سماح سليم(1) ناقدة ومترجمة وأكاديمية مصرية، تعيش في الغرب منذ زمن طويل، منذ أن هاجرت من مصر مع أسرتها، وهي ابنة العاشرة، حيث عاشت في المملكة المتّحدة، وليبيا، وفرنسا، وألمانيا. وهي مقيمة، الآن، في الولايات المتّحدة الأميركية، حصلت على درجتها الجامعية الأولى من كلّيّة برنار، في عام 1986، وعلى درجة الدكتوراه من قسم اللغات والثقافات الشرقية والآسيوية من جامعة كولمبيا، في عام 1997. وقد سبق لها أن درَّست في جامعة كولمبيا، وجامعة برنسيتون، وجامعة بروفينس (الواقعة جنوب فرنسا على حدود إيطاليا). وهي، الآن، تُدَرِّسُ الأدب العربيّ في جامعة روتجرز في الولايات المتحدة الأميركية، تتركّز أبحاثها- بشكلٍ أساسي- على الأدب العربيّ الحديث، خاصّة منه أدب القرنَيْن: التاسع عشر، والعشرين، في مصر وبلاد الشام، كما تُشرف على وحدة الأدب لبرنامج الدراسات التمهيدية لأبحاث الدكتوراه، الذي يحمل عنوان (أوروبا في الشرق الأوسط) و(الشرق الأوسط في أوروبا)، مع اهتمام أكثر بالأنواع السّردية، مثل الرواية والقصّة القصيرة ونظريات المقارنة في الرواية والخطابات الثقافية عن الحداثة، وسياسة الترجمة في السياقات الكولونيالية (الاستعمارية) وما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمارية)، كما تمارس الترجمة؛ حيث نقلت العديد من النصوص العربية إلى الإنجليزية، ومن أهمّها ترجمتها رواية يحيى الطاهر عبد الله «الطوق والإسورة»، وقد حصلت بها على جائزة سيف غباش، في نيبال، عام 2009 (2)، وجاءت الترجمة بعنوان: «THE COLLAR AND THE BRACELET». كما قامت بترجمة رواية ميرال الطحاوي «بروكلين هايتس»، بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ (2010)، التي يمنحها قسم النشر في الجامعة الأميركية.
نشأة الرواية
أطروحاتها عن نشأة الرواية وأصولها، تبدأ من رسالتها للدكتواره، وقد صدرت في كتاب بعنوان «الرواية والمتخيَّل الريفيّ في مصر 1880 – 1952»، وهو صادر باللغة الإنجليزية عام 2004، عن دار النشر «ROUTLEDGE CURZON»، وهذا الكتاب يُعدُّ مِن أهمّ كتبها التي أصَّلَتْ فيها لفكرة أصول الرواية العربيّة المـُنبثقة من الرواية الشعبيّة، وقد نشرت مقدِّمة الكتاب في مجلّة «الكرمل»، في عدد 87 ربيع 2006، بعنوان «الفلّاح والرواية الحديثة في مصر»(3). والكتاب محاولة لتجاوز المعيار الأنموذجي السَّائد، المـُصاغ من جانب نُقّاد ومؤرِّخين أدبيّين للرواية العربية، وهذا الأنموذج (كما تراه) غائيّ؛ لذا سعت إلى «استكشاف تشكيل الجنس الروائي كعملية تكمن في صميم تجارب وإيديولوجيات اجتماعية معقّدة، ومتصارَع عليها» مرتكزة على جهود باختين، وريموند ويليامز، ولينارد ديفيز، التي رأت أهمّيّة في العلاقات العضوية بين الثقافات والإيديولوجيا، بوصفها الفضاء الأساسي الذي تُنْتج فيه الأجناس الأدبية، وتوزَّع كسرديات اجتماعية مهيمنة (أو ضدّ الهيمنة)، وترى أنه من المهمّ، في العناصر الأساسية للرواية، كاللغة والشخصيات ووجهة النظر، أن تصاغ من خلالها الهيمنات الاجتماعية الحديثة، والجنس الروائي، وهو الأمر الذي يتيح للرواية، بشكل عامّ، قراءة تاريخ الرواية كتاريخ لحوار وصراع بين الطبقات والخطابات والإيديولوجيات.
