لحسن هبوز
كغيرها من الحضارات الإنسانية، عرفت الحضارة الأمازيغية بدورها محاولة تقعيد وجودها المادي إلى وجود معنوي رمزي، تجسد أكثر في الاحتفاء المادي واللامادي. فقد تميز الإنسان الأمازيغي بارتباطه المباشر والغير العادي بالأرض كمجال يؤسس لحياته السيوسيو-اقتصادية، ومنه أصبح وجوده وجوداً متعلّقاً بالأرض الشيء الذي جعله ينسج علاقة ودية-منجسمة مع الطبيعة، تجسّد أكثر في طقوس الاحتفال الزراعي، والتي تأتي كمرحلة تتويج لموسم فلاحي ناجح. فجلّ الدراسات الانثربولوجية تربط بشكل أساسي بين الاحتفال والموسم الفلاحي الناجح، بل إن التقويم ـــ التاريخي الأمازيغي متعلق بالسنة الزراعية-الفلاحية كطقس بدأ معه التأريخ لوجود الإنسان الأمازيغي. في منطقة سوس بوسط المغرب تجسّد هذا الحدث في احتفالات القبائل بعد كل نهاية موسم فلاحي، فكل قبيلة تحتفظ لنفسها بطقوس خاصة للحدث، ويعتبر الشّعر نقطة التقاء طقوس احتفال هذه القبائل، وكتعبير يترجم فيه الإنسان تفاصيل وجوده بشكل رمزي، وقد كان الشعر يلقى بشكل شفاهي احتفالي، ويمكن القول أن الشعر في المنطقة مرّ من ثلاثة مراحل أساسية :
ـــ مرحلة القول الشفاهي: تميزت هذه المرحلة باعتبار الشعر جزء من الطقس الاحتفالي بمرور السنة الفلاحية، ويتخذ طابع النصح والموعظة والحكم، إضافة إلى الهجاء والمدح، كلها من أجل خلق فرجة، وتتم العملية داخل حلقة أو ما يسمى محليّا ب “أسايس”1 كمرتع للقاء أبرز الشعراء ، وهنا اتخذ الشعر هوية جماعية .
ــــ مرحلة الغناء واللحن: سيعرف الشعر نقلة نوعية في المنطقة، بخروجه من قوقعة الاحتفال الجماعي إلى اتخاذه هوية فردية، و يتخذ مجرى أخر هو حضوره القوي كنص غنائي، أو ما تسميه الدراسات الباحثة في الموضوع ب “القصيدة المغنّاة”، وستتغير تيمات الشعر هنا لتلمس أصناف الأغراض الشعرية كالغزل ووصف الطبيعة، وفن الحكاية … هنا بالضبط ستظهر ظاهرة الروايس (الحاج بلعيد ــ بوبكر انشاد ـــ محمد الدمسيري ـــ عمر أهروش…).
ــــ مرحلة الكتابة الشخصية : أو مرحلة التدوين، وشهدت هذه المرحلة ظهور الوعي بالقضية الامازيغية، وإن كان في البداية وعياً جمعوياً خاصة مع “جمعية التبادل الثقافي” (1967). في هذه المرحلة ستصبح القصيدة الأمازيغية في المنطقة قصيدة مدونة بين دفتي الدواوين، ولعل ابرز شعراء هذه المرحلة نذكر لا على سبيل الحصر (محمد مستاوي ـــ ابراهيم أخياط ــــ علي صدقي أزايكو ــ علي شوهاد …)، ستستمر نفس تيمات القصيدة الامازيغية بالمنطقة، لكن هنا ستعرف إضافة نوعية -وإن كانت في نفس الاتجاه- أقصد الهوية الثقافية الامازيغية في بعدها السوسيو-سياسي.
