الرئيسية |
فكر ونقد |
“ريحة الموت” أو الخلاص الإيجابي في مواجهة المعاناة | د. يسري عبد الغني
“ريحة الموت” أو الخلاص الإيجابي في مواجهة المعاناة | د. يسري عبد الغني
د. يسري عبد الغني
الموت يعني الغياب ، وقد يعني انتظار حياة أخرى ، وقد يعني موت أشياء نحن نحبها ونعتز بها ونقدرها لأنها تشكل أجزاء حميمية من وجودنا ، عندما نفقد هذه الأشياء نشعر أن أجزاء منا قد فقدت .
وعليه فإن للموت تيمة نجدها فى ديوان “ريحة الموت” للشاعر مجدى عبد الرحيم الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ويقع في 168 صفحة من القطع المتوسط ، قد يبدو عنوانه صادمًا بعض الشيء للقارئ الذي يعاني واقعًا ليس على ما يرام ، ولكن بمجرد أن يتابع قصائد الديوان ، يشعر أن مجدي عبد الرحيم هو خير من يعبر عنه في معاناته ومتاعبه وآلامه النابعة من الواقع المعاش بكل مرارته ، بمعنى أن القارئ سيتوحد مع الشاعر في كل أحاسيسه وتعابيره ، وهذا هو الصدق الفني والذى نجح فيه شاعرنا المتميز فهو يشعر بالواقع المعاش في كل مفرداته ، ومن هنا كان صدقه الفني النابع من الحياة اليومية المصرية وهو ما يميز إبداعه في هذا الديوان .
الديوان يكشف لنا منذ أبياته الأولى أننا أمام شاعر متمكن ، يمتلك أدواته الشعرية ، وبمعنى آخر يمتلك زمام صنعته ، وينجح بجلاء وحرفية في التعبير عن تجاربه أو خبراته النفسية التي وقع تحت تأثيرها ، أو مؤثراتها ، تعبيرًا يصل إلى درجة الاندماج الكامل بوجدانه وفكره ، وإن لاحظنا أن الاستغراق الفكري والتأملي يسيطر على الشاعر ، ولعل ذلك من أهم صفات الشاعر فهو ينطلق من مخزون ثقافي وفكري يمتاز بالثراء والتعددية والتنوع.
معظم قصائد الديوان يكتبها الشاعر بعاطفة حزينة إلى حد ما ، عاطفة تنطلق من فكر يعي ما يقوله جيدًا ، فكر ينطلق بكل معطياته من رحم المعاناة كما يقولون ، فالشاعر ابن البيئة التي يعيشها ، البيئة بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات ، وإن كانت السلبيات التي يعبر عنها الشاعر في إبداعه تفوق بمراحل أي إيجابيات، وعليه فإن الديوان ينجح في مزج العاطفة بالفكر والصور التعبيرية والصياغة الشعرية بما تحتويه من ألفاظ وتراكيب وصور وأخيلة وموسيقى .
في المفتتح يقدم الشاعر ثلاث وردات : الوردة الأولى : لنور عيني .. إللي بتجري .. فـ دمي / حياتي وروحي .. أمي ، الوردة الثانية : لشريكة عمري .. ليل ونهار / إللي بتمسح دمعي .. باستمرار / حبيبة قلبي .. قصيدتي ، الوردة الثالثة : للمخلص جدًا .. وبكل أسراري عليم / وعمره ما خاني .. ولا باعني .. / فـ يوم .. صديقي .. مجدي عبد الرحيم.
لقد تصورنا أنه سيقدم الوردة الثانية لشريكة العمر أي الزوجة مثلاً ، ولكن اتضح لنا أنها القصيدة التي هي تمسح دمعه بشكل دائم ، وهي حبيبة القلب وشريكة العمر ليل نهار، أما الوردة الثالثة فيقدمها إلى نفسه التي تعلم كل أسراره ، وكأن شاعرنا يعيش الاغتراب والوحدة والمعاناة ، وعليه فهو لا يستريح إلا لنفسه ، تلك التي ما خانته ولا باعته في يوم من الأيام ، ولعل حالة الوحدة أو الاغتراب هي تيمة أساسية ينطلق منها الديوان الذي معنا ، ويتجلى ذلك في قصيدته (صورة ع الحيطة ما تشبهنيش) ، فالصورة التي على الحائط والتي لم يغيرها الزمن ، لطفل صغير ، تضحك ، في عيونه براءة وصدق ، وطيبة العالم ، يقول : صورة ع الحيطة / نفس الوش / والتقاطيع .. / والتقاسيم / لكن .. تشبهنيش، وهذه الصورة التي على الحائط ترفض أن تكلمه ، حتى الضحكة تداريها عنه ، هذه الصورة لا تعرفه ، رغم أنها صورته ، تعانده وتهاجمه ، وتسأله من تكون ؟ ، هذه الصورة يبعد عينه عن عينيها وهو يدلف إلى باب شقته كل يوم .
