حميد ركاطة
في ديوانه ” ضمديني أيتها المقامات “(1) الذي يضم عشرون قصيدة ، يعمل الشاعر المغربي مصطفى بلوافي على الاحتفاء بالكتابة الشعرية، باعتبارها هما يوميا، ولعنة لا مفر منها. إنها قبلة صلاته، وتعبده بخشوع كبير.
كما أرخت هذه القصائد لبعض الامكنة، واحتفت بأخرى ، وهو ما حولها لسيرة شعرية مائزة، للذات في علاقتها بالعديد من الأمكنة الأثيرة ومنها مسقط الرأس.
كما تنوعت ضروب هذه القصائد بين الوصف، والرثاء، والسخرية، والشخصنة.. وهي تحتفي بالواقع( الاجتماعي، والسياسي، والثقافي)، وتنتقده انتقادا لاذعا. واتخذ بناءها أكثر من سمة: قصائد قصيرة النفس، أو مبوبة إلى عشرة أبواب:( إنكيات ص 33)، أو إلى عشر دوائر 🙁 عشر دوائر لشرنقة الحياة ص 77 )، أو للوحات كما في القصيدة الحاملة لعتبة الديوان : ( ضمديني أيتها المقامات ص 128)،المكونة من ست لوحات .
إلى جانب الاحتفاء بالأمكنة، احتفت هذه القصائد بصورتي كل من الأم والأب، كما تناصت في قصيدة ” خطاب الموت المؤجل” ص 33 ، مع قصص القرآن ” خطيئة آدم عليه السلام. بالإضافة إلى ذاكرة الحواس كما في قصيدة ” حواس ” 67.
لماذا استأثر المكان بحيز لا بأس به من مساحة هذا الديوان، و ماهي أسباب ودواعي هذا الاختيار؟
وللاشارة فالديوان صادر عن مطبعة سليكي اخوين بطنجة في طبعته الاولى سنة 2015 ومن تقديم الدكتور محمد المسعودي
1) سيرة المكان ، سيرة للذات والقصيدة
هل نسكن الامكنة، أم أنها تسكننا؟ فنشرع ذواتنا للريح، وللذكريات؟ كيف توشم داخل الروح، وتشيد معالمها الحقيقية داخل الحنايا، وتؤرخ للحظات الأولى لمعاقرة الكاتب للكتابة؟
” يتحول المكان إلى بعد جمالي من أبعاد النص السردي لما يمنحه من إمكانية الغوص في أعماق البنية الحقيقية والمتخفية في أحشاء النص وأجوائه ورصد تفاعلاته وتناقضاته “( 2)
1- المقاهي
سنلمس بعضا من الاجابات مندسة تلقائيا ضمن قصائد هذا الديوان. ففي قصيدة ” من وحي اللقاء” ص 16 التي تؤرخ للمراحل الأولى للكتابة في ارتباطها بمكان أثير ” مرتيل” كمكان أول لتورط الشاعر في عشق الكتابة الشعرية من خلال الاشارة إلى مقهى ” أبيندا” وهو مقهى صغير كان يشكل ملتقى للشعراء، باعتبار الشاعر عندما التحق به كان آخر الفرسان، وكان لا يزال يحبو في مساره الابداعي، يقول:
” وكانت “أبيندا” حبلى
وكنت آخر الفرسان
يحبو
متشدقا نزيف الغرباء
هشيم المرايا” ص 16
فالمقاهي شكلت البداية، ولا تزال تؤثث مساره الحابل بالإبداع. يقول:
” ليس لي من الخيار
عير خيوط
لأبواب لن تنتهي
وألوان لا تشتهى” ص 18
(..)
غير هذا
الدفء المتجانس
عبر أكوام العاهات
وأرواح الشعراء
تلكم كانت قبلتي” ص 19
فالمقهى هو المعبد الذي ينمو فيه عشق بألوان الزعفران، والمكان الذي تتحرك فيه أطياف الأزقة، وينبعث من غبار الذكريات. إنه مكان الشرود والكتابة التي تنعكس فيها مرايا الداخل صورها. من هنا نلمس الاشارة إلى تجليات أمكنة أخرى، شكلت كذلك ملاذا لانعتاق الروح، واكتشافها، كما شكلت الدهشة الأولى كما هو الأمر مع مقهى ” الحافة ” الذي خصه الشاعر بمكانة خاصة في قصيدة ” مرايا لكل الأطياف” خاصة المقطع الرابع، حيث يقول:
” في مقهى ” الحافة”
قمر بعيد النوى
سوسنة شاردة
تنفث دخان الكلمات
(..)
