الرئيسية | سرديات | ثلاث قصص | منتصر القفاش

ثلاث قصص | منتصر القفاش

منتصر القفاش (مصر):

 

 

شطرنج

كنا أنا وياسر نلعب أدوارنا الأولى في الشطرنج في الغرفة المطلة على الشارع. تعلمناه من أخيه الكبير الذي علمنا أيضا خطة نابليون. تلك الخطة التي لو تمت فإن الملك يموت في أربع خطوات. وعلى الرغم من أننا تعلمناها معا لكن كلا منا كان يبدأ بها متمنيا غفلة الآخر أو نسيانه تحريك قطعة واحدة: عسكري أو حصان أو وزير كي تموت الخطة في مهدها. ولم نستطع تنفيذها إلا مع أصحابنا الذين علمناهم الشطرنج وأخفينا عنهم تلك الخطة، ولم يكتشفوا كيف يواجهونها إلا بعد عدة هزائم.

عندما أتذكر تلك الأدوار الأولى أجد أنني خسرت الكثير منها بسبب تركيزي في سماع الأصوات الآتية من الشارع، والتي يستحيل أن أسمعها من شقتي بالدور الثالث. المسافة لا تذكر بين الدور الأرضي والثالث وكنت أقطعها صعودا أو هبوطا في لمح البصر، لكن الفرق بين الدورين كبير في وضوح الصوت. اثنان يتحدثان وهما يمشيان في الشارع فأسمع بوضوح وأنا جالس في الغرفة صوت أقدامهم المسرعة كما أسمع اختلافهما على وقت الموعد ” لسه ناقص نص ساعة “، ” هو قال الساعة عشرة يعني دلوقتي “. وكانت تشدني أكثر الكلمات المتطايرة من سيارة مسرعة أسمعها واضحة رغم هدير الموتور. في الألعاب الأخرى مثل الكوتشينة والطاولة كانت سرعة إيقاعها وصخبنا ومشاجراتنا لا تسمح لي بالتركيز في تلك الأصوات. لكن في الشطرنج كنا نتمهل أكثر من اللازم لنقلد الكبار وهو يلعبون ولنحس بأننا نفكر بعمق مثلهم على الرغم من أننا كثيرا وبعد طول تفكير نكتشف ما إن نحرك قطعة أننا أخطأنا. هذا التمهل أتاح لي أن أصغي للأصوات وأترقب ما سيأتي منها. وصرت أتخيل الشارع غرفة كبيرة ملحقة بشقتهم. وكلما ازدادت الأصوات وتتابعت كانت هزيمتي مؤكدة. لكن علاقة ياسر بتلك الأصوات كانت سببا آخر لخسارتي أدوار كثيرة. مرة وقد حل الصمت على الشارع سمعت صوتا خفيضا لشيء يتم سحبه على الإسفلت. وظننت في البداية أنها ورقة يحركها الهواء بشكل متواصل. وكان عليّ الدور في اللعب. طللت من الشباك. رأيت قطة تسحب دجاجة ميتة من جناحها إلى مدخل البيت المواجه لنا. وكانت رأس الدجاجة مطروحة للوراء وجفناها انسدلا بارتخاء على عينيها. ناديت على ياسر ليرى فوصف لي ما أراه دون أن يرفع عينيه عن رقعة الشطرنج. وصاح في:

–  دورك

تابعت القطة وهي تعبر الشارع كأنها تنفذ وصف ياسر إلا أنها توقفتْ فجأة ونظرت ناحيتي ثم شدت مسرعة الدجاجة وتوارت خلف الباب. لم تكن أول مرة أرى مشهدا كهذا، لكن تعرف ياسر السريع عليه دون رؤيته جعلني أحس بوجود شيء في المشهد لم ألمحه ولم أسمعه من قبل.

