حول الأنواع الثلاثة من القرّاء: هيرمان هيسه – ماريا بوبوفا / ترجمة: شهد أبو سلطان
“في تلك الساعة عندما تكون مخيلتنا وقدرتنا على الربط في ذروتها، قراءتنا حينها لا تعود مقصورة على ما هو مطبوع على الورق ولكننا نسبح في سيل من الحوافز والإلهامات التي تصلنا مما نقرأ.”
الفئات هي كيفية عبورنا للعالم سواء للأفضل أو للأسواء، تقول مقولة أمبرتو إيكو الرائعة: ” يساعدنا هذا الحافز اتجاه التنظيم على جعل اللانهائية مفهومة، ولكن الجانب الآخر منه محفوف بالمخاطر وهو منبع من الصور النمطية”.
وضع هيرمان هيسه (ولد في 2 من يوليو عام 1877 وتوفي في 9 أغسطس عام 1962) هذه الطبيعة المتناقضة للفئات في قلب تصنيفه للثلاثة أنواع من القرّاء، وهو نوع من التسلسل الهرمي لأسلوب القراءة الذي أوجزه بالإجمال في مقال رائع بعنوان “في قراءة الكتب” في عام 1920. أُدرج فيما بعد في تحفته الفنية “معتقدي: مقالات حول الحياة والفن ” (المكتبة العامة) وهي من مختارات هيسه الهائلة، والتي قدمت لنا الكاتب المحبوب والحائز على جائزة نوبل، حول: لماذا لا يفقد الكتاب سحره أبدًا.
لاحظ هيسه أنه من علم الأساطير القديم إلى علم النفس الحديث، نثرت تجربة الإنسان البذور على هذه التصنيفات للشخصية. فكتب هيسه:
“إن لدينا ميل فطري لإنشاء أنماط في عقولنا، وتقسيم البشر وفقًا لها. ولكن، قد يكون الكشف عن هذه الفئات، بغض النظر عما إذا كانت تنبع من تجربة شخصية بحتة، أو من محاولة الإنشاء العلمي للأنواع، والانتفاع بها، في بعض الأحيان، ممارسة جيدة ومثمرة لاتخاذ عينة إحصائية فيما يتعلق بالتجربة بطريقة أخرى، وكشف أن كل شخص يحمل آثار في نفسه من كل نوع، وأن الشخصيات والأمزجة المختلفة يمكن إيجادها كصفات متراوحة ضمن فرد واحد.”
يجادل هيسه بأن الأمزجة متعددة عندما يتعلق الأمر بشخصياتنا كقرَاء:
“وبما أنك قد تتخذ موقفًا مختلفًا تمامًا اتجاه أي شيء في العالم، لذلك من الممكن أيضًا أن تتخذ موقفًا ما اتجاه الكتاب.”
قبل نصف قرن أعلن إي بي وايت أن الأطفال هم “أكثر القرّاء على وجه الأرض انتباهًا، وفضولًا، وحرصًا، وملاحظةً، ودقةً، وسرعةً، وملاءمةً”. قام هيس بتقديم تصنيف هرمي يستند على نفس وجهة النظر. وقام بتحديد ثلاثة أنواع رئيسية، والتي يمكن أن تتواجد على نحو مماثل داخل قارئ واحد على مدار حياته، بدءًا من القارئ البسيط الذي يواجه الكتاب كمجرد محتوى سواء كان ثقافيًا أو جماليًا:
“في بعض الأحيان يقرأ الجميع ببساطة. هذا القارئ يستهلك الكتاب كما يستهلك الفرد الطعام فهو يأكل ويشرب ليشبع، هو ببساطة مشترٍ، سواء كان صبيًا معه كتاب عن الهنود، أو خادمة معها رواية عن الكونتيسات، أو طالب معه كتاب لشوبنهاور. الصلة لقارئ من هذا النوع بالكتاب ليست كصلة شخص بشخص آخر، ولكن كالحصان لفارسه، أو ربما كالحصان لقائده، فالكتاب يقود، والقارئ يتبع. الجوهر يؤخذ بموضوعية ويكون مقبولًا كحقيقية واقعة، ولكنه اعتبار واحد فقط، فهناك أيضًا القرّاء المتعلمون تعليمًا عاليًا، والمثقفون، خصوصًا فيما يتعلق بالأدب الجميل، والَذين ينتمون كليًا إلى فئة البسطاء. ما التجهيزات والضبط والإجراء للنفوس البسيطة، وما الفن وتعلم اللغة وعقلانية الكاتب لهؤلاء القرّاء المثقفون.