وبين الأنا والأنا
اكتشفت روحي المتعبة
اكتفيت بقبلة واحدة
أفاضت كأسا.. طالما انتظرناه..” ص 21
2 – المدن
أ- طنجة
في قصيدة ” إنكيات” المقطع التاسع، نجد باب المدينة ص 48 ، بحيث تتم الاشارة إلى مدينة طنجة ومعالمها العمرانية، وكذلك واقع الحياة بها. طنجة تتحول إلى امرأة استدرجها عاشق وغرر بها في إشارة إلى الاحتلال الاستعماري، بتحويلها إلى منطقة دولية.
هذه الاشارات التاريخية تبرز معالم العهر والفساد بطنجة كمنطقة دولية حينها، غير خاضعة لأي نفود محدد، مع ما انتعش بترابها من مضاربات تجارية، وسياسية، وما تفشى في رحابها من عهر سياسي، وأخلاقي، يقول الشاعر:
” إذا كان..
للمدينة
أبواب
فلأن العاشق استدرجها
ضمن الخادمات – المغرر بهن –
ابتغاها الليلة ” دولية”
وراح يرسم التوغل
يترجم الصفقات/ الحماقات
” طنجة” ” ص 49
تحويل مدينة طنجة إلى منطقة دولية فتح أبوابها على تحول رهيب، ومسخ لهويتها المميزة كمدينة مغربية. يقول الشاعر:
” يا طنجة العري
(..)
عروس الابتغاء
والاشتهاء” ص 50
كما يرصد الشاعر معالم طنجة العمرانية ، والسياحية: كالمدينة القديمة، والجديدة، الساحة البرانية، والمرشانية، الاطلال، والأقواس الصادقية، المكتبة الكنونية.. بالإضافة إلى الأبواب : باب البحر، باب الفحص، باب القصبة، ناهيك عن الزوايا.
فطنجة هي بؤرة اجتمع فيها الانتصار، بالانتظار، بالانكسار، بالابتكار. حيث يكشف الشاعر عن مكان أثير بطنجة واحد معالمها المميزة في قصيدة ” لحظات من لا لحظات له” ص 136 ، مقهى تراثيا عابقا بأريج التاريخ وبصماته العطرة. إنه لحظات طنجة” المكان الذي يوشم الروح قبل الذاكرة، يقول الشاعر في قصيدة مهداة إلى يونس الشيخ علي:
” لحظات ..طنجة
فضاء يؤسس تشابه
من لا فضاء له
ينسج ظفيرة
من لا مرآة له
يحتوي راحة
من لا صمت له
لحظات .. طنجة” ص 137/138 ،
وقد تميز هذا الفضاء كذلك باعتباره فضاء ثقافيا بامتياز، ومحجا كذلك للأدباء بمختلف مشاربهم، وكعبة يذوب في بياضها الحبر”
القصة
الرواية
النقد
الشعر
والتشكيل” 138/139
وقد تمت الاشارة إلى كون هذا الفضاء أصبح اليوم ينافس مقهى الحافة:
” فضاء ..حلم
رشح نفسه
كحزب واحد
ضد قمر ” الحافة” ص 138
كمل استأثرت مدينة طنجة كذلك باهتمام فاره في قصيدة ” معابر إلى الذات” ص 123 ، ” طنجة ورموزها وأساطيرها ورجالها: هرقل، ابن بطوطة، وتاريخها التليد، كما يتأسف على حاضرها الغارق في الفساد:
” بين اللذة والخراب
طريدة”
هي الآن طاولة للقمار
والمومسات” ص 123″
ب – أكادير
إلى جانب مدينة طنجة تبرز مدن مغربية أخرى، كأكادير، ومراكش، وأصيلة، ومارتيل..
