الرئيسية | أدب وفن | سؤال الهوية ونشوة اللون: عند عبد الكريم الأزهر.

سؤال الهوية ونشوة اللون: عند عبد الكريم الأزهر.

عزالدين بوركة

عزالدين بوركة

عزالدين بوركة

نشوة اللون وبهاء الحضور، واختزال الزمن في المكان. هكذا بمكن وصف بشكل مُخْتَزَل اللوحة عند الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الأزهر. اللوحة المعطّرة بالرسم المُحِيلِ للأنثى في أقصى بهاءها. الاشتغال على الأنثى يجعلنا نستحضر أسماءً عدّة جعلت من هذه التيمة موضوعَ لوحاتها. بن دحمان، عزيز السيد، بوطالب وآخرين مضيئين. غير أن رعشة تصيبني وأنا أصارع اللوحة عند عبد الكريم الأزهر، مصارعة في الفهم. اللوحة تبتعد عن التكرارية في الاشتغال والتناسل التشكيلي لنفس المفاهيم.
الغاية من اللوحة:
اللوحة لدى عبد الكريم الأزهر مُعجمٌ خاص ومتفرد، حيث يختلط عليك، في سديم اللون، ضميرا المتكلّم، بصيغة المفرد والجمع: “أنا” و”نحن”. أيهما أبلغُ إشارةً، من قِبَل اللون والرسم، إليهما. هذان الضميران -الفاعلان غير المتصلان- المندمجان في مجموعة، في مجتمع، محكومان بقوانين دونما شعور منهما بذلك… الشعور هنا، إحالة إلى تلك العملية الفكرية: الوعي.
“أنا” الجزء من “نحن”، “نحن” الضامّ والضامر ل”أنا”. يصيران واحدا أوحدا داخل المنجز لديه، الواحد ذلك الرسم البارد الملامح، تختلط فيه في كل ملامح “نحن”. إنها استعارة الجمع بصيغة المفرد.
اللوحة عند عبد الكريم الأزهر –خريج وأستاذ الفنون الجميلة- توحي لنا “نحن/أنا المتلقي” كأنها نصّ مكتوب بضمير المتكلّم، مما يحيل إلى وعٍ صارمٍ وهامٍ بالذات، الذات الفنانة والكاتبة والمُخاطِبة هي.
كأنه –الأزهر- يشنّ بيانا صارماً حادّ الارتسامات والدلالات، بلون من البلاغة، والحماسة، يختزل كلّ هموم الفرد والجماعة، ومُتقصيا ومستقصياً لدواخلهما، وغاصاً في مكونات هويتهما.. الهوية المتعددة المسالك.. والمتنوعة المحدّدات: دينية، أثنية، لغوية، اقتصادية…
الهوية: سؤال تشكيلي وفلسفي.
لهذا –الأخير- كان ولابد ولزوما علينا الوقوف عند سؤال الهوية، كمشكل وطرح أساسيان داخل اللوحة عند فناننا هنا، ونشوة اللون لديه. أي نعم نشوة اللون.!
يوجد مظهران أساسيان لهوية الشخص: أولهما اسمه الذي يميّزه عن غيره من الناس، وهذا هو المُتفادي، الذي حاول عبد الكريم الأزهر، عبر الرسم البارد الملامح لشخصيات لونه، تفاديه. كأنّ به يصرخ قائلا أن الاسم ليس له أي علاقة مباشرة في تحديد هوية الفرد. محاولا الصراع –بشكلٍ فني- مع تلك الأفكار العنصرية، المُقْصية للفرد الأجنبي عن موطنها، انطلاقا من اسمه الأول. عبر كولاج لوثائق الهوية المطموسة باللون، والمُبهَمة داخله. وتصير اللوحة عنده غير محدودة بالإطار، فكما اللون يخرج عن إيطار اللوحة غلى أن يصير “مسكوبا” في جوانبها، فأيضا ذلك الكولاج (الوثائق) يصير له نفس الشيء، لعلي هنا أجدني أمام إحالة إلى لا محدودية هوية الفرد، لا جغرافيا ولا إثنيا، غير مؤطرة بشيء محددة، بل هي خارج عن أي إطار سابق: كأني به يقول: لا هوية إلا الهوية الإنسانية.

عمل الأزهر
وثانيهما ذلك الشيء غير الملموس والأكثر تعقيداً وعمقاً الذي يشكل، في الحقيقة، ماهية المرء، والذي لا نملك كلمة دقيقة تصفه. الشيء الذي يذهب التوجه الميتولوجي/ “الديني” إلى تسميته: الروح. بينما تذهب الفلسفة مع المدرسة الفرودية لتقسيمه لثلاث أقسام: الأنا والهو والأنا الأعلى. وإن ذهبت فلسفات أخرى سابقة (مع ديكارت واسبينوزا وكيرككراد وابن رشد… إلخ) إلى الاتفاق والتوجه الميتولوجي.
بين الروح والتقسيمات الثلاث (الفرويدية) يقفُ اللون محايدا معبّرا عن الهوية اللاملموسة بشكلٍ يقترب إلى ذائقة المتلقي ويتركه متسائلاً.. عن المكمن الفعلي لهذه الهوية.. فالفنان لم يأتي ليجيب بقدر ما جاء ليطرح السؤال. وهذا هو دور الفنان، من حيث زحزحت الثابت في الوعي الفردي والجماعي، محاولةً في تقصي الحقيقة.
الهوية والكولاج: كبعدين فنيين.