[…]
يفترض هذا النوع من القرّاء بسهولة أن الكتاب موجود فقط ليُقرأ بأمانة واهتمام، وأن يُحكم عليه وفقًا لمضمونه أو فكرته. تمامًا كرغيف خبز موجود ليِؤكل، وسرير لِيُنام عليه.”
ثم انتقل هيسه لنوع القارئ الثاني، على الرغم من أنه لم يطلق عليه مصطلح محدد، إلا أنه من الممكن أن نسميه محقق بارع في التصوير المجازي، وهو قارئ موهوب يتمتع بانبهار الطفل الذي يرى إلى ما وراء سطحيات المضمون لسَبر أعماق الدافع الإبداعي لدى الكاتب بدقة:
“إذا قام فرد باتباع سجية فرد بدل تعليمه، يصبح الشخص طفل مرة أخرى ويبدأ باللعب مع الأشياء، فالخبز يصبح جبل لحفر أنفاق فيه، والسرير يصبح كهفًا وحديقةً وحقلاً ثلجيًا. يُظهر طبيعة الصبي هذه، والعبقرية باللعب، نوع القارئ الثاني. هذا القارئ لا يُقدِّر محتوى الكتاب، ولا فكرته، كأهم قيمة له لأنه يعلم بالطريقة التي يعلم بها الأطفال أن كل موضوع قد يتضمن على عشرة أو مائة من المعاني للعقل. على سبيل المثال، يمكنه مشاهدة شاعر أو فيلسوف يكافح من أجل إقناع نفسه، وهذا القارئ من تفسيره وتقييمه للأمور يمكن أن يبتسم لأنه ببساطة يرى إلزامًا وقسرًا واستسلامًا في الخيار الظاهر لدى الشاعر وحريته. هذا القارئ هو بالفعل متقدم إلى حد أنه يعلم أكثر ما يجهله أساتذة الأدب والنقد الأدبي، وهو أنه لا وجود لشيء يدعى حرية اختيار للمادة أو الفكرة.
[…]
تختفي تقريبًا، من وجهة النظر هذه، ما يسمى القيم الجمالية، حيث يمكن أن تكون حوادث وحيرة الكاتب على وجه التحديد هي التي تقدم الكثير من السحر والقيمة. هذا القارئ يتبع الشاعر بطريقة الصياد الذي يتعقب فريسته، لا بطريقة الحصان الذي يطيع قائده. اكتساب لمحة خاطفة على نحو مفاجئ إلى ما يكمن وراء حرية الشاعر الظاهرة إلى قسره واستسلامه، يمكن أن يجذبه أكثر من كل التأنق فيما يتعلق بالفن الجيد والأسلوب المثقف.”
يأتي بعد ذلك لنوع القارئ الأخير وهو بالحقيقة ليس بقارئ، بل حالم ومفسر:
“على ما يبدو أن القارئ من النوع الثالث، والأخير، يسير على العكس تمامًا مما يسمى بشكل عام “القارئ الجيد.” هو شخص يتحلى، بكل ما تعنيه الكلمة، بنفسه، فهو الشخص الذي يواجه مسألة قراءته بحرية كاملة، ولا يرغب أن يتعلم، ولا أن يرفه عن نفسه، فهو يستخدم الكتاب تمامًا كأي شيء في العالم، فالكتاب بالنسبة له مجرد نقطة انطلاق وحافز. ما يقرأه أساسًا لا يؤثر عليه. فهو لا يحتاج إلى فيلسوف ليتعلم منه، أو يسير على تعليمه، أو يهاجمه، أو ينتقده. إنه لا يقرأ تفسير الشاعر للعالم ليقبله، بل يفسره لنفسه. فهو إذا أردت طفل تمامًا يلعب مع كل شيء ومن وجهة نظر واحدة، لا يوجد شيء أكثر فائدة وجدوى من اللعب مع كل شيء. إذا وجد هذا القارئ في أحد الكتب جملة جميلة، أو حقيقة، أو حكمة، فإنه يبدأ، بشكل تجريبي، قلبها رأسًا على عقب.”
