حول تجربة القاصة لطيفة باقا | عبد الواحد مفتاح
نصوص لطيفة باقا كانت دائما لذيذة. يكفي أن أفتح مجموعتها القصصية لأجد حكاياتها الممددة بدفء سخي. عيناي تركضان بساقي نعامة فوق الورقة. الكلمات تتطاير في رأسي مشَكّلة خيالات وأحاسيساً تتدفق في فتنة شبيهة بتلك التي يعيشها الدفق الحيوي، في أثناء عملية التدافع – فرحاً باللقاء السعيد- هكذا أتذكر الأمر. كنت دائما مولعا بالفاكهة التي لم تمسسها يد، وكذلك كانت نصوص باقا مورفة ومتسلحة بلغة غير مسبوقة، تستقبلك بابتسامة مكوية بعناية. لا ترتب الكلمات كسائل لحيوات عديدة، لكل واحدة شخوصها وتفاصيلهم العالقة بالحياة، بقدر ما هي متعة تتواطأ، دائما، على أن تتحالف مع الجرأة في رصد للشفيف والشيق من سيرتنا. صحيح أن الحياة تنطلي على الجميع، لكني في هذه النصوص كنت أنظر إلى شظاياها ومراياها التي ستتعرف بها على نفسها في قلبي.
قصص أقراها بالجدية نفسها التي لطفل يلعب، تلفني إزاءها محبة هائلة، وأنا أتحسس الدفىء الذي يجول في موسيقى لا يسمعها سواي.
فلغة الحكي القائمة في مهب التجريب لدى لطيفة باقا، والمطرزة بشعرية مغرية تتميز بنكهتها الخاصة، وبشفافية مثيرة للانتباه، لغة مطواعة لا رتوش فيها، كقبلة لاسعة تُحرّض بعضها البعض على تعرية أسئلة كثيرة، تندلع فينا بمجرد التوغل في فضاءات الحكي المشغول باستغوار البسيط والضارب في العمق. الذي يبسط الذاتي والإنساني ظله على كامل أجزاء الفعل السردي داخله.
في قصة “إلى أين تتجه هذه الحافلة؟”، تكتب القاصة المغربية لطيفة باقا: “للمرّة الثالثة خلال الأسبوع نفسه، سوف تتقاطع طريقي بطريق (دنيا).. في الحلم. كان حلما بالألوان، عرفت ذلك عندما تحرّك أمامي ثوب بنفسجي كانت ترتديه امرأة لها صوت أمي، وتأكد لي ذلك أكثر، وأنا أرى طفلة تنحني لتلتقط مصاصتها الصفراء من الأرض. في تلك اللحظة بالضبط سوف يصطدم كتفي العاري بكتف دنيا العاري، فأشعر بتلك الرعشة العنيفة التي أعرفها. نظرت إليّ بوجهها الدائري الجميل ولم تبتسم ثمّ أكملت طريقها. نحن في حي طفولتنا القديم. وقفت أتابعها وهي تبتعد، كانت في حالة مسالمة بجلبابها الأسود دون أكمام المشغول بـ(السّفيفة) الحمراء. اكتشفت أنّها (دنيا) قبل الانهيار العصبي الذي سيصيبها سنة بعد زواجها من عبد الحق السّني، مدرّسنا في مادة الرياضيات ..عندما كانت هي تتزوج كنت أنا أتبادل الرسائل بنسبة رسالة في الأسبوع مع (س. س) الذي سيحبني في ما بعد…»
يحضر دفء البعد الإنساني وشاعريته في تجربة باقا، وهو بعد ينحرف عن التقنيات السردية، ليندغم بمقومات مغايرة بسحر الكتابة الخاص، وهي تدثره بامتداد بلا ضفاف ينفجر سياقيا ودلاليا، منتهكاً عوالم نفسية تتخذ من المسكوت عنه منطقتها دائما، وليصبح القارئ مندمجا ومكتشفا لا متماهيا.