ثقته وهو يصف لي كانت عكس تردده الدائم في تحريك قطع جيشه. لدرجة أنه كان يكرر طلبه بإعادة قطعة حركها مع وعد بأن يسمح لي بالمثل. وكنت أرفض في البداية لأطيل فترة تظاهري بالقوة وبأنني صرت أسبقه بخطوات. فهمت يومها بأنني لا أستطيع أن أكون مثل ياسر في التعرف على الشيء من صوته إلا إذا سكنت معه في شقته. وبما أن هذا مستحيل لم يعد أمامي سوى أن أرهف سمعي أثناء لعبنا الشطرنج محاولا تبين العلامة المميزة لكل صوت خاصة الأصوات التي تبدو متشابهة. لم أجده أبدا متفاخرا بهذه القدرة رغم أنه أثبتها أكثر من مرة ودائما كان صوته واثقا. نسمع صوت ركض في الشارع فيقول ” كلب الواد علي ” وأطل من الشباك فأجده هو بالفعل وليس كلبا آخر من كلاب الشارع. يعلو صوت إغلاق باب عربة فيقول ” الأستاذ حسين رجع بدري النهارده “. كان يتعامل مع قدرته هذه على أنها ليست شيئا غريبا ولم يكن ينتظر مني أي تأكيد وأنا أسرع نحو الشباك لأرى ما عرفه قبلي. ومن ناحيتي لم أظهر أي اندهاش، ولم أعلق بكلمة كلما نجح في التعرف على شيء دون أن يتحرك من مكانه أمام الشطرنج. وعندما أعود إلى مكاني وصوته يتعجلني لأستأنف اللعب أظل مشغولا بدقة تعرفه على الصوت، وعدم قدرتي على أن أكون مثله فأخطئ في تحريك جيشي. ومرة لم أنتبه إلى أنه نصب لي خطة نابليون فارتفع صوته:

