رامي يحيى: الكاتب ثائر بطبيعته.. وأنا هويتي مصرية مش عربية

تحاور: فاطمة الزهراء الرغيوي

 

عندما تكون الكتابة هي الحياة لأنها موقف وممارسة سياسية ووجودية، فإنها بالضرورة كتابة عميقة كجرح لا يندمل إنما يمشي بعيدا في أغوار التفاصيل اليومية والأسئلة المقلقة ليخلق نصوصا لا تترك القارئ محايدا. إنها الكتابة التي تجعلك تنظر إلى المرآة لكي تسائل نفسك قبل أن تسائل الآخرين. إنها مراجعة للذات وللمتوافق عليه. نحتاج ونحن نقرأ نصوص رامي يحيى إلى التخلي عن كثير من الأحكام النمطية التي تحد من أفق تطلعاتنا. يجب أن نقرأ نصوصه ونحن مستعدين للمواجهة مع هذا القلق الذي يسكن الكاتب ويسكننا أيضا، والذي يتبدى في العنصرية والتخلف والجهل. رامي يحيى لا يرسم صورة جميلة للمجتمع، إنه ليس مهووسا بتجميل الواقع، بل يضعه أمامنا عاريا بلا إضافات. المفارقة أن الكاتب يجعلنا نضحك بصوت مرتفع، نضحك من نواقصنا وتلك التفاصيل التي تصف تحديدا مجتمعا (مصريا ولكنه يمكن أي يكون مغربيا أو لبنانيا أو أيا كان) راسخا في مظاهر العنصرية والتخلف بكل اشكاله.

إنها كتابة تشبه اللعنة. اللعنة التي يطلقها الغريب، أو المواطن “إسود” لمجتمع لا يريد أن يراه. أنا هنا أمامكم، يقول لنا رامي يحيى، أنا هنا رغما عنكم وعن بصيرتكم التي لا ترى إلا وفق نمطية بالية، ترضخ لكل أنواع التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

في هذا الحوار مع الكاتب والشاعر رامي يحيى، ننصت لصوت المواطن الهامشي والغريب. لسنا أمام كاتب نمطي، يُجَمّل صورته لأجل القارئ، إننا أمام كاتب يشبه نصوصه: عار إلا من الدهشة ومن الأسئلة.

• مرحبا رامي، لنبدأ من البداية، كأنك لست مصريا عاش مرحلة الثورة.. لنتحدث أولا عن الكتابة، لماذا تكتب؟

بأكتب عشان أعيش.. ع الورق بتنفس.. بأخلق عالمي وأحقق انتصاراتي وأعترف بأخطائي وأمارس نزواتي… قامت ثورتي وانتصرت منذ سنوات طويلة.

• كيف يكتب النوبي بلغة عربية/مصرية، متغاضيا عن لغته الأم؛ أو كيف يوفق بين كل هذه المكونات ليخلق لغته الخاصة؟

للأسف يتم محو ثقافتنا منذ عقود تسبق تاريخ ميلادي، وأنا الآن لا أجيد لغتي الأم ولا حتى أفهمها، لذلك أنا أتعامل بلغتي العامية المصرية التي كونت شخصيتي.. وأنا شايفها لغة مستقلة عن العربي ولو فيه إرادة هيكون من السهل تقعيدها وتبقى اللغة الرسمية للمصريين اللي فعليا مابيعرفوش عربي كويس.

• في ديوانك “الغريب”، هناك مساءلة للهوية ورجوع بشكل أو بآخر لجذورك النوبية، كيف تنطلق من هذا لتكتب شعرًا يمس القارئ دونما تحديد مسبق لهويته؟

لم أتباكى على النوبة بشكل تقليدي أو خارجي، بل تكلمت عن المعاناة مع الغربة والاغتراب في المدينة.. ودي -في رأيي- معاناة أغلب سكان المدن في العالم، كما أن التركيبة السكانية للقاهرة بتضم الوافدين من كل حتة في مصر.. ومن النادر الوصول لشخص أصوله قاهرية.