10154189_293515010798241_1129565437_n
غير أن، والملاحظ، وهذا لابد الإشارة إليه، فالأزهر يهرب بنا من هذا الصراع، الفكري-الميتولوجي، في تحديد الهوية الجماعية أو الفردية (وهذا ما يهمنا هنا أكثر) إلى طرح ثالث، وهو العلاقة بين الهوية والمؤسسة الإدارية، البيروقراطية. مستعملا داخل اللوحة كولاجات خاصة ومتفردة لينفرد بها. عبر لصق لبطاقات الهوية وشواهد الميلاد وغيرهما من الوثائق الإدارية المُقزّمة للفرد، والجاعلة منه رقما داخل حساب في برنامج لوغاريتمي قومي أو وطني في حاسوبٍ. بتماهٍ بين اللصق واللون.
الهوية، ذلك الفعل متغير التحديد باستمرار، داخل الوعي الإنساني، لا من حيث الدلالة والمعنى. والعصي عن التجديد. ولا من خلال الفضاء الزمكاني. لهذا وإن تشترك جل لوحات عبد الكريم الأزهر الأخير المشتغل عليها، من حوالي عقدين من الزمن، على هذا الطرح، فهي –أي اللوحات- متغيرة الاشتغال واللون والمساحة (السند).. كإشارة منه لكل تجليات التغير في محددا الهوية الفردية، والجماعية.
و الاشتغال على الكولاج (كأسلوب فني إضافي فوق اللوحة) المصاحب للون داخل اللوحة عبر تلك الوثائق الرسمية، المشار إليها أعلاه، إنما هو وعيّ صريح بكون الهوية تعبير عن الواقع، وانعكاس له ولفئة ما دون غيرها. والتوظيف لتلك الأوراق “الجافة” هو إدراك واضح المعالِم بمكونات الهوية: الموقع الجغرافي، الذاكرة التاريخية والوطنية المشتركة، ثقافة شعبية موحدة، حقوق وواجبات مشتركة، اقتصاد مشترك…
إشارة لابد منها:

عبد الكريم الأزهر بمرسمه

عبد الكريم الأزهر بمرسمه

هذا الاشتغال على أطروحة الهوية الفردية، والجماعية، كبعد فلسفي فني، جاء مُخْتَمِراَ بعد عقود طويلة من العمل على تيمة الإنسان كبعد كوني وشامل، وهو القائل ذات حوار لطيف، بشكل خفيف: “الإنسان هاجسي بالتشكيل”.
مولعٌ هو مند سنواته الأولى في الطفولة بالرسم والتصوير، واللون أيضا. في غفلة من المدرسين والزمن والأب، كان ينزاح بمفرده، داخل عوالِمه الذاتية، عاكفاً على الرسم مُسْتعيناً بالرصاص والورق والملونات.
بعد دراسة وفهمٍ واستيعاب، للفن وتاريخه، ابتعد كل الابتعاد عن المساطر الأكاديمية الحادة لحرية الفرد في الإبداع. وإن كانت مرحلة لا بد منها. وهروبا منه من الإتّباع. حتى يتسنى له الإفصاح عن مكونات الذات.
عرف مساره الفني ترحالات فنية عديدة، وهذا شيء ضروري لدى الفنان ليتحرر ويتجدد باستمرار. غير أن الإنسان كتيمة ظلّ مصاحباً له في كل أعماله. اتخذ في بداياته ملمح إنسان بلا ملامح، مشتغلا على الإنسان بالغض النظر عن جنسه وعمره وهويته (الهوية آخر تيمات الفنان). تغلب على لوحاته تلك الألوان القاتمة والحالكة. كأنه كان يشير إلى سوداوية العالم الذي ينبثق منه الفرد.
ومنه إلى مرحلة وظّف فيها مفهوم الزمن، كبعد فيزيائي معقد وعلاقته بالإنسان. مرحلة عرفت غزارة الألوان. محتفظا بالملامح الغير الواضع لشخوصه. وحضور كثيف للأرقام.
في مرحلة ثالثة، قبيل الانتقال إلى الاشتغال على الهوية عبر ذلك اللصق والكولاج، المشار إليه سالفاً، بدأ الفنان بإقحام العيون على ملامح شخصياته، وإطالة ساجِدها (عُنقها). غير متخلٍ عن الشق العلوي من الجسد، كإشارة إلى الذات المفكرة والعاقِلة. تلك الذات الأفلاطونية. و ما إطالة العنق إلا علامة على تعالي الفكر عن الجسد والشهوة. وهذا أكيد!. وواضح المعالم عند فلاسفة كُثر. وظلّ المربع الأيقوني مساحةً لاشتغاله حول تيماته ورسائله الفنية.
إنها رسائل تبَلّغ عن تفاعل الفرد مع محيطه والطبيعة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.