في هذا البحث البسيط حاولنا ما أمكن الوقوف وترجمة -ولو بشكل طفيف- بعض النصوص الشعرية الامازيغية بالمنطقة، بدءاً بمرحلة الغناء واللحن، خاصة مع فنّ “الروايس”، وبالضبط مع الفنان الرايس “الحاج بلعيد”، وصولا الى احد الشعراء المعاصرين وهو “محمد الحنفي” شاعر الكلمات القوية، وعمود الفقري لمجموعة ازنزارن، وفي الأخير اخترنا لكم ترجمة قصيدة “الهمّ” للشاعر علي شوهاد :
الرايس الحاج بلعيد:
لسنا اطلاقيين عندما نعترف ونقول بأنه ليس هناك باب يمكن أن ندخله في ترجمة أو دراسة الشعر الأمازيغي بسوس دون الانعراج على تجربة أولى تميزت بالاحتفالية والغناء، وتعتبر أقدم تجربة في فن الراويس، يتعلق الأمر بالفنان ــــ الرايس ـــ بلعيد بن مبارك دابيهي المعروف بالحاج بلعيد في الوسط الفنّي السوسي، وتقدر ولادته حسب الباحثين بين سنتي 1870 و 1875 بمدشر “أنو ن عدو” بجماعة “وجان” اقليم مدينة تزنيت، توفي سنة 1945. نشأ نشأة الفقر والعوز واليتم، ففقد أباه مبكّراً مما جعله يضطر لمغادرة كتّاب المسجد مبكّرا قصد إعالة أمه وإخوته الصغار، لم يسافر طويلا، لأنه سيزاول مهنة الرعي، وهي مهنة معروفة في المنطقة، فاشتغل بذلك أجيراً عند الناس يرعى الغنم. وحسب تأكيدات جميع المهتمين، فإن مزاولته للرعي شكل لحظة انفراده بالطبيعة، فأصبح يقضي جلّ يومه بين جبال الطبيعة الهادئة مما منحه فرصة للاستماع أكثر لما حوله، وجعل الناي رفيقاً له. من تم تكون لديه نفس الشّعر واللحن .
يتسم شعر الحاج بلعيد ـــــ وهو كلّه غنائي ـــــ بتركيزه الشديد على حقل الطبيعة، كما أنه يحمل في جلّ الأحيان خطابا غزلياً،رومانسياً رهيفاً يجعل من الطير والخيل والروابي كأساس بناء نصّه، فبالرغم من الوضع السياسي الاستعماري المحتقن الذي عاش فيه، فإنه استطاع بكل رمزية أن يوصل كلمات ملتزمة إلى الناس، لكن رغم ذلك لا يحفظ التاريخ للحاج بلعيد أي أثر لأثاره قضية سياسية. في مقابل ذلك يبقى شاعرا وفنانا رسّخ لقصيدة أمازيغية في سوس، وأخرجها من دائرتها الاحتفالية بين المداشر، إلى قصيدة غنائية، بل كان أول من أسس المجموعة الفنية في المنطقة :
Atbir omlil
Atbir omlil righanmon sdaron
Ihyi trit rabda ng winon
Anmon anzr wana nra hdonit
Iqanahd osmonh yan dokan
Mayi imlan isijla otbiri
Iga wahdat orimon dyani
A khoya atbir ngh ahbib yani
Atokan lah ikkan adjloni
Imon oaayal igmrn itbirni
Nki nih yof atnidalb yani
Ihira atrbot abda ig winon
قصيدة : الحمام الأبيض
اه ..
كم كانت رغبتنا أيها الحمام الأبيض
أن نرافقك إلى وطنك
وإذا أحببت رفقتي
أنا لك .. وفي خدمتك على الدوام
أرافقك لتدلني على الحبيب
فمن المفروض أن نعيش معا
من هذا الذي نبأني بأن الحمام تائه
فأراه وحيداً خارج السرب
تماماً مثل فؤاد
كلّما تركه الحبيب
أمسى تائها ووحيداً
أيها الشاب لم تحاول قنص الحمام !!
إذا أردت أن يصير لك دائماً
فقط ..