فاختراق قشرة الواقع، والخوض بليغا في عوالم الإنسان، وإبراز تشوش الرؤية لدى هذا الأخير- الذي يطال أحاسيسه التشيؤ-فضاءات إلى جانب ثيمات أخرى لعوالم هذه القاصة التي تمتطي لغتها ببديهة صائبة وانسيابية مشرقة، وهي تكتب متخذة من الذاكرة والحكي من الداخل مرجع سردها، في تناظر بين البنية الجمالية والبنية الاجتماعية، بطريقة غير مباشرة ولا شعورية. وهذا ما يجعل القصة هنا تفاعلاً أكتر ترابطية، بين المجتمع والأدب، من عديد الدراسات السوسيولوجيا الجافة والمُملّة دائما.
لغة لطيفة باقا التي نكاد لا نخطئ رحابتها، وجموحها نحو تغيير خطتها وعُدّتها مع كل مغامرة قصصية جديدة، تَتغيَّا الكشف عن عالم يظل أبدا بحاجة للكشف. بمنظور تشكيلي للواقع له قدرة فارقة، تتجاوز به الطرائق التعبيرية القديمة، وهذا ما يجعل كثيرين ينظرون اليوم بانتباه كامل لضوءٍ خلاق يشع من هذا السرد وبراعته، التي لا ينمقها عن تشكيلات ذهنية باردة، بقدر ما يلتئم بالتفاصيل واليومي بلغة بصرية تمتح من إعمال الجهد الأدبي طرائقها.
تقول الساردة في قصة آيس كريم:
“أمامي كان أبي المريض الذي سوف يموت في الأيام القليلة القادمة.. يجر قدميه الثقيلتين ويمضي. نظرت إلى جسده القديم يتحرك أمامي. لم يكن نحيلا وبئيسا كما كان الأمر قبل رحيله. أبي الآن يبدو تماما كما كان دائما خلال طفولتي بأكملها قصيرا وبدينا بعض الشيء، بهيئة مهملة ومشية خفيفة (كان يسرع في ما يبدو نحو هدف ما لم نكن نعلم نحن ما هو). رأيت بنطاله الكحلي يسقط قليلا من حزامه فينكشف جزء صغير من مؤخرته… شعرت كالعادة بالخجل ثم بالغضب. وركضت نحوه لأرفع سرواله وأشد له الحزام (أبي لم يكن قد جن بعد، وإن كانت لعنة الجنون والإلقاء بالنفس من النوافذ تتربص بعائلتنا منذ القرن السابق. شيء ما كلعنة الذنب عند عائلة أركاديو في مائة عام من العزلة).. “.
إن اللمعان الغائر بين أخاديد الكتابة السردية، هو ما يجعلها مأسورة بكثافة واقتصاد، ويَهب طرائق اشتغال الحكي عند لطيفة باقا- وهي تُعبّر عن الـ”أنا”- تجاوز الكتابة الناسخة والمكررة للواقع القائم. يقول محمد القاسمي: “المعروفُ عن القاصة لطيفة باقا أنها تقطر لغتها في صفائية كبرى، وتعيد تشكيل عوالمها القصصية اعتمادا على تشكيل هندسي بديع يجمع بين الحكاية وتفكيكها.”.
تتعمد قصص باقا اقصاء الراوي العليم – الذي طالما يبدو مثل شبح تافه يعرف كل شيء – لتُقوّي مكانه حضور الشخصية المركزية، التي يصير ضمير المتكلم فاعلها في سردية ارتدادية، وسيلتها التجاوز والاختلاف لملاحقة سؤالها المحموم اتجاه اليومي والإنساني.