• أنت تكتب الشعر والقصة والسيناريو والمقالة أو العمود أحيانًا، يبدو لي أنك منشغل برسالة ما، كأنك تسعى عبر هذا التنوع إلى تقديم مصر التي تعرفها؟

بأحاول أستخدم كل ما أملك من أدوات للتعبير وأسعى لاكتساب المزيد من الأدوات والمهارات للتعبير، باشتغل على تقديم المجتمع اللي عايش فيه زي ما هو من غير رتوش.. كمان بأسعى للتعبير عن ذاتي كإنسان فرد داخل المجتمع ده، أحيانًا يكون الفرد ده هو النوبي اللي فقد كل خاص عشان مصلحة المجتمع ككل، المجتمع اللي لا يعترف أبدًا بالجميل لا معنويًا ولا ماديًا ولا أدبيًا، وأحيانًا يكون الفرد هو اللي بيمتلك روح حُرة تتصادم مع قيود المجتمع اللي لا تشعر له بأي انتماء، وأحيان تانية يكون الفرد المتدبر اللي بيتصادم ومسلمات لم يشارك في صنعها.

• بأي مصر تحلم؟

مصر الحُريات.. “جمهورية مصر” بدون إضافات، مصر الدولة العلمانية اللي تحترم مواطنها وحقوقه فيحترمه العالم أجمع، مصر اللي أقدر فيها أنا وحبيبتي نبوس بعض على ضفاف نيلها من غير ما تضايقنا نظرة عابر سبيل.

• هل يستحق الوطن كل التضحيات (اعتقالك على خلفية إضراب 6أبريل 2008، واعتقالك خلال ثورة 2011)؟

اعتقاد أن مفهوم الوطن اللي كنا بنتلقنه في المدارس وأفلام وأغاني المناسبات انتهى، وقد كتبت حوالين الفكرة دي في ديوان الغريب، الوطن في رأيي هو الإنسان نفسه.. بالتالي فأنا خرجت عشان حريتي وتحسين أوضاعي المعيشية، خرجت ضد عسكر بيفتشوا جيوبي وشنطتي في أي وقت بدون وجه حق.. واستمريت ضد دقون بتفتش في قلبي وتحاسبيني وكأن أصحابها واخدين توكيل الله على الأرض.. ودلوقتي رجعنا تاني لمربع العساكر فمستمرين.. وأعتقد أن حريتي وحياتي يستحقوا النضال.

• كيف نكون ثوريين؟ هل مازالت الثورة ممكنة وقابلة للتحقق؟

الثورة ممكنة وقابلة للتحقق بكل أشكالها، أما بخصوص أن الإنسان يكون ثوري فهنا لازم من نحدد هل المقصود الثورية بمعناها السياسي ولا الفلسفي؟؟

الثوري السياسي ينفع نكونه وقت الأزمات السياسية.. وأعتقد أن فيه ملايين غيري أكثر قدرة على العطاء في المجال ده، وبطبيعة الحال الطليعة الثورية مش بالضرورة تفضل “بشخوصها” في المقدمة بعد اندلاع الثورة فعليًا.

أما أننا نكون ثوريين بالمعنى الفلسفي للكلمة فده أساسًا مش اختيار.. فالكاتب أو المبدع بمعنى أدق هو ثائر بطبيعة الحال.. أو مدعي إبداع وما عندهوش حاجة يقدمها.

• ما رأيك في مصر الآن، بعد الثورة وما تلاها؟

مصر بتنهار تمامًا وفي طريقها لقاع حفرة التردي اللي عايشين فيها من سنين طويلة جدا.. أتمنى نوصل بسرعة لقاع الحفرة عشان نبدأ الأزمات الكارثية اللي هيتمخض عنها جيل هيبني دولة حقيقية تتفادى كل أخطاء الماضي، دولة بترتكز على الهوية الإفريقية والعلمانية.