–  كش مات

الوقوف في البلكونة

 رفض أن تكون من الحديد فهو لا يريد قفصا يقف فيه وأصر على أن تبنى بالطوب الأحمر. وأثناء بنائها عندما كان أحد أولاده يسهو ويشير إلى مكان شيء ” جنب الشباك” يصحح له فورا   ” البلكونة ” وينبهه بأن عليه نسيان أيام الشباك. صار عم محمود يفضل شرب الشاي فيها وقت المغربية. ويضع علبة السجائر على السور وفوقها الولاعة بعدما يشعل سيجارته. تمنى لو بناها وأولاده مازالوا صغارا  ” كان سيفرق معاهم كتير ” على الأقل كانوا سيحسون أنهم لديهم بلكونة مثل أصدقائهم ويدخلون للعب فيها، هو نفسه الآن يحس بالفرق لاستطاعته أن يطل على الشارع وهو يقف بطوله دون أن يضطر لإحناء جسده على الشباك. وخطر في باله أن أولاده لو كانوا  صغارا كانوا سيتضايقون من عدم قدرتهم على مد حبل زينة رمضان من تلك البلكونة إلى الناحية المقابلة، فالحبل المنخفض سينقطع فور مرور عربة  نقل أو لو اندفعت ناحيته كرة مرتفعة قليلا. وسيضطرون كما اعتادوا على مد الحبل ابتداء من الدور الأول أو الأفضل من الدور الثاني معلقين في منتصفه فانوس رمضان الكبير. لكن رمضان شهر واحد في السنة وبقية الشهور لا تحتاج إلى زينة.  صار يرى الشارع غير مكتمل أو أقل من الصورة التي يتخيله عليها لو انتشرت البلكونات في الأدوار الأرضية. لكنه كان يثق من مجيء يوم تتحول فيه تلك الشبابيك إلى بلكونات، وقد يلجأ إليه أصحابها لاستشارته والاستفادة من خبرته. لم يرحب أحد من أصدقائه بالوقوف معه في البلكونة، فضلوا كما اعتادوا الجلوس على الكنبة في الداخل حيث يستطيعون ثني أرجلهم أو فردها وتحريك أيديهم دون أن تصطدم بشيء، أما في البلكونة فالمكان ضيق بالإضافة إلى أنهم يرون أنفسهم جالسين في الشارع وإن ارتفعوا قليلا في الهواء. ومع إلحاحه دائما يضطرون إلى الوقوف فيها قليلا ويتبادلون معه بضعة كلمات بصوت هامس قبل أن يعاودوا الدخول والتكلم براحتهم. بعد أيام قليلة من بنائها بدأ في  الخروج وكنس المنطقة تحت البلكونة. لم يقنعه تنظيفها مرة واحدة صباحا عندما يكنسها عامل النظافة. كان يخرج بعد المغرب بمقشته ذات الذراع الطويلة ليكنسها بنفسه، ويركز عينه على أسفل البلكونة ولا يلتفت إلى أحد يمشي أو يطل من البيوت المواجهة. كان يبدو خارجا إلى مهمة محددة لا يريد أن يشغله عنها شيء ولا أن تقلقه نظرات الآخرين. وعندما يعثر حتى على عقب سيجارة يزداد اقتناعه بضرورة ما يفعله, فلا يمكن أن يطل منها وهو قلق من وجود شيء تحتها، يحس لحظتها كأنه يطل على الناس من فوق كومة قمامة يتخيلها وهي تتصاعد حتى تغطيه. حاولت زوجته وأولاده منعه من الخروج فالأمر لا يستحق، مجرد علبة أو ورقة،  لكنه لا يقتنع بكلامهم فشيء واحد مثل صندوق كامل أفرغ تحتها. وصارت زوجته تكرر ندمها على السماح له ببناء البلكونة التي جعلته ينظف الشارع ويخرج أمام الناس بمقشته الطويلة. لم ير أحدا يرمي أو يصوب ناحيتها أي شيء ويعرف أنه بعد خروجه إلى المعاش بعد شهور قليلة لن يضطر للكنس فسيتوفر له الوقت لمراقبة المكان جيدا. وحينما يتساءل ابنه الكبير ساخرا  “حتمسك كل واحد يرمي حاجة تحتها؟ “. لا يرد عليه متضايقا من سؤاله ولأنه لم يحدد طريقة المراقبة. وجد أولاده يرددون عمدا كلمة الشباك بدلا من البلكونة  بسبب غضبهم من خروج للكنس. تغافل عن التصحيح كأنه لا يسمعهم  بحيث صار الوحيد في الشقة الذي ينطق بالبلكونة. والضيف الذي يتصادف سماعه الاسمين يظن أنهما لمكانين مختلفين رغم أن الجميع يشير إلى نفس الاتجاه. وعندما سأله صديق مرة ضاحكا وبشكل عابر عن سبب تمسك الأولاد بالاسم القديم طلب منه الدخول إلى البلكونة كأنه سيبوح له بسر. وأحس صديقه المرتاح في جلسته على الكنبة  بأنه ورط نفسه في الوقوف بالبلكونة بل اضطر إلى الجلوس فيها، فقد راح عم محمود يحكي له منذ أن كانت زوجته ترفض بناءها لأن أولاده يحتاجون كل قرش، وانتظاره حتى تخرّجوا جميعا وكيف استطاع ادخار تكلفتها ثم قضاؤه أياما طويلة في تأمل نماذج مختلفة من البلكونات في الشوارع الأخرى وتخيله كلا منها موضع شباكه واستقراره في النهاية على هذا الشكل، والفرق بين أن تطل منها وبين أن تطل من الشباك. استغرق في الكلام مستمتعا بأول مرة يحكي الحكاية من بدايتها، وبأول مرة  يجلس مع أحد في البلكونة كل هذا الوقت. وكانت ذراعاه ترتفعان وتهبطان وتدوران في الهواء كما لو كان يجلس براحته.

المشي

ثالث مرة اليوم يصطدم أحمد بشخص وهو يسير في الشارع، ويكرر ” آسف ” مضيفا إليها هذه المرة ” معلهش. مستعجل شويه “.

 توقف مكانه. وأخرج سيجارة متظاهرا بالبحث عن الولاعة ليطيل وقفته. بالفعل لم ير أيا منهم كأنهم ظهروا لحظتها فقط. لا يستطيع تحديد متى يحدث هذا، في الشهور الأخيرة تكرر على فترات متباعدة، لكن من شهرٍ زاد معدل حدوثه دون أن يعرف كم شخص سيصطدم بهم في اليوم الواحد. وحرص عندما يبدأ الفعل في العمل على أن يبطئ سيره جدا إلى درجة أنه يبدو كمن يتعلم السير، وبهذه الطريقة يضمن ألا يكون الاصطدام قويا ويكاد أن يكون تلامسا يمكن أن يتجنبه الشخص الذي ظهر فجأة أمامه. لا يساعده أن يدقق النظر فيمن يسيرون اتجاهه، فليس من بينهم من سيصطدم به، كأنه يأتي من زاوية لا تصل إليها عيناه أو كأنه لا يرى أحمد أيضا، ويصير الاثنان لا يريان بعضهما إلا لحظة الاصطدام. وكان أكثر ما يقلقه أن تكون الضحية امرأة، خاصةً بعد أن صبت واحدة على رأسه العديد من الشتائم، وفهم من كلامها الموجه للمارة أنها تعرضت يومها للكثير من المعاكسات، وبعدها لجأ أحمد عند اصطدامه بواحدة إلى الاندفاع في الاعتذار بصوت عال ودون توقف حتى يطمئن لابتعادها عنه.