ناديه، أطلبه .. وسيأتيك
Ajdig
Ajdig imin ntrga wa lah iaawn
Ayamar kidihya azal igh yaraoui
Awrind idamn odm tadssa frhn
Agr waln lahbab lih tnmyarh
Adah izaam ilsadino ighi sawl
Okan nstaran ngri stitinoui
Kolmawka nzra zond ihtntaf
Aghifasn lahbab lihtnmyargh
Amarikan ismg ngh arawns
Abab njmil istahla lkhirns
Amarikan lkhanjar ariyi tsolin
Amarikan lktabns atn yakkr
Ngh ihiga ajig atn ighi sofosns
Ngh iga lkass angis isa simins
قصيدة: الورد
سلامي اليك
أيها الورد المستريح في الجنان
تمنيت لو أعدنا الحياة إليك
فعادت الفرحة تزين الوجه
وعاد البريق المألوف إلى عيني الأحباب
فتجرأ لساني على النطق
وعدنا كما كنّا
نجول ببصرنا في الحقول
كلّما تأملنا في جمالك زدنا قناعة أنك لنا
أو في يد من نحبّ
…
تمنينا لو كنّا عبيداً
فنقضي سنواتنا في خدمة الحبيب
تمنينا لو كنّا خنجراً لنحميه
تمنينا لو كنّا كتاباً يقرأنا
أو ورداً يمسكنا بين يده بكل حبّ
أو كأساً يشرب منّا بفمه
محمد الحنفي:
الشاعر “محمد الحنفي” من مواليد سنة 1954 بمنطقة تانكرت إقليم اداوتنان. يجسّد هذا الشاعر الطفرة النوعية في الشعر الأمازيغي عامة، والسوسي على وجه خاص، طفرة تمثلت في جهة بارتباطه المتين مع أعظم مجموعة أمازيغية معروفة في المغرب، ونقصد مجموعة ازنزارن، فكلّ كلمات أغاني هذه المجموعة كانت من نسج هذا الشاعر، أغاني لقت نجاحاً كبيراً نظراً لقوة اللحن، وقوة الكلمات كذلك، أمّا من جهة أخرى شكلت التيمات الجديدة التي اشتغل عليها في الكتابة أمراً جديداً وغريبا في نفس الوقت.. فبعد أن كان الشعر الأمازيغي-السوسي لا يراوح دائرة الاحتفال الفرجوي والتعلق بالأرض، ها هو صوت شعري جديد يكتب عن الألم والهوية والجوع والظلم والسياسة … فكتب الشاعر عن القضية الامازيغية بشكل رمزي، جعل الانسان بالمنطقة يدرك أن لغته تحفل بعمق دلالي يجعله مرتبطاً بها، فهو كما يعرف الكلّ فنان عصامي، كوّن نفسه بنفسه تعددت مواهب الشاعر، فمن شاعر إلى فنان تشكيلي وممثل ثم نحّات وصولا إلى مُصَمّم ديكور لأفلام سينيمائية أمازيغية. يمكن أن نقول بأنه تجمّع فيه ما تفرق في الكلّ:
Attan
Wa manik wa manik
S ira a dagh izri wattan nnun
Attalamt idammen atitt ka yyin ighaman
Amma ametta nssermit ur nssenedm yan
Saad inu igigil ad git .. amani righ
…
Uzelegh ng afellah
Ur sul llan waman
Uzelegh ng akessab
Tkherfm a taganin
قصيدة “الألم”
!!كيف
كيف يمكن لنا أن ننسى ألمكم ؟
على العين أن تبكي الدم
أمّا الدمع فقد أرهقناه
دون أن يشفق علينا أحد
فصرت يتيماً ..