في قصيدة ” قراءة صامتة..لمسافات ضافية “ص 97، يقول الشاعر:
” أكادير
ليل يسكن ضوءه
يشرب كأسه قي خشوع” ص 98
وكذلك مدينة مراكش التي يعتبرها مدين تاريخية وعتيقة بفضاءاتها الأثيرة، والجذابة.
” (..)
ليشهد التاريخ
أنك المتحف
أنك القبلة
وأنا الميت” ص 99
كما يرصد بعض فضاءاتها، كجامع الفنا، بحلقاتها، وحكاياتها وأساطيرها.
ج- أحد الغربية
كما برز احتفاء خاص في قصيدة ” معابر إلى الذات” ص 117، بمكان أثير جد لذى الكاتب، حيث تمت الاشارة إلى أحد الغربية، وقرية الدعيديعة مسقط الرأس، وهي منطقة توجد في أحواز أصيلة، وتدخل ضمن الحيز الجغرافي والاداري لمدينة طنجة، يقول عنها الشاعر:
” عمود بلا إشارة
باب مشرعة على الجنون” ص 118
بالإضافة إلى مدينة أصيلة التي يقول عنها:
” لأصيلة
كينونة الهباء
عذوبة البقاء” ص119
وهي المدينة التي يذكر كذلك الكثير من معالمها من قبيل: ” الطيقان/ طامة غيلانة/ الامام الأصيلي/ واد الذهب ..
د- مرتيل
لقد سبق ذكر هذه المدينة في قصيدة ” من وحي البقاء ص 16 في اشارته لمقهى أبيندا المتواجد بمدينة مرتيل، كما ستعاد الاشارة اليها في مقطع من قصيدة ” معابر إلى الذات” حيث يصف مرتيل قائلا:
” مرتيل
معبدنا
حلمنا
حيرتنا
ابتسامتنا الباقية” ص 122/123
ه- شفشاون
كما تمت الاشارة إلى مدينة شفشاون التي يستشهد بمكانتها التاريخية، ويعتبرها كمكانة أبي الهول بمصر، يقول الشاعر:
” شفشاون
جاثمة كأبي الهول
على جبل القلب
وأودية الروح” ص 125
2) سيرة القصيدة
سنلمس الاحتفاء بالشعر والشعراء في قصيدة ” أنت مني” ص 55 باعتبار الشعر خلاصة عشق موشوم استوطن الحنايا، حيث يوقل الشاعر:
” ليس مني
من لم يعدني
شينا
(..)
ألف
(..)
عينا
(..)
راء ” ص 58
أيها الوطن
تشبث بوديعتك
إن طال عليك الزمان
غني عنك الجمام” ص58/59
إن البحث عن من يمت بقرابة حقيقية للشاعر لابد وأن تتوفر فيه شروط محددة:
” ليس مني
من لم يشم رائحتي
من لم يعاقرني
كأس عبور إلى سواك
فهناك..
تركت مظلتي
وهواي” ص 59
كما تنكتب سيرة القصيدة بالحواس، التي تتحول إلى ذاكرات ( بصيغة الجمع)، كل منها تبطل مهماها الأصلية لتفسح المجال للمحو والأسئلة المتوسلة بالتخمين حينا، والتخييل أحيانا أخرى.
العين
” فللعين قبل القلب.. سؤال” ص 67
الشم
” شممتك
تمشي الآن
خلف ذات تترصد البقاء
تتكون في الماء
ببطء البائت في العدم” ص 70
الذوق
” من أين لك الذوق وهو الحنين
والحبيب” ص 71
السمع
” يسمعهم
يتمتمون
يسبحون
يوحدون
الله” ص73
اللمس
سيان
ان شممتك
او
لمستك
شرخا
يعيد الحواس اوقاتها
هزائم فصول – لا احد بايعها -” ص 74
وتتماثل الحواس في الوظائف ” سيان عندي” وتتساوى على نفس القدر ، ليس من الأهمية، بل من النبذ :
سيان عندي
إن رأٍيتك
أو شممتك
أو تذوقتك
أو لمستك
أو سمعتك” ص 75
في إشارة التنصل التام من تأثيرها وجبروتها
” ما عدت خاتما
يلبسني الاحباء” ص 76
3) جمالية الخطاب الشعري في قصائد مصطفى بلوافي
تميز الخطاب الشعري عند الشاعر مصطفى بلوافي بالتنوع والثراء والتعدد، كشف عن منظور خاص للقصيدة التي اتخذ سمات تشيد مغاير، من قبيل : الأبواب، والدوائر، والجداريات، والمحطات..