• “لبكرة هلت بشايره”: أهديت ديوانك “كلام كريم” إلى الغد وأهديت مجموعة “المواطن… إسود” إلى الحياة، كأنك تتعلق بالأمل؟ هل تحب الحياة؟

أكيد… حب الحياة غريزة في الكائن الحي، مافيش غير المتطرفين الدينيين همه اللي تفننوا في تقديم نماذج تكره الحياة وتسعى للموت، وده بيكون عن طريق مسح دماغ الإنسان وعزله عن واقعه وصب تركيزه على تحقيق أحلام حسية جدًا لكن في عالم تاني تصبح فيه كل حاجة هو بيحاربها مباحة له لوحده.

• كلام كريم، يبدو كإعادة توظيف للنص القرآني، ما الفكرة المدهشة التي دفعتك إلى الاشتغال على هذه النصوص الشعرية؟ ثم كيف نقترب من النص المقدس دون أن نقع في فخ التناص المجاني والدعاية الجاهزة لما نكتبه؟

استخدام المُقدس له فوايد كثير.. زي إنه بيداعب مناطق مشتركة مع المتلقي اللي ممكن مايكونشي فيه مناطق فكرية أو ثقافية تانية تجمعنا سوا، كمان بيثير جدل معرفي داخل القارئ بين الموروث وما يحمله من رؤى وبين رؤية النص الإبداعي، زي ما عمل أمل في قصيدة “حوار مع أبن نوح” وفي مناطق تانية كتيرة من كتاباته خصوصًا ديوان “العهد الآتي”.

مسألة التناص الفني والاقتراب من النص المقدس دون الوقوع في فخ المجانية أعتقد إنها مش بالصعوبة اللي تبدو عليها.. المهم أن الكاتب يركز في اللي عايز يقوله.. وماينساقشي ورا النص المقدس، وطبعًا لازم يتعامل بحرية وبدون تردد أو خوف.

• ألا ترى أن من يفتي بعدم قراءة كتاب ما، إنما يبالغ في الفصل بين خانات الخير والشر؟

أرى إنه جاهل ويدعو للجهالة لا أكثر ولا أقل.

• في “المواطن… إسود” تلجأ إلى القصة لتكتب ما يبدو أنها سيرتك الشخصية؟

في المعتاد أنا باندهش من سيل الروايات والقصص اللي بتكون عبارة عن تجارب شخصية، ودايمًا بانحاز للتجارب السردية اللي قايمة على خيال الكاتب زي شغل حجاج أدول وإبراهيم الكوني، وده اللي قدمته في مجموعتي الأولى “أساطير”، بس طبعا ماقدرش أنكر إعجابي بكثير من الأعمال القايمة على تجارب شخصية زي الخبز الحافي لإبراهيم شكري أو انفجار جمجمة وتحت خط الفقر لإدريس علي، وعشان كده في التجربة دي حبيت أجرب الشغل على تجربتي الشخصية في الحياة واللي راهنت على تميزها لأني عارف كويس أن حياتي غير تقليدية والتزامي بنصيحة أ. محمد هاشم.. وهي أني أكتب زي ما باحكي.

• السارد في مجموعتك هذه يكتشف الحياة بكل أفراحها وآلامها وغرائبيتها وتلك العنصرية الممتدة نحو المواطن؟

أه.. حياة المواطن في الحكايات المرصودة في المجموعة تجمعها الغرائبية واختلاط مشاعر الفرح بالحزن.. وتبقى المظلة اللي تجمع كل ده هي العنصرية اللونية والسخرية من كل شيء.. حتى الذات.

• نضحك ونتعاطف ونبكي مع ساردك المشاغب البريء، البني رقم 33 الذي يكتشف أنه ليس مثل الأطفال الآخرين في عمر السابعة، كيف تتحول العنصرية إلى بنية مجتمعية؟

العنصرية متأصلة في بنية المجتمع المصري من أكثر من ألف سنة، فمش سهل أبدًا التعامي عنها، إلا بالنسبة لأبواق النظام اللي قادرين يشوفوا الشوارع رايقة والأسعار رخيصة، بس العنصرية اللونية تحديدًا موقفها معقد أكثر.. لإن حتى النخبة المثقفة عندها مشاكل في الاعتراف بوجود عنصرية لونية في المجتمع، رغم إن الكل عادي جدًا بيقول “يا نهار إسود” و”يا ليلة سودة”.. إلخ، ويتهم المواطن بالهستيرية لو شاور على إن كتب الأحاديث بتسبق اسم معاوية بن أبي سفيان بلقب “سيدنا” وطبعًا مافيش الكلام ده بالنسبة لمؤذن الرسول بلال بن رباح.وطبعًا ماحدش يقدر يجيب سيرة قوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
إنما دايمًا بيتم تصدير قوله: “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.. في إغفال متعمد لكون النص هنا بيشير لوضعية البشر وقت الحساب وفي نظر الإله شخصيًا.

