتهم أنياب الحياة، أثرياء سفهاء اُتْخموا ثراءً بطرق غير شرعية يتشاجرون من أجل امرأة عاهرة، وضعفاء لا يجدون قوت ساعتهم، الحياة في القرية ونظيرتها في المدينة الفاجرة التي تغتال سذاجة البسطاء، الأطباء الرحماء والأطباء الذين تحولوا إلى أشخاص لا يفكرون إلا في الربح وإفزاع أهل المرضى. سمفونية العري يعزف فيها كرماح لحنًا خاصًّا يُظهر فيه ما وراء الأقنعة، وما يحدث خلف الكواليس، وأدّى ببعض الشخصيات إلى ما هي فيه.هنا نجد المرأة التي تتحرق شهوة ورغبة، نجد مَن يروق له أن يتلصص على عورات النساء سعيدًا وكأنه اكتشف الجاذبية قبل نيوتن، والنسبية قبل آينشتاين.
سماسرة الأجساد
إلى جانب هذا نجد السرد مغرمًا إلى حد كبير بوصف الأنثى حتى أنه لم يسلم من وصفه عضو منها، متغزلا بالجسد البض والمفاتن الشهية التي تنتظر من يكتشف أرضها للمرة الأولى.كرماح يتعاطف مع بطلات قصصه، أرملة تركها زوجها ومات، فتاة يعتدي عليها عشيق أمها، ويرى أن الحياة قد ظلمتهن وأجبرتهن على السير في طريق خاطيء دون إرادة منهن، حتى أصبحن يتجرعن مرارة العيش وفظاظة الوجود: ” المسكينة هربت من الدب فوقعت في الجب، هربت من لفحة شمس الشقاء والحرمان فسقطت في أفخاخ عِطاش اللذة وسماسرة الأجساد “. على امتداد مساحة هذه القصص نجد شخصيات مأزومة ومقهورة، طوال الوقت، من آخرين: شاب يحاول التمرد على أعراف القبيلة وسلطة الأب الطاغية، فتاة تهرب من بيت أمها لأن زوج أمها يضايقها كثيرًا ويتحرش بها، نساء تضطرهن ظروف الحياة إلى العمل داعرات وفتيات ليل ونهار، شباب تتملكهم شهوة فوارة ومهووسون بالقذف اليومي : ” ما ذنبي إن كان ثعباني لا يكل ولا يمل من الأفخاذ؟ ” ، شباب متشردون يتسولون تحت ضغط العوز والحاجة، أرملة تقهرها الرغبة الجنسية حتى تصل بها إلى ممارسة الجنس مع حارس البناية.كرماح ينتقد في قصصه التلصص على حيوات وأجساد الآخرين، الكذب، الطمع، عدم الإحساس بالآخرين، التسلط الذي يمارسه البعض ضد البعض الآخر، الخيانة بصورها المختلفة: ” كان العشيق يختلف من ورائه متسللا إلى بيته المتواضع ليشيد لزوجته الفاجرة صرحًا من الحب والنار، ويحفر لها بفأسه قاعدة تصدح بالآهات واللهاث والنحيب بين فخذيها “. أيضًا تنتقد القصص هؤلاء الذين يُخدعون بالمظاهر: ” عندما تكون طيبًا وفقيرًا فإن الكل يريد أن يركب ظهرك، وحين تكون ثريًّا طاغيًا يحترمونك ويقدسونك.إنه مرض هذه الأمة، كل شيء استحال بالمقلوب “.
البؤس والبطالة
القصص إلى جانب تعريتها لهذه المساويء تسعى كذلك إلى ردم الخندق الذي حفره البعض بين الطبقات المختلفة في المجتمع: ” لم أتأفف منه أو أزجره، فلا أحد أنقى من أحد، أغلب الذين يتشيكون يبولون على فراشهم أو في سراويلهم “. كما تسخر من بعض التصرفات التي مارسها البعض، منها مثلا النساء اللاتي يدفعن ملايين الدولارات كي يُؤَمِّنّ على مؤخراتهن، في الوقت الذي لا تجد فيه الملايين كسرة خبز تسد بها الرمق.في سمفونية العري نجد شخصيات التحفت يأسًا بعدما فقدت الأمل في مصادفة حياة أفضل.معظم الوقت نجد أنفسنا إزاء بطل مهزوم نفسيًّا: ” لماذا أوقع بنفسي في هوة المشاكل السحيقة؟ ألا يكفيني التشرد والبؤس والبطالة؟
هذا وقد بدا يوسف كرماح في سمفونية العري قاصًّا ذا عين متأملة تعي ما يحدث حولها جيدًا معبرة عنه بلغة تكاد تقترب، في كثير من مناطقها، من لغة الشعر، مُسلّطة ضوءًا كاشفًا على بعض البقاع المجتمعية التي كاد اليأس والقهر أن يقضيا عليها، فلعل يومًا يأتي حاملا لها بصيص أمل يُخلّصها من هذه الحياة وينقلها إلى حياة أخرى تختلف طقوسها وتفاصيلها كليًّا عن هذه الحياة.هذا وتحْفل هذه المجموعة بعبارات تشع حكمة وفلسفة حتى إنها يمكن أن تجري مجرى الأمثال والأقوال المأثورة منها:
” من يريد اصطياد أرنب قد تلسعه أفعى، ومن يريد اصطياد سلمون قد يقتنصه قرش “.
ومنها : شيئان لا يمكن لأحد معرفة كنههما: دماغ البشر والأكياس السوداء “.
سمفونية العري عاطف محمد عبد المجيد 2017-01-25