وتعتبر قصيدة ” ضمديني أيتها المقامات” ص 128، الحاملة لعتبة الديوان والتي جاء في الرتبة السابعة عشرة، من بين عشرين قصيدة. قد كتبت على شكل جداريات مكونة من ست لوحات: احتفاء/ موت/ بقاء/ انحلال/ علم/ تكوين، وقد ذيلها بإهداء دال: ” إلى آخر جرح في سلم الحب” .
لقد شكلت هذه القصيدة بخطابها المنفلت ، وترسباتها التي تمتح من عتمات الروح وحرقتها منظور الشاعر الخاص للفقد، والموت، والغياب، في مقابل نظرته الأخرى للحياة، والحلم، والسيرورة. وهي في نظرنا المتواضع أبهى تشكل لدرجات الواقع في سلم الروح والحب على السواء. منظور بحث لثنائيات الدرس الفلسفي بما نحت به من صور جامعة استغورت مدارات الروح وجيوبها العميقة. يقول الشاعر:
” لأجلك
تمتزج الحياة بالموت
الظاهر بالباطن
يتداخل النهار بالليل” ص 130
وهي صور تكشف عمق رؤية بعدية تتجاوز الواقع نحو المحلوم به، والمتوقع حدوثه.
” وأنت الآن
حجزت تذكرة الخلود
كوني سحاب السماء
بذكري
صفحة الماء
بثقلي
كوني” ص 131
لقد شكلت هذه القصيدة، منبرا للابتهال والانعكاس، والاشتهاء، ضمن رحلة نحو سفر التكوين، والقداسة، الحياة والموت، الظاهر والباطن، سفر يعمل على تطويع اللغة لتحجز تذكرة خلودها وهي مليئة بحكمة عميقة تبرز تداخلا في عضوية العناصر الابداعية وايقاعها.” إن عضوية الايقاع عضوية مركزية لا تتوقف عند حدود البنية العروضية بتشكيلاتها المعروفة وميادينها ذات القيمة الحسابية والزمنية، بل تنفتح على قيم مضافة تتداخل مع خصوصيات العضويات الاخرى في البنية الهيكلية العامة لها. فضلا على ان التشكيل الشعري الكلي ذاته ينفتح هو الاخر على حساسيات الفنون المجاورة بتشكيلاتها وطاقاته وايحاءاته كافة ليعزز من خلال استيحاء بعض من خصوصياتها التعبيرية .”( 3)
في حين يتحول الخطاب في قصيدة ” إنكيات” ص 33 إلى خطاب ساخر من الواقع . وهذه القصيدة قسمت إلى عشرة أبواب: باب الجنون/ باب المدينة/ باب الانكسار/ باب العشق/ باب الشعر/ باب التوحد/ باب الحياة/ باب العمل/باب النوم/باب المدينة/ باب الماء. ولعل القاسم المشترك في بناء هذا النص وأبوابه هو السخرية. وهي سخرية انتقادية بالأساس كشفت عن الظلم الذي يعم مجالات الحياة بأسرها، و” تمثل السخرية عنصرا مؤسسا للخطاب السردي ..وتكمن ( أهميتها ) ففي أنها تنزاح بالخطاب من استطيقا المرآة نحو استطيقا المفارقة والازدواج والمدلول ، إذ تقوم استراتيجيتها على المفارقة المتولدة من انشطار بنيتها إلى مستووين ظاهر ومضمر ،وهو ما يجعلها على مسافة استطيقية ونقدية من الواقع ، وموقعا ديناميا لتلقيم الخطاب بالمفارقات والالتباسات والتشظيات ” ( 4)
يقول الشاعر مثلا في باب الجنون
” إذّا كان …
لا بد لك .. من الجنون
تحسس جيبك
مزق نعلك اليمنى
كي تستقيم مشيتك
… اختر ظلمة الصمت
لغة المحار
وابحر جهة المداد
وتذكر ما قاله
المهدي عن القوافي
أيها الجنون” ص 33
فالإشارات تخترق المألوف لتبرز عمق الجرح، وضراوة الهزيمة، وعمق الانكسار، والانشطار. من خلال صور دالة متداعية حد القلق:
” سيان عندي
أن ترى الانكسار
بعين مجردة
أو عبر منديل امرأة مطلقة
ما دام الانكسار