فالنبش عميقا داخل الإنسان والحياة، واستحضار الطفولة والحلم ثيمات تحضر بكامل تفاصيلها في نصوص باقا، مُضَمّخة بتعبيرية تتخذ من اللغة الشاعرة كامل أدواتها، وهو ما يعطي لحضور هذه الثيمات دفئا حميما يوفره الانسجام والتناغم. فالكتابة التصورية هنا التي تتخذ من آلية المُحاكات تبليغا عن الذات وفضاءاتها، بفنية هي نهج الكتابة ونسغها عند هذه القاصة، التي تعمل على المراوحة بين الأزمنة التي تنسل من ثقب الذاكرة، وهي مراوحة يفقد فيها الزمن المادي طبيعته التعاقبية، حين تتخذه كسند تتناوب على تعاقباته أصوات متداخلة ومتراكبة داخل الذات، وهي تعري مغاورها، وتُقحِمه كوجه للتشظي والتقاطع الذي تعرفه. فالعامل النفسي الذي يبسط سيطرته على كامل المسافة بين اللغة وما تبلغه كفعل للحكي، هو ما يجعل هذا الحكي ذا ميزة وطبيعة خلاقة. فإلى جانب مقدرتها على تجاوز الشَكلانية القارّة والساكنة. وهذا راجِعُه اشتغالها الركيز على صقل أدواتها باستمرار، وتجديد ينابيع الكتابة لديها. وهو ما يجعل نُقادا كثيرين يجدون ارتباكا واضحا في النظر إلى تجربة لطيفة باقا، وتأطيرها في خانة الأدب النسائي، الذي طالما اتخذته عديدات ذريعة بالتَمَوقع داخله وإعلاء تسمياته كخندق يحميهن من سؤال الإبداعية وشرطها.
من السمات الأساسية التي يصعب إغفالها في قصص لطيفة باقا، تلك المقدرة الشفيفة على اقتناص التفاصيل، ورَتقِها بالإبرة النحيلة للكتابة. وهو اقتناص مضيء يبتغي تقنيات سردية عالية لافتعاله، إلى جانب تكثيف الخطاب ومضاعفة دواله، الذي تعتمده كمفارقة حقيقية، حيث تشعر أن هذا التكثيف ما هو إلا اختزال لرواية بفصولها وشخوصها في قصة تسمى هنا تجنيسا بالـ قصيرة.
تقول في قصة “حذاء بدون كعب”:
” أكثر النساء حقيقية وعفوية عاهرات ” كتبت خلف الصورة التي أهدتني إياها حلومة هذا الصباح والتي تمثلها وهي باللباس الزموري الجميل.
الدكالية مستلقية الآن على صدرها تقضم تفاحة كبيرة. راق لي منظر ساقيها الطويلتين وهما تتأرجحان في الهواء وسط سروال البيجاما، فكرت أن هؤلاء النساء لم يسبق لهن أبدا أن ارتدين سراويل طويلة:هن الآن مضطرات لا غير.”
تبرز جمالية الحكي من الذاكرة، في فعله الزمني المتعدد تعدد وجوه الحياة نفسها. على أن الذاكرة ذات طبيعة لا تحتفظ إلا بالأساسي والجوهري، والتي لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها نافذة على الزمن الذي يمضي. صحيح أن ميزتها البارزة أيضا هي التشظي الذي تعتمده القاصة أسلوبا وسندا، به تنزاح نحو عوالم بعديدة – زمنيا- تحفر دفئها في حكي لذيذ، تتعدد بنياته وتقاطعاته الاجتماعية والفلسفية. وهذا ما يجعل توظيف اشتغال الذاكرة في بنية الحكي أمرا بالغ الإصابة، تقنيا على المستوى التجريبي على الأقل. إلى جانب اعتماد ضمير المتكلم الذي يتخذ دور الشخصية المحورية، وهو ما يجعلها مرئية أمامنا طوال النص، وبؤرة جذبٍ وتفاعلٍ وكل القيم والمقولات الثقافية والاجتماعية، المنتشرة في ثنايا هذا المتن السردي. الكتابة هنا بضمير المتكلم، هي تجاوز بالضرورة لمحدودية الأنا. فالكتابة هي اختراق في فاعلها الأساس، وهي هنا تتجاوز الأجوبة المكرسة والأساليب المتكلسة. فاستخدام ضمير المتكلم، هو الاستخدام الأقدر على الإلتصاق بالواقع ومبارزو تسمياته ،فضمير المتكلم –البطل الإشكالي – يتخذ على عاتقه تصريف المضامين والخطابات، وتفريغ الحمولات الدلالية التي تبتغي الكاتبة تصريفها بأمانة تَعبيريتُها شديدة البياض.