أتفقد الوجهات .. و لا ملجأ
…
أنا مثل فلاّح في فصل جاف
أنا مثل راعٍ وسط روابي قاحلة
Ntghri
Ntghri zun tghi tmmurghi
Gh ignwan ikd lhif akal
Ursul ..
ursul tgit ddamn ilghlat ayaman
ignwwan.. ignwwan omzn tillas
ur nmzallal azali
idr laz arismawali gh iduran nnun
ttutn igidar s imndi
amzn afa mmnun
krfnk a lhaq
rzmn am atawda gh ugharas
inmchawarn a ghid anwalan awal
urgis laaib
ighn touggam s makkulu yallani
tkad tandra isnwan
dln ikaliwn s lkhufi
ikkad oumtta izlmd
ikkd wayya iffusi
ikkad laayad lbruj
assmammi kkan asuki
mani kullu kkan ghayyd
irgazn sagh nnani
illa ghad yili ghad
ursul illi yat
ursul illi yat
قصيدة : معلّقون
معلّقون ..
معلّقون بين السماء والأرض
مثل جراد معلق في السماء
و تحته هيفٌ يفترش الأرض
أيها الماء
لم تعد ضامناً لحياة المحصول
..
أمست السماء زنزانة الظلمات
ولم نعد نمرق أي ضوء نهار
حلّ الجوع ضيفاً على المداشر
فغدت الخزائن فارغة
لقد قيّدوا الحق
وفي المقابل .. أطلق سراح الخوف
هم أصحاب القرار
ليس هناك عيب إذا تفضلتم
وتفقدتم أحوال البؤساء
فالأنين قد عمّ الأرجاء
والدمع حاصرنا يمينا ويساراً
أما الصراخ فتعالى من فوقنا
والنحيب في كلّ مكان
فأين .. !!
أين ذهب كل أولئك الأشخاص الذين أعطونا وعوداً كثيرة ؟
وعوداً كثيرة .. ولا شيء
لا شيء .. !!!
علي شوهاد:
الشاعر علي شوهاد، المعروف بمولاي علي شوهاد ازداد سنة 1957، بـ ” إبركاك” بمنطقة ” إسافن ” بالأطلس الصغير، اشتهر كأحد مؤسسي مجموعة “أرشاش” الغنائية سنة 1979، والتي حملت بصمة الفن الأمازيغي الهادف. يعتبر الشاعر أحد رموز أحد المجموعة ككاتب كلماتها وضابط إيقاعها (آلة الدف)، أمّا شعره، فقد تميز برمزيته العالية جدّاً، خاصة، وأنه ابن بيئة صحراوية ينهل من طبيعتها هذا المعنى الغير القابل للقولبة الجاهزة، تتعدّد حقول شعر علي شوهاد فمن الطبيعة رسم لنا مكوناتها كجزء من يومي الإنسان الأمازيغي، وهذا يظهر جليا في الصور الشعرية التي يشتغل عليها في بناء قصائده:
Anzgoum
Gan idbab wa kal ghikan ntagout
Arakant aman dar tili rayafod
Isotnt molana adah oritl yat
Igd lkhrif amazoz
Ikss ousghar aman
Loh ayour s anzgoum
Iskr rbi tyawil
Ornkrz yat / ornmgr yat .. arnsrwat
Yan modizdm wado
Radas isrwat ljan
Jamharouch gan ismgngh
Ariqay lhaq
Yanah ikssan taglzimt
Ikissas afous
قصيدة: “الهمّ”
أصبح الناس مثل ضباب
يوزّع قطرات نداه على سفح قاحل
وفي الأخير .. يرتوي بدون تأخر
ليأتي الخريف فجأة
ويتبخّر كل شيء
ما بالي .. أنا من جعل ليله نهاره
أيها القمر أطلق سراح همّي
ليصير كل شيء على ما يرام
لم نحرث أي شبرٍ
لكي نحصد شيء ما
لكن، ها نحن الآن ندرس كما الآخرين
من باغته الريح في البيداء
فليتوسّل لعفريت يدرُسُ له
من سرق منّا الفأس
فقط .. أرجوه أن ينزع عنها يدها
1 أسايس : مصطلح امازيغي محلّي يدلّ على تجمع بشري للسكان القبيلة أو المدشر، والغرض من ذلك خلق فسحة للاحتفال، ويعتبر الشعر حلقة أساسية ضمن هذا الاحتفال، لا سواء من حيث المعنى أو من حيث تقدير الشعراء.