هو الانكسار” ص 35
فالصورة التي يشيدها الشاعر ترتحق من سخرية قل نظيرها في الكتابة الشعرية المغربية. بحيث تعتمد الوخز دون الفضح والاستيراد المفاهيمي والدلالي من حقول معرفية مختلفة. سخرية من اللغة الواصفة، وعليها، دالة على عكس منطوقها أحيانا. وهو ما يجعل الصور لا تكتمل دون بناء جديد للمعنى، يقول الشاعر:
” إن تعشق
معناه
أن تحظى بسلم ينزلك إلى ما تحت
معناه
أن تظفر بصبيان ليسوا من صلبك
ولا من طينك
وإن كنت ذا حظ
فسلام لك
سلام
سلام ….” ص 37
فالانتقاد والسخرية شملا استسهال الكتابة الشعرية كذلك وهو أمر تم الكشف عنه في باب الشعر، كما أبرز العديد من نقائصها و كشف عن مميزاتها كذلك، مع الاشارة إلى مواصفاتها باعتبارها :
” الدم الذي لا يستباح
الفيض الذي لا يرد” ص 39
ومن أجمل الصور الشعرية كذلك التي ميزت قصائد هذا الديوان، مقطعا عثرنا عليه في قصيدة ” أربع جهات” ص 101، وظف فيه الخطاب الاستعاري بامتياز بحيث يقول الشاعر:
” لو كان للريح خارطة
لسافرت قبل أن
يغير التاريخ جلده” ص 102
فالاستعارة تبلغ أعلى مرافقيها وتتداعى صور القصيدة وهي تستوي على مشارف الجنون. فالمجال بقدر ما يحوز هالته كفضاء متخيل ( خارطة للريح) يتحول في في قصيدة” للتاريخ مجد الشعراء ” ص 105 إلى جفر في التاريخ والمجال ( الجغرافيا) كذلك، وفي الذاكرة المنسية لا ستحضار أسماء العديد من الرموز ، من قبيل : أبي الطيب المتنبي، الذي يبرز من خلال القصيدة وهو” يغازل حروفه في صمت” ص 106. وبدر شاكر السياب الذي “راح يؤسس للفراغ هباته” ص 108 وأدونيس الذي تحول إلى ” وطن الفته النوارس” ص 110، ومحمود درويش الذي اعتبره ” أسطورة الجذب ونافورة الثوابت ” ص 113 وعبد الله راجع الذي “يجر ما تبقى من الخطو/ وما تبقى من الهامش /أصفاد صرخة انكسار ” ص 114.
كما اتشحت الاستعارة بجمالية فريدة في قصيدتي” خطاب لموت مؤجل” ص 133، وقصيدة ” بكائية” ص 23، استعارة موشاه بتناص قراني وهي تقتفي أثر قصة أدم والشيطان، والخروج من الجنة. لتكشف عن خطيئة الشاعر الذي عوض أت يقضم التفاحة كجده أدم ، إرتوى من نهر القافية وبحر الجنون. وخطيئة الحب.
إن التناص مهما شيدت تفاصيله على تخوم اليقظة يجعل المتح من الذاكرة والواقع هدفا لا براز فظاعة الواقع، وتوق الذات المقيدة للحرية. مهما كانت حرية بصيغة الجمع( حريات) بعدما تم تضييق الخناق على الابداع وروح الفكر. يقول الشاعر
” وقاطرات من رماد
تجر الكلمات
نحو الاقامة الجبرية
نحو الذات
على مرأى النسور
ضاق علينا الخناق
ضاق “
إن بناء صور القصيدة، ومعانيها تم عبر التوسل بالاستعارة الراقية والاستبدال المفاهيمي وفق تشييد سلس حافظ على سلامة اللغة، ومتانتها، وعلى جلال الصورة وقوتها,
” تطير الاسماك
تسقط الشمس
وجعا
ياسرني جسدي
يترصدني موتي المؤجل” ص 135
أما في قصيدة ” بكائيات” ص 23، والتي ينعي فيها الشاعر والده، فقد جاءت حبلى بالتفاصيل المحيطة بحدث الموت داخل القرية، لتبرز الهالة التي كانت للهالك، والمكانة التي كان يحظى بها في قلوب محيطه، سواء اجتماعيا، أو نفسيا. وهو ما جعل حدث الموت ذاته يتحول إلأى موت مؤجل ليس إلا.