كان سيره ما زال بطيئا ليتمالك نفسه ويحسب عدد الذين اصطدم بهم خلال هذا الأسبوع فقط. وأعاد الحساب مرة أخرى بعد شكه في رقم ثلاثين الذي أوحى له وهو ينطقه بمجيء يوم سيصطدم فيه بكل الناس.

انتبه أحمد لوقوع رجل على ظهره وانفتحت حقيبته السمسونايت – التي ظن أنها انقرضت- وتناثرت منها سندوتشات الفول والطعمية، وتأكد مباشرة أن الرجل سيتشاجر معه لا لشيء سوى لانكشاف عدم احتواء الحقيبة إلا على هذه السندوتشات، وتبرع بعض المارة بلملمتها وإعادتها مرة أخرى إلى الحقيبة المفتوحة، لكن الرجل لم يتهجم عليه فقد انشغل بالبحث عن نظارته التي سارع أحمد بالتقاطها وإعطائها له وهو مندفع في الاعتذار بصوت عال دون توقف، وكل ما قاله الرجل ” ده عينك كانت في عيني وشايفني كويس ” لم يقل له أي واحد ممن اصطدم بهم هذه الجملة من قبل مما جعله يضيف احتمالا آخر: أن عينيه تريان من سيصطدم به لكن دون أن تشركا أحمد في الرؤية.

حدوث الخطر وأنت تتوقعه أهون كثيرا من أن يباغتك وقد ظننت أنه تجاوزك وصرت في أمان. لا تنطبق هذه الجملة تماما على أحمد فحالته أشبه بمن يلاعبه الخطر: يطمئنه ثم ينقض عليه فيتوقع أحمد تكراره في أيام كثيرة فلا يحدث، ويظل ينتظره ممنيا نفسه بانقضاء الخطر، وتدريجيا يزيد اطمئنانه مشوبا بقلق فيصطدم بشخص وقد أوشك أن يستعيد خطوات مشيته المعتادة. وأي خطر حقيقي لا يهتم بأن تكون بمفردك أو مع أحد، أمّا مع أحمد فإنه يصطاده بمفرده موحيا له برسالة ساذجة: احرص على أن تكون دائما في صحبة أحد. مما دفع أحمد إلى تخيل أصدقائه وأفراد عائلته وهم مصطفون على طول طريقه يسلمه كل واحد منهم بعد مسافة مقدرّة إلى آخر وهكذا حتى يصل إلى هدفه. ولم تكن هذه الرسالة الوحيدة، فأثناء توقفه بعد اصطدام خفيف واعتذار سريع سرح في رسالة أخرى: ما يحدث لك يعكس طبيعة حياتك. أصغى لهذه الكلمات وقد أحاط لهب الولاعة بأصابعه وأمال رأسه ناحيتها وظل في هذا الوضع ثوان رغم إشعاله السيجارة وتصاعد الدخان. كثيرة الأشياء التي حدثت في حياته وأبلغته أنها تعكس طبيعة حياته، إلى درجة شعوره بأنها مثل الرسالة التي سجلها في الأنسرماشين تخبر كل من يتصل أنه بالخارج الآن، وممكن ترك رسالة بعد سماع صوت الصفارة. وكلما اتصل أحد يسمع نفس الرسالة دون أن تعني أنها مسجلة لشخص واحد بعينه. الأحداث والأشياء غير المتوقعة واللحظات التي تخطفه فجأة، كلها كررت نفس الرسالة: رغم صغرنا لكننا نكشف لك عن كل حياتك وأين تكمن مشكلاتك الحقيقية. ودائما كان أحمد يفضل التعامل معها مثلما يتعامل مع رسالة الأنسرماشين يسمعها مضطرا حتى تأتيه الصفارة ليستأنف حياته كالمعتاد، وفي بعض الأحيان يسخر منها ومن صوت صاحبها قبل أن يبلغه بما يريده. لكنها في النهاية كانت أشياء تبلغه برسالة وتتوارى عنه فور إبلاغه بها، أما حالة الاصطدام فإنها مستمرة وفي تزايد وكأنها قررت مواجهة إهماله الرسائل التي تصله وربما معاقبته أيضا على عدم إصغائه.