ونفس الأمر أمر الاغتراب عن الذات نجده في مفتتح الجزء الأول أو المتتالية الأولى من الديوان عندما يقول : وحدي في العالم / الزيف فارد غشاوته نهار / والعيون بتشوف الحقيقة / وقت الاحتضار ، وبذلك يمتزج الاغتراب عن الذات ، بفكرة الموت ، التي سبقها التأكيد على الطفولة والبراءة المفقودة ، حيث لم تعد الصورة الطفولية البريئة تعرفه أو يعرفها هو .
وفي قصيدة (لما كانت أيد أبويا بترتعش ) ، نجد الشاعر يؤرخ لما ألم بالأب من مرض ثم المعاناة والعلاج ثم الموت ، بتواريخ : في 1980 الأب يشتكي من الوحدة ، والتعب الشديد في القدمين والركبتين مع رعشة اليدين ، والطبيب يوصي بجلسات علاج طبيعي ، وهو يذهب معه إلى هذه الجلسات يوميًا ، وللأسف فهي عديمة المفعول يقول الشاعر : (1981 ) / أبويا مات / (2013 ) / بشتكي .. / م الوحدة / وتعب شديد .. / فـ الرجلين / والركبتين / (2016) / فـ انتظار .. / رعشة الأيدين / علشان .. / فاطمه تروح معايا .. / جلسات العلاج … / الطبيعي ..
فالدورة تتوالى وفقًا لمفهوم (فيكو) وما حدث للأب قد يحدث أو يتوقعه الشاعر أن يحدث معه ، وكما كان يذهب مع والده لعمل جلسات العلاج الطبيعي اليومية عديمة الفائدة ، فإن فاطمة الابنة تذهب معه لعمل هذه الجلسات بعد أن يتوقع التعب الشديد في الرجلين والركبتين والرعشة في اليدين ، وكأن المعاناة قدر مكتوب علينا أن نتوارثه .
وفي قصيدته (الضحكة المرسومه على وشه ) نجد زمن البراءة المفقودة واضحًا ، وقد أبدع الشاعر تصويريًا عندما قال :الضحكة المرسومه/ على وشه / شلال أفراح / بتروي شقوق .. / الروح العطشانه .. / بقالها سنين ..
يضاف إلى ذلك أن الشاعر يكرر أن فوانيس العمر تضئ ، حتى تذيب حزن الأيام وترطب ليل الوحدة ، التي تفرد ظلها على الطرقات ، وتوزع الأحلام على كل الفقراء ، لتؤنس كل أولاد الحارة ، ولكن كل ذلك كان ولن يعود .
والقصيدة الأساسية في الديوان أو ما قد يمكن أن نسميه ( المستر سين) ، هي قصيدة (ريحة الموت ) وهي عنوان الديوان وتكشف بجلاء عن سمات الإنسان المصري وما يعانيه ، حيث يقول : أنا بق ميه ملوث / ولقمة تسد جوعي / وهدمه باليه / تستر البدن / إلمحسوب ع البشر / غلط / أنا الواجب الفرض / إللي مش مكتوب / فـ الكراريس .
وفي العديد من القصائد يركز الشاعر على تيمات الموت والوحدة مثل (شوارع العمر) و (واحد يشبه لي .. كان بيضحك) ، و (مشهد عبثي يوم موتي) حيث يقول :
يوم موتي / اتحاد الكتاب .. / ها ينشر نعي / فـ الجرانين / ويصرف شيك للورثة / ويعمل حفل لتأبيني / وبنر كبير .. / عليه اسمي وصورتي / وبناتي وأهلي ها يحضروا / والكل ح يبكي / يوم موتي / ها يكتب عن شعري .. / الساده النقاد / دراسات هامه جدًا / وإني صاحب صوت .. / متميز / صوتي .. / إللي ماحدش فكر / يسمعه مره / أو يكتب عنه / وأنا حي ..