في دراستها الأخيرة «وسائل تسلية الشعب: الترجمة والرواية الشعبية والنهضة في مصر»(4)، عادت سماح سليم، بشيء من التفصيل، مع ذكر الأمثلة والنماذج، إلى ما طرحته، من قبل، في كتاباها «الرواية والمتخيّل الريفي في مصر»، عن الأصول الأولى للرواية، حيث تذهب إلى أن ثمّة نصوصاً أخرى تتقاطع في دائرة النتاجات الأولى للرواية، فترى «أن الجذور الأصيلة لفنّ الرواية تعود إلى ما قبل ذلك، مع مترجمين وكُتّاب، كانت أعمالهم الأكثر مبيعاً، وناشرين، كخليل صادق، عملوا لسنوات في سبيل تأسيس ما سمّوه (سوق عُكاظ) لفنّ الرواية، وحروب شرسة، خاضها هذا الفنّ الجديد مع مؤسَّسات النشر والتيّارات السياسية والفكرية السّائدة في مصر، في بداية القرن العشرين، حيث خسرت الروايات الشّعبية معاركها أمام الرّواية القومية التي أعدّ نُقّادها كتابة التاريخ الأدبي بما يتناسب مع طرحهم».
وهي، بذلك، ترى أن النتاجات الأولى للرّواية تذهب بعيداً عن فكرة التأثّر الغربي، أو الترجمة والتعريب، التي أقرَّ بها الكثير من الباحثين، كما أنها تعود باللائمة على التعريب ذاته في أنّه نزع الشرعيّة عن هذا النتاج الأدبي (أي الأعمال الشعبية) وأدّى إلى تهمشيه، بل نجح في إعاقة أيّة دراسة جادّة لجنس الرواية الأدبي، باللغة العربية، بخلاف قالبه البرجوازي السائد والقومي بحقّ»(5). وترى الكاتبة أن النظرية الأدبية، في العالم، اتَّجهت إلى دراسة الروايات الشعبية، كروايات البنت المرعبة (PENNY DREADFUL) وروايات السلاسل (ROMAN DE FEUILLETON)- على سبيل المثال- بوصفها مجالات مهمّة في البحث الأدبي، في مختلف التقاليد القومية الأوروبية. وعلى غرار هذه المنهج تقول: «فلِمَ لا نُولي الرواية الشّعبية، في مصر، القدر نفسه، من الأهمّيّة الأدبية التاريخية والاهتمام النظري المتواصل نفسه، كما أُولِي لمثيلتها في إنجلترا وإيطاليا وفرنسا؟ لا تكتفي بهذه الدعوة، وإنما تذكر الأسباب التي آلت إلى نزع الشرعية عن الرواية الشّعبية باللغة العربية، وتُجملها في: الوضع الاجتماعيّ، والوضع الثقافي التخصّصي لكلِّ من الحداثة والقومية، ثمّ هيمنة مفهوم الذّات، الليبرالي القانوني الأوروبي، وما يتّصل بها من مؤسَّسات التأليف وحقوق النشر في الميدان الأدبي، وأخيراً، في القالب الجدلي للحداثة العربية نفسها، بتحويلها «المضمون» أو الهويّة إلى صنم يُعبَد.
