الرئيسية | سرديات | ثرثرةٌ مع شاعر زومبي | نجيب مبارك

ثرثرةٌ مع شاعر زومبي | نجيب مبارك

نجيب مبارك (المغرب):

دقّ الجرس للمرة الثالثة. نهضتُ من مقعدي بتثاقل وعبرت الممرّ الذي يفصل الغرف عن صالة الضيوف حتّى وقفت أمام الباب. لم أفكر في النظر من العين السحرية لمعرفة الطارق. كنت أتخيّل أنه لا بد أن يكون حارس العمارة الذي يأتيني من حين لآخر بإشعار جديد لأداء واجب السنديك، أو أحداً من الجيران ربّما عثر على ربطة عنقي، الّتي أتخلّص منها مباشرة بعد مغادرة العمل وأضعها على عجل في جيب سترتي، والتي أحياناً تسقط مني سهواً في المرآب أو في المصعد أو فوق السلالم. باستثناء هاتين الحالتين، لا أحد يطرق بابي لأيّ سبب آخر.

لكني ما إن فتحت الباب حتى اندهشت. وجدت أمامي كائناً مُفزعاً ومشوّهاً بالكامل. كان وجهه شاحباً ومسلوخاً عن آخره وجلده يتدلّى من كلّ أطراف جسمه، ملابسه رثّة للغاية وتغطّيه آثار الدماء والأوحال الطرية. عيناه فقط كانتا صافيتين وزائغتين بشكل رهيب. قلتُ مع نفسي: ” يا إلهي ! كأنه زومبي.”

– هل يمكنني الدخول؟ قال وهو يرمقني بنظرات متوجّسة.

شعرت بصدمة كبيرة لما سمعت هذه الكلمات. إنه يبدو مثل زومبي، لكنه يتكلّم لغتنا بطلاقة عجيبة. كنت أعرف أنّهم هناك لا يتحدّثون أيّ لغة في حياتهم اليومية، ولغتهم القومية في الأصل )إذا سمّيناها تجاوزاً لغة( كانت في فترة من التاريخ لهجة هجينة مقتبسة من لغات كثيرة منقرضة وغير متداولة منذ قرون، كما أنهم مباشرة بعد أن وقّعوا إعلان وقف إطلاق النار مع الأحياء ورفعوا راية استقلالهم في إقليم البرزخ، صوّتوا على دستور جديد تنصّ إحدى فقرات ديباجته على أن اللّغة الرسمية الجديدة للزومبي ستكون هي “البجغطة”، وهو مصطلح حديث جداً أطلقه باحثون في الميثولوجيا والأنتروبولوجيا واللسانيات على ذلك الخليط من الأصوات المبهمة التي يصدرها الزومبي والحركات الغريبة التي تصاحبها. تذكّرت كلّ هذا وأنا أحدّق في وجه زائري، وعندها فعلاً أحسست أنني مثل من وقع فجأة في ورطة وينتظر أن تحصل معجزة خارقة تخلّصه منها بأسرع وقت. ورطة من ذلك النوع الذي لا يمكن الفكاك منه سوى بالهروب، أو بالاستسلام الصادق من القلب.

بقيت جامداً أحملق فيه وأنا لا أكاد أصدّق عيني. لكن بعد فترة من التردد، استسلمت :

– تفضّل.

“شكرا”، قال وهو يخطو إلى الداخل خطوات متعثّرة ويقوم بحركات متشنّجة وغريبة، ملوّحاً بكلتا يديه إلى الأمام كأنه يحاول التمسّك بشيء ما معلّق في الهواء. كان يلبس قميصاً ملطّخاً بالدماء وبنطلوناً من الجينز ممزقاً ومتّسخاً وينتعل صندلاً مهترئاً عليه بقع غبار أسود كالح. وبدا لي، وأنا أنظر إليه وهو يتقدّم خطوة بعد أخرى ويجاهد لحفظ التوازن بشكل مضحك، شبيهاً بواحد من أولئك الذين يخرجون من بيوتهم صبيحة عيد الأضحى، مدجّجين بالمطاوى والسكاكين، ولا يعودون إليها إلاّ وقد أجهزوا على جميع خرفان الحيّ.