ولكن كل قصيده تحمل بعدًا وعمقًا تعبيريًا يبعدها تمامًا عن التشابهية مع الأخرى أو الوقوع في مأزق التكرارية ، أو هاوية النمطية ، فهو ينجح في أن يجعل من كل قصيدة لوحة إبداعية متميزة متفردة ، تشعرنا بحق أنه يمزج بين الفكر والفن ، أي أنه يطبق رؤية (ت . س . إليوت) في المعادل الموضوعي .
و البراءة المفقودة نجدها في العديد من القصائد ومن أهمها : (حلاوة زمان ) و (بيلياتشو) و (عيل صغير كبير) ، وهذا الفقد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعنى الذي تشي به قصائد الشاعر ألا وهو أن الموت يعني مجازيًا موت العديد من الأشياء الجميلة في حياتنا والتي كانت تعطيها مذاقًا خاصًا اسمه معنى الحياة .
ولأنه مصري جاء من أرض الأصالة والانتماء ، يرتبط الشاعر بعائلته ارتباطًا حميميًا رائعًا ، فقد تكلم عن الأب ، وعن الأم في قصيدة (مقامات في الغرام) وغيرها ، وعن الجده في قصيدة (لما باعدي من قدام بيتها ) والتي تأثرنا بها بشكل كبير وبالذات عندما يقول :عارفه ياستي / من يومها .. / مرر طعم العسلية / والبخت بيطلع فاضي / وغابت عني .. / كل معاني .. / الحنية ، وعن الابنة فاطمه ، والتي نجدها في قصيدة (اعتراف ) يعلن أنه سيعترف : علشان البت فاطمه .. / تبطل بكى على موتي / وترتاح م الدمع النازل شلال .
الديوان مقسم إلى خمسة متتاليات شعرية ، ويشكل وحدة عضوية واحدة ، وذلك عبر (وحدي فـ العالم) 10 قصائد ، و (كمين) 9 قصائد ، (قصائد قصيرة) 15 قصيدة، و (ميت ماشي ع الكوبري ) 9 قصائد ، و (مش متعود إني أغني) 9 قصائد .
والشاعر يبدأ كل جزء من الديوان بمفتتح ، والمفتتح دائمًا هو منطلق لما يتضمنه كل جزء من القصائد التي حواها الديوان ، أو فلنقل (مفتاح) لكل متتالية شعرية .
والجزء الأخير من الديوان تتجلى فيه الحكمة الممزوجة بالصوفية العميقة ، حيث نرى الحزن عند الشاعر يأخذ بعدًا جديدًا ، ولعل ذلك قد تجلى في قصيدتيه (مقامات في الغرام ) و (من كتاب العشق) ، أما قصيدة (جاي لك مطاطي الراس ) فهى تعبر عن تجربة إيمانية متميزة ، فكل ما نقابله من متاعب ومعاناة وإحباطات قد تؤدي بالفرد إلى مسالك لا ترتضيها ما نشأنا عليه من قيم ومبادئ وأخلاقيات ، بل قد تؤدي أحيانًا إلى الموت كمدًا ، وشاعرنا هنا وجد الملجأ أو الملاذ وهو العودة إلى الله سبحانه وتعالى يطلب منه : ارضى علينا .. يارب / ساعت ما يبقى حساب / ملناش غير رحمتك / يا مسبب الأسباب .
وأشير أخيرًا إلى لغة الشاعر الراقية ، البعيدة كل البعد عن الابتذال أو الإسفاف ، إنها عامية محترمة ، لا تخدش الحياء ، تحية للمبدع مجدي عبد الرحيم الذي جعلنا نتمنى موت كل ما هو رديء وقبيح ومسف في حياتنا ، في نفس الوقت الذي نتمنى فيه أن تعود إلينا قيم الحب والخير والجمال والبراءة والتماسك والأصالة .
2017-03-01