• هل أنت مواطن أم غريب؟ كيف تفسر انتقالك بين هذين اللقبين؟

في ظل المدنية المواطن هو غريب في أغلب الأحيان.. ما دام يعيش في المدينة، ده غير أن كل تسمية من الأتنين ليها علاقة بحياتي فعلًا، فبالنسبة لـ”الغريب” فأنا ابن القاهرة بالميلاد والحياة ولكن طول الوقت يفضل عند كل اللي حواليا شعور أني مش من هنا بسبب لوني، واللي بالتبعية خلاني دورت وعرفت أصولي وبقيت فعليًا عايز أعيش هناك وسط ناسي، واللي أنا في وسطيهم قاهري غريب.. واللي همه أساسًا أغراب مهجرين من أراضينا الغارقة.

أما المواطن فهو لقبي الوحيد في هذا الكوكب..
وأغلب ما بتعرض له من مواقف في حياتي مصدرها أني محض مواطن فقير.. وغالبا ما باستخدم اللقب في محاولة لتنبيه البشر لحق المواطن في التعليق وأبداء الرآي في كافة القضاية اللي بتمسه.. لأن المجتمع مكون من مجموعة من المواطنيين.

• ألاحظ أنك تكتب بالمصرية.. وحتى أن أغلب إجاباتك بها.. هل هو موقف من اللغة العربية؟ وما علاقتك باللغة؟

طبيعي أني أكتب بالعامية المصرية.. لإنها لغتي الأم، أما اللغة العربية فهي لغة اتعلمتها فقط في المدرسة ومش باستخدمها إلا مضطر، زي أغلب الشعب المصري، ومع الوقت بقى عندي موقف من اللغة العربية بوصفها لغة المحتل اللي مش بس اشتغل على نهب ثروات بلدي زي أي احتلال مر علينا.. إنما اشتغل كمان على طمس هويتنا الإفريقية لصالح هويته وثقافته البدوية.

أما عن علاقتي باللغة فهي علاقة بسيطة.. وتتلخص في نقطتين أتنين:
1- هي الأداة اللي باعتمد عليها في التواصل مع العالم وتوصيل أفكاري والتعبير عن ذاتي..
ونقطة التواصل مع العالم دي بالذات تحكم على اللغة العربية بإنها فاشلة هنا في مصر..
أو في أي دولة من اللي بيطلق عليهم دول عربية، تخيلي معايا كده وأنتِ قاعدة في قهوة وبتطلبي من
القهوجي شاي فتقولي له: أيها النادل.. أريد كوبًا من الشاي الساخن على أن يكون قليل السكر من فضلك.
هل ممكن القهوجي يتعامل معاكي على إنك إنسان سليم العقل؟؟؟
في الواقع مافيش مجال حقيقي لاستخدام اللغة العربية إلا في حال التعامل بين أشخاص من دول مختلفة
ومش قادرين يفهموا العامية الدارجة اللي بيستخدمها كل شعب.

2- اللغة هي جزء أساسي وعنوان واضح لهويتي.. وأنا هويتي مصرية مش عربية.

• في الأخير، لأسألك هذا السؤال الغريب: هل تصدق أنك كاتب؟ لم؟

مصدق تمامًا.. وده لـ3 أسباب:

• إرضائي لذائقتي اللي باعتبرها الحكم بالخاص بيا.

• اللي بأقرأه في عيون الآخرين كرد فعل على قصايدي.

• قرايتي للشِعر المطروح على الساحة الأدبية.