أتى الفيزيائي فرانك ويلكزك، الحائز على جائزة نوبل، بعد ما يقارب القرن ليكرر تأكيده على رأيه بأنه “يمكنك معرفة الحقيقة الغامضة بواسطة ميزة أن نقيضها هو أيضاً حقيقة غامضة”. أضاف هيسه:
“أن هذا القارئ قد عرَف منذ مدة طويلة أن لكل مضاد كل حقيقة، هو حقيقة أيضًا، وأن كل وجهة نظر فكرية هي قطب، يوجد له نقيض مساوٍ وصحيح. إنه طفل بقدر ما يضع أهمية عالية بشأن التفكير الترابطي، إلا أنه يعرف نوع آخر من التفكير أيضًا.”
ولكن ما يمنح هذا القارئ تفوقه، أو تفوقها على الأنواع الأخرى قبل كل شيء، هي قدرة المدرَبين على التفكير الترابطي، وعلى الفضول العشوائي للقفز إلى أبعد من مادة معينة من كتاب معين، هذا التفكير الذي يحول مادة القراءة إلى نقطة انطلاق. وبعد ربع قرن، وصف المخترع فانيفار بوش الاستبصار النفسي نفسه برؤيته المتبصرة للشخص من النوع الذي ينتصر في عصر المعلومات والذي يجد متعة في مَهمة إنشاء طُرق مفيدة من خلال الكم هائل من الحُجج الشائعة. كتب هيسه:
“هذا القارئ قادر، أو بالأحرى، كل شخص منا قادر في الوقت الذي يكون في هذه المرحلة أن يقرأ ما يحلو له، من الروايات، أو قواعد اللغة، أو جدول مواعيد السكك الحديدية، أو التجربة اللوحيَة للطابعة. في تلك الساعة عندما تكون مخيلتنا وقدرتنا على الربط في ذروتها قراءتنا حينها لا تعود مقصورة على ما هو مطبوع على الورق، ولكننا نسبح في سيل من الحوافز والإلهامات التي تصلنا بما نقرأ. حينها، قد يخرج القرّاء عن النص، وقد ينبثقوا بكل بساطة عن أسلوب الكتابة. يُمكن للأفكار الأكثر بهجة وإيجابية أن تنبع من كلمة لا صلة لها بالموضوع تمامًا والتلاعب بأحرفها كما هو الحال باللعب بلعبة أحجية الصور المقطوعة، فيمكن لإعلان في صحيفة من أن يصبح بوحًا. ومن الممكن في هذه المرحلة أن يقرأ المرء قصة ليلى والذئب ذات الرداء الأحمر كأنها علم نشأة الكون، أو فلسفة، أو شعر غزلي منمق. أو أن يقرأ ملصق “كولورادو مادورو”(هو نوع من أنواع ورق التبغ الذي تُغلف به السجائر لونه بني غامق) على علبة من السجائر ويتلاعب بالكلمات والأحرف والأصوات، وبالتالي القيام بجولة من خلال مئات الممالك من المعرفة والذاكرة والفِكر.”
توجه هيسه بكلامه إلى أن استخدام الكتاب كمشغل لآلة روب جولدبيرج هي ليست قراءة إطلاقًا فيما يتعلق بالروابط التفسيرية، “فهل هي قراءة حتمًا لالتهام صفحة من صفحات غوته الغير مكترث لنواياه ومعانيه؟” يظن المُعترض بأن هذا الأسلوب من القراءة أدنى وأكثر صبيانية وهمجيّة للجميع، ويعتقد بأنه اعتراض صحيح ويحتوي فوق ذلك على نقطة ضمن صحته أن كل أسلوب من القراءة هو ضروري لحياة كاملة، ولكنه غير كافٍ بحد ذاته. وينبه بأنه يجب التأكيد على أنه لا يوجد واحد منا يحتاج أن ينتمي بشكل دائم إلى أحد هذه الأنواع. كَتب هيسه في قطعة تدعونا لتذكر مفهوم (أمبيرتو إكو للمكتبة الناهضة):
“القارئ في مرحلته لم يعد قارئًا، والشخص الذي بقي في مرحلة ما بشكل دائم فإنه عما قريب سيترك القراءة بالكلية، فسيصبح التصميم لسجادة ما، أو الترتيب للحجارة على حائط، ذا قيمة كبيرة بالنسبة إليه كأجمل صفحة مليئة بأحرف مُنسقة بأفضل حال. فالكتاب الواحد بالنسبة له قد يكون صفحة بحروف أبجدية.