الرّواية الشّعبية والانحدار الأخلاقي
أهمّيّة محاولة سماح سليم ليست في أنّها تُعيد الاعتبار لهذه الرّوايات الشعبية فحسب، بل لأنها تضعها على خريطة الأصول الروائية الأولى، بتعزيز دورها في النتاجات الأولى. العجيب أن هذه النتاجات الأولى، إلى جانب ما لاقته من تهميش، تعرَّضت إلى السخرية والتقليل من قيمتها، كما فعل عبد المحسن طه بدر، وقد أرجع سبب الرواج الذي حقّقته، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، إلى «نمو التعليم الجماهيري وصعود جمهور من القرّاء شبه المتعلّمين الذين اضطرّوا إلى الهروب من واقع الاستعمار السياسي والاستعمار الاجتماعي المرير». ومع الأسف، إن هذا الجمهور الذي تشكّل على الروايات المربحة تجاريّاً، وقصص المغامرات، وروايات الجريمة، والذي عُرف بـ«الجمهور الشّعبي»- كما وصفه صبري حافظ- كان عند عبد المحسن طه بدر «أنصاف مثقَّفين». مرجع هذا الازدراء للرواية الشعبية إلى تراث عريض من الخطاب النقدي الحداثي والقومي، باعتبار أن هؤلاء المثقَّفين الذين حظوا بفرصة تعليم، وهو ما أهّلهم لتحسين وضعهم الاجتماعي داخل الدولة، قد عدّوا السردية الشعبية هي النقيض للسرد الحديث، وفي هجومهم عليها نسبوا إليها سبب حالة الفساد، المصابة بها تلك الجماهير، وعَدّوها عَرَضاً لها. لكن الإدانة الحقيقية لهذه الروايات هي أنهم نسبوا إليها تكريس الكسل وانتشار الرذيلة، كما عَزَّز ذلك الحكواتي في المقاهي الشعبية، بينما أسهمت- على حَدّ قول سماح سليم-: «تيمات السّير الشعبية والحدوتة الشّعبية العجائبيّة في إيمانهم بالخرافة واتّصافهم بالسذاجة والعفوية»(6). وهو الأمر الذي عُدّ موقفاً مجحفاً ضدّ هذه الأجناس الأدبية المتعلِّقة بالثقافة الشّعبية، والأغرب أنّها مثّلتْ جزءاً كبيراً من الخطاب النقدي في أوائل القرن العشرين، وقد تبلور هذا الخطاب في كتابات أحمد فتحي زغلول، حين ربط بين مشروع النهضة الاجتماعي ومشروعها السياسي وتدشين ثقافة أدبية منضبة أو سليمة. وحين عزا تخلُّف مصر إلى الانتشار الواسع لـ«القصص والخرافات» و«التافه من المطبوعات» و«كتب التهريج والروايات».
تواصل الدكتورة سماح سرد هذا التاريخ المجحف في حقّ الروايات الشعبية، الذي وصل- كما تقول- إلى أن مجلّة «المقتطف»، في عام 1882، تبرِّر عدم نشر هذه الرواية، في كلمة للمحرِّر، بالخوف من «الآثار الأخلاقية الخطيرة على عقول الشباب سريع التأثر، من الجنسين». وقد أخذ التحقير جانباً آخر، وإن كان أكثر تطرُّفاً، حيث ألقى بعض النقّاد- كما تقول المؤلّفة- باللوم على الرواية الشعبية، فبسببها «وقعت مصر تحت السيطرة الاستعمارية لفرنسا وبريطانيا». علاوةً على الأوصاف التي ألصقها بها كبار المثقَّفين، الذين ارتبطوا بمشروع النهضة والحداثة، بدايات القرن العشرين، كمحمود تيمور الذي ربط بين الرواية الشعبية و«الطبقات الدنيا»، أما زكي مبارك فقد وصف مؤلِّفيها بأنهم ينتمون إلى «الطبقة الأدنى من كُتّاب الأدب»؛ وهو ما قاد هؤلاء الكتّاب الذين كانوا يمهّدون لمفهوم نقدي جديد عن الأدب القومي، إلى تحديد سمات الرواية القومية في ثلاث خصائص، هي البيئة، والشخصية، والزمن، وحددت البيئة المصرية، والشخصية المصرية، سواء من الحضر ومن الريف، مع إدراك للتاريخ القومي. وبما أن الرواية الشعبية قد تملّصت من المفاهيم القومية الخاصّة بالذاتية والزمن والموقع، فقد أدرج الكتّاب والنقّاد الرواية الشعبية نقيضاً للرواية الحديثة، فإن أحداثها تقع، في أغلب الأحيان، في صالونات البرجوازية الأوروبية وشوارع الإجرام، في المدن الكبيرة الحديثة (باريس ولندن ونيويورك وبومباي والقاهرة). لكن الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الرواية الشعبية، هي تجنُّب الجدلية الاستعمارية تماماً، وسرد حكايات الهروب من الواقع المصري، وهو- وفق التصنيف الأدبي «النهضوي»- مصدر الانحدار الأصيل(7).