جلستُ على كرسي في الجانب الآخر من الصالة، بعيداً عنه بأمتار حتى أبقى قريباً من الباب. وبدأت أتأمّله بدهشة. وفي هذه اللحظة بالذات تأكّدت أنه زومبي حقيقي. زومبي كامل الأوصاف. يشبه تماماً أولئك الذين ألفت حكاياتهم في الروايات والقصص المصورة والأفلام. لا أعرف لماذا في تلك اللحظة استيقظت في وعيي ذكريات مختلفة من حياتي السابقة لها صلة بهذه القصص. والواقع أنني لطالما تخيلت، أنا الشغوف جداً بأفلام الرعب منذ الصغر، أنه سيأتي يوم يتحقق فيه حلم اللقاء وجها لوجه مع أحد من أبطالي المرعبين المفضّلين: دراكولا، فرانكشتاين، فريدي كروغر، الرجل الذئب…إلخ، لكن للأسف هذا لم يحصل حتى الآن. كنت أنظر إلى الزومبي الجالس قرب النافذة التي تطلّ على الشارع، منكفئاً على كنبة الصالون مثل شحاذ بئيس أو مصاب بجذام في مرحلة متقدمة، وأتأكد من جديد بأنني لم يسبق لي فعلا أن شاهدت هذا المخلوق في أي فيلم من الأفلام. كان وجهه عاديا جداً، من تلك الوجوه الكثيرة التي تعج بها قصص الرعب، وإن بدا لي مألوفا بعض الشيء. يصلح مثلا أن يكون واحداً من هؤلاء الكومبارس الذين يعبرون بسرعة من الجانب المظلم للشاشة في اتجاه الضحايا، ثم يُقتلون في الطريق أو يختفون أو يسقطون بسبب الزحام والتدافع. لكنه لا يصلح أبدا أن يكون بطلا من أبطال الرعب. ثم لم أعرف لماذا، في تلك اللحظة، تذكرت كليب أغنية “ترايلر” لأسطورة البوب “مايكل جاكسون”، وبشكل خاص وجه أحد الراقصين إلى جانبه، ثم سرعان ما بدا لي الأمر مستبعداً إن لم يكن مستحيلا. فهذا الكليب تم تصويره في بداية الثمانينيات، وحينها كان الزومبي لا يزال طفلا يحبو في الحضانة.

  • أين تركتَ الحصان؟

كان سؤالاً غبياً، أعرف. لكن، دفعا للمشاعر المتناقضة التي اجتاحتني في تلك اللحظة، كان لا بدّ من قول شيء ما.

أجاب الزومبي:

– لدى حارس العمارة ريثما أعود.

– جيّد. لا بد أن تمنحه بقشيشا على المهمة.

– المسكين كان مرعوبا بعض الشيء. مني ومن الحصان على السواء. لكنه تقبل الأمر في النهاية عندما علم أن لدي موعداً معك.

“موعد؟ ! لكن هذا مستحيل”، قلت مع نفسي. ومرّت لحظات من الصمت دامت لدقائق طويلة، فاستأنفت ترحيبي بالضيف، رغم يقيني بلا جدوى المحاولة:

-هل أقدم لك شيئا، قهوة، شاي، عصير؟

-لا شكرا. لا أريد أي شيء.