فالقارئ في المرحلة الأخيرة لم يعد بالفعل قارئًا، فهو لم يعُد يعبأ بغوته، ولا يقرأ لشكسبير، إنه ببساطة لم يعد يقرأ. لماذا الكتب إذًا؟ ألم يحصي العالم بأسره ضمن ذاته؟”
أضاف هيسه قبل نصف قرن من ملحوظة أغنيس مارتن المهمة، والتي تنص على أننا “جميعًا لدينا نفس الحياة الداخلية، ولكن الفنان عليه أن يدرك ماهي”:
“سيتوقف من يبقى بشكل دائم في هذه المرحلة عن القراءة، لا من لا يبقى بشكل دائم فيها. لكن من لم يستأنس بهذه المرحلة فهو قارئ بائس وغير ناضج. إنه لا يعلم بأن كل الشعر والفلسفة التي في العالم تسكن بداخله وأنه أفضل شاعر استوحى شعره من المصدر الذي كلا منا يملكه في داخله، وليس من أي مصدر آخر. تبقى مرة واحدة في حياتك لمدة ساعة، أو يوم في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة عدم القراءة. من ذلك الحين فصاعدًا سوف تصبح قارئًا ومستمعًا ومحللًا لكل ما هو مكتوب بطريقة أفضل، ولكنه من السهل جدًا أن تتراجع إلى المراحل السابقة. ستقف مرة واحدة فقط في المرحلة التي يعني لك فيها الحجر الذي على الطريق بقدر ما يعني لك غوته وتولستوي، وستكتسب بعد ذلك مزيدًا من القيمة والخُلاصة والتأييد للحياة ولنفسك من غوته وتولستوي، ومن جميع الشعراء أكثر من أي وقت مضى. أعمال غوته ومُؤلفات دوستويفسكي لم تعد سوى محاولة مجردة مبهمة وغير ناجحة لاستعادة أصوات العالم المزدحم الكثيرة، العالم الذي يكون هو فيه نقطة الأساس.”
يُشبِه هيسه هذا النوع من القراءة بالحلم أو ربما بما سماه ستيفن كينغ “النوم الإبداعي”. يُحول الحلم خامات الواقع المجموعة في حياتنا العملية إلى إبداعات العقل المذهلة المُتحررة من قيود الواقع. وعلى نحو مماثل، يستخدِم هذا النوع من القراءة النص الأصلي كمادة خام لأحاديث العقل الممطوطة والخيالية. كتب هيسه:
“الحلم هو الفُتحَة التي يمكن من خلالها رؤية مضمون روحك، وهذا المضمون هو العالم بأكمله لا أكثر ولا أقل من هذا العالم من يوم ولادتك إلى اليوم، ومن هوميروس إلى هاينريش مان، ومن اليابان إلى جبرلتار “مضيق جبل طارق”، ومن سيريوس “نَجم الشِّعرَى اليَمَانِيَّة” إلى الأرض، ومن ذات الرداء الأحمر إلى برغسون. لذلك فإن عمل مؤلف ما مُتعلق بالأمور التي سئم من قولها بقدر محاولتك لكتابة حلمك المتعلق بالعالم الذي طوَقه.
[…]
في كمال القراءة اللامحدود، وأهميتها التي لا تنفذ، تقف عاجزًا أمام كل شاعر ومُفكر دون أن تعي ذلك، ولو لمرة واحدة، وتأخذ جزءًا يسيرًا من المُجمل، وتؤمن بالتفسيرات التي بالكاد تمُس السطح.
[…]
خلال المرحلة الثالثة التي تكون فيها على طبيعتك للغاية، فإنك سوف تضح حدًا لقراءتك، فتُحلل قصيدةً وفنًا وتاريخ العالم. وإنك لن تقرأ أي كتاب، أو علم، أو فن، ما لم تعرِف بالحدس هذه المرحلة، باستثناء قراءة التلميذ لقواعد اللغة.”
والجدير بالذكر أننا نجد مُجمل كتاب هيسه “معتقدي” في المرحلة الثالثة من مراحل القراءة، وهي القراءة الفائقة. هذه النُبذة المُفصلة متممة لما كتبته فيرجينيا وولف في” كيف تقرأ”، ولما كتبته باتي سميث في “نوعين من القطع النادرة”، ولما كتبه كليف ستيبلز لويس في “لماذا نقرأ”، ولما كتبه الكاتب الكبير روبرت جريفز ووضحه الكاتب الشاب موريك سينداك في “كيف تُغيرنا الكتب”.
شهد أبو سلطان ماريا بوبوفا مان هيسه 2017-01-31