الترجمة الكاذبة
ومع الأهمّيّة الكبرى التي عَوَّلت فيها الناقدة على الروايات الشعبية، بوصفها مصدراً لنشأة الرواية، إلا أن هذا لا يمنع من أن ترى، مع هذه الأهمّيّة، أنها أسهمت، إلى حدٍّ كبير، في شيوع السّرقة الأدبيّة والتزوير، و- أيضاً- ظهور ما يُسمّى الترجمة الكاذبة؛ فمثلاً: مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي لم يكن يعرف أيّة لغات أوروبية، قدّم ترجمات أصدقائه العامّة للروايات الفرنسيّة، في نثر عربيّ طليّ متناغم، على حدِّ قولها، إلى جانب أحمد حسن الزيات وخليل مطران، وقد وصل الأمر بطانوس عبده إلى أن يترجم من الذاكرة، ووفقاً لما أورده معاصره سليم سركيس «يحمل معه أوراقاً في أحد جيوبه، ورواية فرنسية في الجيب الآخر، ثم يشرع، بعد ذلك، في قراءة بضعة سطور، ويعيد الرواية مَرّةً أخرى إلى جيبه، ويبدأ في الكتابة، بخطّ أنيق، لما استطاع أن يتذكّره من بضعة الأسطر التي قرأها، ويظل يكتب طول اليوم، من دون أن يشطب كلمة واحدة، أو يعيد قراءة سطر»(8).
الشيء الثاني الذي تأخذه سماح سليم على الروايات الشعبية، إلى جانب ظهور الترجمة الكاذبة، هو كسر هؤلاء المترجمين للقواعد المعجمية والنحوية للغة العربية الكلاسيكية؛ وهو الأمر الذي جعل كباراً، أمثال طه حسين والعقّاد، وصولاً إلى محمد يوسف نجم وعبد المحسن طه بدر، يشعرون بالأسى والرثاء إزاء ما رأوا أنه حرّيّات متجاوزة للحدّ الذي تعامل به هؤلاء المترجمون والروائيون الشعبيون مع اللغة العربية.
تنتهي الكاتبة في مناقشتها للترجمة إلى أن الغالبية العظمى من الأعمال التي تدّعي أنها ترجمات ضمن مجموع الروايات الشعبية المصرية، في مطلع القرن (الماضي)، هي روايات مزيَّفة بهذا المعنى المحدّد، كما ترى أنه لو تمّ الأخذ بـ«أدب الجماهير» في حَدّ ذاته، بوصفه مصدراً خصباً من مصادر الخيال الروائي، فإن هذا يشير إلى أن تاريخاً أدبياً دقيقاً ومعقّداً من النظرة للرواية الشعبية العربية يغدو أمراً أساسيّاً بالنسبة إلى إعادة قراءة بنّاءة لـ «النهضة» كلّها؛ وهو ما يفضي، حتماً، إلى نزع المركزية عن تفسيرات النهضة التخصُّصية، التي أدّت إلى طريق تاريخي مسدود بالإضافة إلى إثارة تساؤلات حتمية حول مفاهيم الثقافة القومية التقليدية، أو حول أنواع التشكُّل المعقَّدة، والانتشار الاجتماعي للأجناس الأدبية.