-براحتك. لكن صارحني، لماذا أنا بالضبط؟ لماذا لم تقصد شخصاً آخراً؟

نطقت هذه الكلمات بسرعة وتوتّر كمن يبعد أسئلة وخواطر كثيرة ومتناقضة تجول في عقله دون أن يحسم فيها. ذلك لأن سؤالاً من قبيل: “لماذا أنا بالضبط؟”، الذي ظل يطنّ في رأسي بمجرد أن أفصح عن ما دار بينه وبين الحارس، كان مفروضاً أن أطرحه عليه في الإيميل الذي بعثت له موافقاً على الموعد. الآن فات الأوان. كان قد أرسل لي رسالة قبل أسبوعين، مقدّماً نفسه على أنه طالب شاب مهتم بالشعر ويحضر بحثا جامعيا، إن لم تخني الذاكرة، حول “الثابت والمتحول في الجسد الشعري: بحث في الشهادة والاستشهاد عند العرب”، ويريد إجراء مقابلة معي لكوني أحد الشعراء الشهود الناجين بعد “القومة”. ثم ختم رسالته بتوقيع غريب: شاعر زومبي. لما قرأت هذا التوقيع ابتسمت ولم أكترث. اعتبرته إحدى دعابات الشباب الذين يحاولون بشتى الطرق أن يلفتوا الانتباه إلى نصوصهم الأولى. هكذا، وافقت على إجراء المقابلة، من دون أن أطرح أسئلة كثيرة، إيمانا مني بأهمية تشجيع البحث العلمي وواجب تقديم العون إلى طالب حتى يتمكن من إتمام بحثه.

قال الزومبي، وكأنه يقرأ في أفكاري:

-تظن أنني أتيت لإجراء مقابلة حول البحث الذي كلمتك عنه في الإيميل، لكن في الواقع هذا ليس السبب الحقيقي لمجيئي.

-وما السبب الحقيقيّ إذن؟

– السبب هو أنك شاعر. وقد جئتك لأنني أمثّل جميع شعراء البرزخ. إننا مجموعة صغيرة من شعراء الزومبي تتقن لغتكم، لغة الأعداء. كنا دائما من مناهضي الحرب معكم. ومثل أيّ طائفة مهدّدة بالتّصفية، نلتقي ونتكلم ونكتب لغتكم في السرّ خوفا من الموت. ولهذا فنحن نعيش اليوم في خطر شديد، مطاردين ومنبوذين ومضطهدين من الجميع، سادة وعبيداً. وأريد منك مساعدتي في أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى كل الأحياء، وأيضا بالنسبة إلي شخصيّاً ولأجيال قادمة من شعراء الزومبي الأحرار.

– أيّ أمر هذا الذي يتطلّب مساعدة مني؟

– سأشرح لك. لقد هربتُ من البرزخ بعد عناء شديد. سنوات طويلة قضيتها مطاردا ومتخفيا وهائما في الفيافي والخنادق والمغارات، ولك أن تتخيّل كم لقيت من الصعاب والأهوال كي أتسلّل عبر الحدود. وقبل أن أعبر، جمعت كلّ أشعاري وحملتها معي إليك، خوفا من أن تسقط في يد شرطة البرزخ، فتُحرق وتضيع إلى الأبد. إنها خلاصة مغامرتي الشعرية، وديوان آلامي وأحلامي التي لم يسبق لزومبي أن أبدع مثله منذ بدء الخليقة.

– لكني أرى أنك لا تحمل أيّ كتاب.

– الكتاب أخفيته في مكان آمن، وستجد هنا خريطة مدققّة للوصول إليه.

نهض من مكانه بحركة لاإرادية عنيفة، وتوقف قليلا ثم تمايل وهو يخطو متعثّرا ومترنحا مثل مخمور، وتقدّم نحوي إلى أن وقف على رأسي وناولني خرقة بيضاء ملطّخة بالدماء. تناولت من يده الخرقة وفتحتها بحذر وتأفّف بالغين، فوجدت فيها كلمات بخطّ غامق، ميزت من بينها كلمتين هما “مقبرة الشهداء”، وأشكالا هندسية وأسهماً تحدّد المكان المفترض الذي يوجد به الكتاب. نظرت إلى الزومبي الواقف بلا حراك، وإلى حالته المزرية والمرعبة، إذ كان قريباً مني بدرجة تثير الفزع في أشد القلوب صلابة، ونظرت في عينيه مباشرة فراعني زيغان نظراته ولمحت فيها حزناً آدميا عميقاً وغريباً، وتضرّعا يائسا شبيها بما نصادفه عادة لدى بني جلدتنا من الأحياء في أوقات الحروب والكوارث والمآسي. اجتاحتني في تلك اللحظة مشاعر كثيرة متباينة، لكن أقواها كان شعورا بالإشفاق والتعاطف مع هذا الكائن المشوّه الحزين. بعد لحظة من التأمل العميق، غمغمت بهذه الكلمات:

– حسنا، سوف أتكفّل بأمر الكتاب. فهمت من كلامك أنك تسعى إلى نشره بين الأحياء وحفظه أيضا للأجيال القادمة من شعب الزومبي.