كانت تسحره فكرة أن للجسد ذاكرة، فلو كنت راقصا اعتدت على تأدية رقصة مرات عديدة فسيمكن لجسدك أن يؤديها حتى لو كنت مشغولا بالتفكير في أشياء أخرى أو منوما تنويما مغناطيسيا. كانت الفكرة تعجبه على طريقة إعجابنا بمن يحقق أرقاما قياسية في مسابقات الجري دون أن يعني هذا قدرتنا على تحقيقها. أشياء تحدث لكن بعيدا عنا. انتبه إلى أن للاصطدام ذاكرة تنشط بمجرد توفر الظروف المناسبة التي يجهلها تمام.

على الأقل حتى الآن تأكد من وجود هدنة بين اصطدامين تسمح له … بماذا؟ قبل رجل السمسونايت ظن أن الهدنة تسمح له بإبطاء سيره ليخفف من قوة الاصطدام القادم، لكن الآن فهم أن الهدنة ليست له بل للفعل نفسه ليتخيّر الضحية القادمة ويفكر في أنسب طريقة للانقضاض عليها

وكيف ينجو أحمد من كل هذا؟

لا يخرج من البيت.

لا يمشي على قدميه.

لا يتعامل مع المشكلة بجدية: يصطدم ويتأسف ويمشي حتى ييأس منه الاصطدام ويرحل عن حياته.كان يمكن لهذا الحل أن يكون مناسبا إلا أن الاصطدام الأخير أوجع جسده كما لم يحدث له من قبل. وظل يضغط على صدره كأنه يثبّته مكانه، ورأى أن قرار عدم المبالاة قد يفضي به إلى عدم قدرته – بالفعل – على المشي وإلى أن يظل حبيس البيت.

متأملا صورته في زجاج إحدى الفاترينات سأل نفسه: وماذا سيفعل كل هؤلاء المارة لو كانوا جميعا مكاني؟ لن يشكو أي واحد منهم، ولن ينتبهوا لوجود مشكلة مادام اصطدام كل واحد بالآخر سيصير طبيعة المشي في هذا البلد، وربما ستتسع الأرصفة لتفسح لهم المجال للتوقف أو التقاط ما وقع منهم أو محاسبة من يتعمّد العنف. تذكر المرأة التي شتمته وراحت تخاطب المارة بعد الاصطدام عن مشكلتها مع شركة زوجها التي تماطل في صرف التعويض المستحق عن إصابته أثناء تأدية عمله والتي أدت إلى أنه صار مقعدا في البيت، وكررت الشكوى أكثر من مرة كلما لمحت أحدا ينضم إلى الواقفين حولها حتى ظن بعضهم أنها طريقة جديدة للشحاذة يؤديها كل من أحمد والمرأة، وانصرفوا وهم يتعجبون من حيل الشحاذين التي لا تنتهي، وحكى أحدهم عن الرجل الذي ظل يبكي وهو راكع أمام طاولة بيض تكسّر على الرصيف، شاكيا لمن يتوقف جواره عدم استطاعته شراء أخرى، ويستمر في الشكوى متظاهرا بعدم انتباهه لمن يدسّون في جيب جلبابه نقودا.

صرخت فيه فتاة خرجت من المحل، ونادت على شخص في الداخل ليساعدها على إبعاد أحمد عن الفاترينة التي راح يضغط عليها بوجهه مصدرا همهمة تشتد كلما حاولوا تخليصه، دون أن يستطيع أحد فهم ما يقوله أو فهم أنه في طريقه للاصطدام  بصورته  المنعكسة على الزجاج.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.