” ذاك الصباح المتشقق
نام أبي طويلا” ص 23
تشيبه واستعارة تكشفان عن تناص قرآني رفيع المستوى ، وإشارة على استيعاب لمضامين كتاب الله، الذي يعتبر النوم موتا وتقاطعا مع التصور الشعبي كذلك لمفهومي الموت والنوم.” النعاس خو الموت”
إنها الهالة التي يمنحنا الشاعر عبر مؤثثات المكان الكاشفة عن طبيعة علاقة الاب بأشيائه كذلك.
” سكنت القرية
بكت المعاول
قبل أن تبكي أمي ” ص 23
كما يبرز الحركة التي لفت القرية، وأناسها عند تلقي خبر مصيبة الموت”
“صدح الفقيه
لا إله إلا الله
محمد رسول الله” ص 24
وهي صورة ما فتئت تتضخم وتأخذ أبعادا كبيرة. كانتفاضة الكفن ودوي الرعد وانهمار المطر مع رصد الحالة النفسية للأم ونحيبها على زوجها الهالك وهي تعد مناقبه وشمائله كما تمت الاشارة الى طقوس ما بعد الدفن من اطعام المعزين وتلاوة القران والدعاء للميت .
في حين نجد إشارات قليلة يذكر فيها الشاعر اسم علم شعري مغربي بارز آخر، كالشاعر المهدي أخريف، في قصيدة ” إنكيات” حيث يقول:
وتذكر ..ما قاله
المهدي عن القوافي
أيها الجنون” ص 33،
وكذلك في قصيدة “وصية للزمن المبثور ” ص 91 التي أهداها الشاعر له. فإذا كان في الاولى يستشهد بإحدى أبياته، فإنه في القصيدة الثانية يبرز وصاياه، يقول الشاعر:
” والقصيدة
هي وصية واحدة
هي وصية شاعر
ألبسني عباءته
وشحني لأكون ” زرقاء اليمامة” ص 92
بحيث يكشف أفضاله، وأياديه البيضاء عليه، وهو أمر يجعل الاعتراف بالأب الشعري يشكل امتدادا، واحتفاء بعيدا عما ألفناه عند شعراء يعلنون عن بناء مسارهم من صفرهم الخاص. إنه اعتراف جميل وتقدير، يمكن اعتباره سنة محمودة بين شعراء شمال المغرب، الذين تميزوا عبر تاريخهم التليد بهذه الميزة مع كل رموزهم من قبيل: العراب عبد الكريم الطبال، ومحمد الميموني، والمهدي أخريف…أبوة يتم الاعتزاز بها وتبقى إذن:
“هي وصية أب
أعاد للسؤال شعلته
للظل وشمه
للنسب مجده
وجلمه” ص 92/93 .
ولعمري هم شعراء أسسوا كذلك للقصيدة العربية المعاصرة وارسوا العديد من توابثها.
وعلى غرار الابواب في قصيدة” إنكيات “ص 33، يشيد الشاعر مصطفى بلوافي في قصيدة ” عشر دوائر لشرنقة الحياة” ص 77، كذلك عشر محطات مكونة من دوائر من قبيل : ” دائرة الروح/ القلب/الدوخة/ الخاتم/ الصفر/ القمر/ الارض/ الساعة/ الرحى/ دائرة الدائرة “.