– بالضبط. أنا محكوم عاجلاً أم آجلاً بالفناء والعودة إلى عالم الأموات. هم بمجرد ما يكتشفون أنني هربت، سيحرضون كبير السحرة في البرزخ على تحريك مفعول سحر”الفودو” ليدخلني في سبات أبديّ.

– من المؤسف أنك لن تتمكّن من رؤية كتابك منشوراً.

– المهم أن ينجو الكتاب. أما أنا فلا أستحق الحياة ولا أستحق الموت. ولم يبق لي إلا أن أشكرك على قبولك تقديم المساعدة. وداعاً.

قال هذه الكلمات باستعجال وتحرّك في اتجاه الباب. كان الباب لا يزال موارباً قليلا فجذبه بعنف حتى اصطدم بالحائط. ثم قفز بخطوة واحدة نحو الممر واختفى من مجال الرؤية. سمعت بعد ذلك وقع قديمه المضطرب وهو ينزل السلالم. وبعدها ساد الصمت.

استيقظت متأخراً في ظهيرة اليوم التالي، وكان يوم أحد. تناولت فطوري على عجل وأنا أراجع رموز الخريطة التي تركها لي الزومبي. ثمّ خرجت من البيت وتمشّيت على رصيف المحيط إلى أن وصلت “مقبرة الشهداء”. كانت الساعة تشير إلى الواحدة زوالا. وكانت المقبرة شبه خالية إلاّ من بعض الزوار، متناثرين بين القبور المرصوصة هناك على قمّة التلّ. مررتُ بشواهد مختلفة: أطفال وشيوخ ونساء وشباب، الكثير من الأسماء وتواريخ الوفاة وبعض الأدعية والسور المختلفة. كلّ المقابر صُبغت بجير أبيض وتعلوها حشائش بريّة كثيفة. وحين وصلت إلى القبر الذي تشير إليه الخريطة، الخامس إلى اليسار بعد ملتقى الممرّ السابع مع الثالث بموازاة السور، توقّفت. أخرجت الخريطة من جيبي، وبدأت أقلّب نظري بينها وبين المقبرة أمامي. فجأة، وأنا أقرأ الكلمات المحفورة على الشاهدة، تجمّدت في مكاني وأصابني هلعٌ ورعبٌ رهيب وارتعش جسدي بشدّة من قمّة رأسي إلى أخمص قدميّ، حتى سقطت الخريطة من يدي: كان الإسم المحفور على شاهدة القبر هو إسمي الثلاثيّ الكامل، وتحته بخطّ مائل تاريخ الوفاة الذي يتطابق كليّاً مع تاريخ ولادتي منذ أزيد من ربع قرن.

بقيت متيبّساً ومشلولاً لبعض الوقت، وحين بدأت أستوعب الأمر بصعوبة وأتيّقن أن ما أراه حقيقة وليس توّهماً، تناولت الخريطة من على الأرض وأعدتُ مراجعة بعض الرموز. بعد ذلك، شرعت في مهمّة إخراج الكتاب: اقتلعت بعض الأعشاب بيديّ العاريتين وبدأت أنبش عميقاً على مسافة شبرين من جذر الشاهدة، حتى لمستُ شيئاً صلباً عبارة عن مغلّف سميك من البلاستيك ملفوفاً بعناية بالغة. أخرجت المغلّف ونفضت عنه التراب، ثم نزعت أكثر من عشر طبقات من البلاستيك المقوّى حتى لم يبق في يدي سوى كتاب مجلّد ضخم. كنتُ متعباً ومنهكاً وأتصبّب عرقاً بسبب حرّ الظهيرة، فتهاويت على قبري وجلست وأنا أسند ظهري إلى الشاهدة. ولمّا فتحت المجلّد على الصفحة الأولى طالعني هذا العنوان: الأعمال الشعرية الكاملة. ومرّة أخرى، كان اسمي مطبوعاً بأحرف بارزة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.