فضمير المتكلم المضارع زمنه، ضمير حادق ومشاغب، الإضاءة سبب استعماله فهو دائم الوعي بعدم القدرة على إخفاء نفسه، أو مراوغة النظر بعينين واضحتين لمسروده، وهو مسرود يتجاوز ذلك الوزن الثقيل “للطابو الاجتماعي” في الخطاب. ومن أحابيل استخدامه عند باقا أن تصير “الأنت ” هو الراوي للقصة، والمَروي عليه وله. وهنا يبرز شغف القراءة وفاعليتها بعيدا عن أي وصف أو توجيه لراوي.لعبة منكشفة القواعد تبدو فيها القاصة تروي العالم من بؤرتها، مستخدمة الزمن الشرطي والزمن المستقبل. وهذا يجعل السرد أكثر مرونة وذا كينونة تتجنب أي ثبات، وهي تُبلّغ عن نفسها من وراء حجاب شفاف، لا يبتغي أي فروض ولاء لقواعد الكتابة الكلاسيكية.
تكتب باقا بوعي واقعي قائم لدى الشخصية المركزية في الحاضر، بلغة لا تخفي مشاعرها، وهي تعلن تموقعها الوجودي والجدلي، من الأحداث المطروحة، بمسرود له قوانينه النابعة من استقلاليته عن القوالب الجاهزة والحذلقة، بمعناها السلبي والارتجالي (الذي طالما نجدها عند كثرين في خطاب حكائي، لا يحترم السيرورة المتنامية لمَحكياته، والتي تظل مجرد محكيات طوال الوقت، مهما زيّنت واجهتها بكتابات صحفية عنها، وتُوّجت بجوائز بتسميات كبيرة وتافهة – وهذا واقع وكثير في المشهد الثقافي في وطننا الحبيب هذا-. )
عند معاينة آليات الصنعة الحكائية عند باقا، تجذ أنها تنفث روح السينما في نصوصها. هذه النصوص التي تتغيا التجاوز والمداهمة باستمرار، في تصوير مشهدي مشحون بالدفء الإنساني القادر عن النيابة عن الجميع، لأنه يحمل في طياته قلقنا، وما يعتمل فينا، من تساؤلية تجاه المجتمع والحياة. فالأفعال الصادرة عن الإنسان سيرورة بالغة التداخل والتركيب. تجذ هذه النصوص تسائل البديهيات الملتصقة بها، عبر لغة واصفة ولاذعة في الوقت نفسه، لا ترتهن إلى شحن الواقع بما يجب أن يكون عليه، بقدر ما تستخدم مقدرة سردية مطرزة بأسلوبية منفتحة وحميمية، للكتابة عن الحياة، في مظهرها الذي يكاد يكون مألوفا، وهذا ما يأخذني للقول بـ”الكتابة المضيئة” لدى القاصة لطيفة باقا. مضيئة ليس فقط لأنها تخترق “لاءات” المسكوت عنه، وإنما لإشتغالها على الفضاء النفسي الفاصل والشفيف. والذي يصعب اقتناص تصويرات فتوغرافية له، إلا بمقدرة في الكتابة تضاعف اجتهاداتها وتشحذ لمعانها، وهو ما نكاد لا ندركه إلا لدى كتاب قليلين ومضيئين.
من هنا لا تستطيع الكتابة عن نصوص باقا إلا فعل المصاحبة، مصاحبة بقراءة لا تشبه غير القراءة، قراءة لا تدعي النفاذ إلى مكنون مجمل المسلكيات الجوهرية الثابتة التي تتحكم في بنية النص لدى هذه القاصة، بقدر ما هي قراءة تتودد – بعيدا عن أي بلاغة لغوية أو براعة نقدية – بافتتانها بما تقرأه.
عبد الواحد مفتاح عبدالواحد مفتاح مفتاح 2017-02-11