دوائر تمتح من التخييل أبهى تجلياته لتشيد معانيها الخاصة . فدائرة الروح هي ذاكرة للبوح، والشوق، والحنين, وفي دائرة القلب تنفصل الذات لتنصت لدقات الروح، وفي دائرة الدوخة ينصب فخ الانتظار شباكه للدوران والاسترزاق. وفي دائرة الخاتم يتحول الانتظار إلى جرح مفتوح يتعفن على مدار الايام والأشهر والأعوام. وفي دائرة الصفر تقطع الأرزاق والأرحام، ولا تقبل الاعذار، أما في دائرة القمر “فنلاحظ أن،
” قمرا
يهرب من قمر
يرقب قمرا
يستعيد دائرة المكان
يفتح باب نحو السماء
للقمر ” ص 84
وهو ما يجعل مفهوم الاستدارة يأخذ كامل دلالته، واستوائه، من نقطة الانطلاق وإلى نقطة الوصول حول فراغ قاتل.
في حين تكشف دائرة الأرض ملاذ للانتساب في النهاية بعد دوران على نفسها وعلى الشمس وكأنها تبحث عن عنوان، أو مكان للإقلاع، والانتساب النهائي. فهل هو بحث عن الهوية، أم عودة إلى الاصل؟
لقد شكلت الدوائر العشر شرنقة الحياة، بدء من دائرة الروح إلى دائرة الدائرة، لتطرح أسئلة تغيب في أوردة النسيان.
4) تجليات صورة الام في قصائد الشاعر مصطفى بلوافي
إلى جانب صورة الاب التي عثرنا عليها في قصيدة ” بكائية” ص 23 التي يرثي فيها والده ويصف مراسيم العزاء والحزن الذي عم القرية، عثرنا على إشارات كذلك تبرز صورة الام كما في قصيدة” رحيل” ص 141، وقصيدة ” قسم الحب” ص 61، إلى جانب ما تمت إليه الاشارة في قصيدة ” بكائية”.
في قصيدة ” قسم الحب” ص 61 يقول الشاعر\ك
سلام
لكل
أم
هزمت ..جند العصيان
ربت.. جيلا”.
بحيث يؤرخ لها مسارا حافلا بنكران الذات، وبالحب والتربية والتفاني في خدمة الآخر.
كما تبرز تلك الصورة العطرة في قصيدة ” رحيل ” ص 141 والتي وشحها الشاعر بإهداء ” إلى أمي رمز التضحية والعطاء” ، ويعبر فيها عن مدى حبه وتقديره لها، وعن حسرته على فراقها الأليم.
” سألني النعش عن البكاء
فقلت
أمي.. أمي .. أمي” ص 143
(..)
اشهدوا
أني أسمي
الحياة ..نداء
الموت.. إقصاء
رحيل أمي ..عزاء
بقاء ” ص 144
على سبيل الختم
في ختام هذه القراءة المتواضعة، يمكننا الاشارة إلى أن الشاعر مصطفى بلوافي تمكن من كتابة سيرته الشعرية من خلال التأريخ لفضاءات أثيرة اقتطعت جزء من كيانه وروحه، بل يمكن الجزم أنها كانت جد مؤثرة في حياته فجاءت قصائده موشومة بعشق سرمدي، انعكس داخل قصائد هذا الديوان.، من خلال الوصف ، والاستعارة ، والشخصنة، والتناص.. قصائد تكتب بماء القلب، وبصدق كبير. كما تميزت بروح ساخرة حينا، وحزينة أحيانا أخرى، وهي تسترجع ذكريات من زمن ولى خصوصا عند استحضار صورتي الأب والأم، كما كشفت عن نبل وامتنان للأب الشعري، سيرا على سنة شعراء شمال المملكة العظام.
—–
(1) مصطفى بلوافي” ضمديني أيتها المقامات” شعر، منشورات سليكي إخوان طنجة 2015
(2 ) أحمد زنيبر من تشاكل الفضاء إلى فضاء التشاكل قراءة في المكان القصصي مجلة افاق منشورات اتحاد كتاب المغرب 2012
( 3) محمد صابر عبيد التشكيل الايقاعي في شعر احمد عبد المعطى حجازي مجلة ابداع ص 106 العدد السادس عشر خريف 2010 منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب
(4) محمد بوعزة خفة المكان في ” حذاء بثلاث أرجل ” لعبد الرحيم مؤدن ص 99 مجلة آفاق منشورات اتحاد كتاب المغرب