الرئيسية | سرديات | ساعات قليلة مختلسة مع عشيقة مخلصة لمزاجك | شريف صالح
شريف صالح

ساعات قليلة مختلسة مع عشيقة مخلصة لمزاجك | شريف صالح

شريف صالح ( مصر ):

 

في سن المراهقة بدأت ارتياد نادي الأدب في دمياط لتدشين نفسي كاتبًا. آنذاك كنت أكتب ما أعتبره قصصًا وما أحسبه شعرًا. وانتحى بي جانبًا كاتب يكبرني سنًا واستغرب عندما قلت له إنني أكتب الشعر والقصة.. فقال لي ناصحًا إنه لابد من التخصص إما الشعر وإما القصة!.

أخذت كلامه على محمل سلبي وأنه يكره تميزي! فما الذي يمنع أن يكتب المرء في فنون كثيرة ويتفوق؟.
وفي أولى جامعة قرأت قصائد لمحمود درويش ودرست المعلقات السبع وهنا أدركت على نحو حاسم ونهائي أنني لا أصلح شاعرًا. فما الذي يمكن أن أضيفه في ثقافة تعيش على الشعر منذ ألف وأربعمائة عام؟ وما لم أستطع التفوق على دوريش فلا داعي لكتابة الشعر.

كان وهم أن الكتابة يجب أن ” تضيف إلى العالم” هو أحد الأوهام الكبرى التي علقتني في تلك الغواية.. يليه وهم الرغبة في التفوق والتميز والاختلاف عن أقراني. آنذاك بدت لي ” القصة القصيرة ” فنًا حديثًا لم يعرفه العرب إلا قبل عقود قليلة فثمة فرصة لقول ما لم يقله أحد.

يُضاف إلى ذلك أنه ليس للقصة صرامة القواعد الموسيقية التي يمتاز بها الشعر، ولا تتطلب وقتًا طويلًا لإنجازها مثل رواية.. بدت مثل حبيبة أو عشيقة تعيش معها أوقاتًا خلاسية.. في مقهى.. في هدأة الليل.. تبدأها وتنهيها في جلسة شغف واحدة. في حين أن الرواية بمثابة زوجة تتطلب معايشة يومية وتفاصيل معقدة كما تتطلب الصبر والاستمرار في كتابتها حتى لو فقدت الشغف.

القصة القصيرة هي فن الشغف.. متعة اللحظة والومضة.. هي ذلك الفن المراوغ الذي اكتشفت بمرور الأيام أنه نسخة طبق الأصل من مزاجي النزق القلق المتوتر اللحظي الملول الشغوف الفاتر. مثل ضربة برية تسددها بكل قوتك وتمضى.

تساقطت الأوهام التي استندت عليها في البداية وأصبحت لا أرغب في قول شيء لأي أحد.. ولا في الإضافة على ما أنجزه أحد.. بل أرغب فقط في التعبير عن ذاتي بكل أشواقها وهذيانها وأحلامها.. أصبحت علاقتي بها قائمة على متعة كتابتها ولا أبالي بأي طقوس اجتماعية لاحقة مثل التهاني والتبريكات وحفلات التوقيع والمهرجانات. فكل هذا لا يعادل ساعات قليلة مختلسة مع عشيقة مخلصة لمزاجك.

بهذه الروح نشرت ست مجموعات، بعضها كان محظوظًا بالجوائز والتقييم النقدي. وبهذه الروح قاومت حركة النزوح الجماعي إلى كلأ الرواية بحثًا عن الشهرة والجوائز المرموقة ونيل لقب ” الروائي”.

أعلم أنه كي تكون كاتبًا للقصة القصيرة اليوم أنك تتخلى عن مشهيات رائعة مثل البقاء في الضوء.. لكن القصة ذاتها هي التي علمتني فن التلصص على الحياة من ثقب الباب.. الاسترخاء في العتمة والتقاط جزء يسير من الصور الغامضة والمتلبسة.

والمضحك أن البعض يتعامل معها بوصفها ” تدريبات” استعدادًا لماراثون الرواية.. رغم أنها فن خالص لا يحتمل ثرثرة الرواية وحشوها.. فن يتطلب حساسية عالية في الالتقاط والتلصص وتسديد الضربات وتقطير الحياة وتكثيفها.

والأهم من ذلك أنها كأي عشيقة مخلصة تقيم معك علاقة حرة بلا أي شروط أو قيود.. فهي لا تمنعني من كتابة رواية أو مسرحية أو مقال نقدي.. يكفي عندما تأتي لحظة الاشتياق إليها أنها تسرقك من العالم كله وتأخذك لساعات إلى كهفها المسحور.

في كلمة واحدة.. القصة القصيرة هي التعبير الأسمى عن حريتي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.