د. محمد سمير عبد السلام – مصر:
العلاقة بين الوعي، والواقع ثرية، وتتسم بوفرة الإنتاجية الإبداعية، وطرق الرؤية الجمالية للشيء، أو العلامة؛ ولهذه العلاقة أثر كبير في تحولات فنون التصوير، والأدب، وكذلك الفنون الأدائية عبر مستويين من الدلالة؛ هما:
الأول: مستوى التداخل بين الوعي، والعلامة الواقعية، أو الكونية؛ وفي هذا المستوى نلاحظ الظاهرة في تجليها الذاتي، ولكنها تبدو تعبيرية أيضا؛ أي أنها تخرج من المجال الوظيفي إلى المجال الجمالي؛ ومن ثم تفتح المجال أمام الرؤى التأويلية في التلقي؛ كما هو في فكر جادامر، ومارتن هيدجر.
الثاني: مستوى التعديل، أو إعادة الإنتاج، وفيه يضيف الوعي عناصر خيالية، أو يحذف بعض ملامح الظاهرة؛ ليتداخل المنظور الإبداعي مع حضور الشيء في آن، وتخرج كينونة الشيء عن مرجعياتها الأولى، ويصير المدلول منفتحا على الاحتمالات الأخرى، والأخيلة، والأحلام المحتملة.
وبصدد تغير زوايا النظر إلى الظاهرة، أو العلامة، وإمكاناتها التأويلية المحتملة في الوعي، يرى “مارتن هيدجر” في كتابه “المشكلات الرئيسية في علم الظواهر” أن الحقول المحددة للموجودات، لا يمكن الوصول إليها بطرق متماثلة في الرؤية؛ فالكائن البشري، أو الدازاين مثلا يعد تاريخيا من زاويته الشخصية، ولكن ثمة ولكن طرائق تأويله تعد وفيرة، ومختلفة، ومتنوعة.
إن الظاهرة، أو العلامة – في فكر هيدجر- تختلط بزوايا الرؤية النسبية المتنوعة؛ مثلما تمتزج هوية الكائن بتأويلاته الممكنة، وزمنه الوجودي الخاص؛ فالذات تخضع لإعادة التفسير؛ لتشكل وجودها الخاص في العالم.
مثل هذا التداخل بين الظاهرة، وعالم الوعي، وزوايا الرؤية، نلاحظه في أعمال الفنانة “سارة إسماعيل”، وقد عرضت بعضا منها في معرض بعنوان “بداية”، أقيم بمركز دوار الفنون بالمنيا في 2015.
ويمكننا ملاحظة بعض التيمات الفنية المتواترة في أعمال سارة إسماعيل؛ ومنها الملمح الذاتي في الفوتوغرافيا، والبورتريه بين التأويل الجمالي، والغياب، والتجليات الفريدة للظواهر في الوعي المبدع.
أولا: الملمح الذاتي في الفوتوغرافيا:
تقع العلامة في تصوير سارة الفوتوغرافي بين الداخل، والخارج؛ فهي تعلن عن ظهور الشيء / الكرسي، ولكنه يشير إلى غموض باطني، يتصل بعالم اللاوعي، وتأويلاته الممكنة؛ وهو ما يذكرنا بالخافية عند يونج، والجزء الأكبر من جبل الجليد في تصور فرويد؛ والذي يشير إلى المستويات الأعمق من الوعي؛ فالكرسي يتجلى كأثر جمالي تمثيلي للضمير الشخصي؛ وكأنه يعيد تأويل المنظور، وما يحمله من ذاتية جمالية تعبيرية من داخل الظهور الواقعي للشيء نفسه.
لقد تطور فن الفوتوغرافيا حتى صار الواقع نفسه جماليا فيما بعد الحداثة؛ وقد استخدم مارسيل دوشامب تكوينا من الكرسي المستدير، وعجلة دراجة؛ ليمزج بين الصيرورة، والثبات، وتشير تكوينات الكراسي، وعلاقاتها بالأطياف، والفضاء الجمالي المولد عن الواقع المجازي إلى تنويعات ذاتية، تجمع بين البهجة، والتعالي، والتحول، أو الامتزاج بالعناصر الكونية الكامنة في أخيلة التراب، وأخيلة الهواء.
ثانيا: البورتريه بين التأويل الجمالي، والغياب:
لا تكتفي سارة برسم الوجوه، أو نسخها، وإبراز ما فيها من خصوصية جمالية؛ وإنما يقوم الوعي بإضافات مكملة، أو محورة لمدلول الشخصية؛ فقد تضيف ملمح الاختفاء في بعض العيون، أو لنصف وجه أنثوي؛ بحيث يصير الوجه كنوع من التشبيه الذي يستبق الواقع، كما هو في فكر جان بودريار حول تطور الصورة، واختلاطها الأصلي بمرجعياتها الواقعية؛ فالوجه الأنثوي عند سارة يبدو – في نصفه الآخر – بين الغياب، والولادة الاستعارية التشبيهية المتجددة في سياق متجاوز للواقعية.
وقد تبرز سارة عمقا مضافا للعين الأنثوية؛ وكأنها تشير إلى الخدر الذي يجمع بين السكون، وأخيلة اليقظة كما هي في فكر باشلار، وارتباطها بطاقة الأنيما الأنثوية؛ وقد تقع العين عندها – في فضاء واسع مجرد؛ وكأنها عين كونية، كما هو في منظور الفنان الفرنسي ماجريت؛ فالعين في مثل هذه الأعمال نافذة تطل على اتصال الشخصية بالعناصر الكونية، والأساطير، وأحلام اليقظة؛ ويؤكد ذلك المنظور تحوير الفنانة أحيانا لشعر الأنثى؛ فيبدو كحديقة مزهرة، أو يكون كثيفا بدرجة أكبر في العمل الفني؛ وهو ما يؤكد سمة التخييل كتأويل ذاتي لوجه الأنثى؛ فهي تجدد نفسها من خلال الاتصال بما وراء الكينونة، ومن تداخلات تكوينها مع تراثها القديم، وأخيلتها الداخلية التي تتجلى كعلامات فيزيقية جمالية محتملة.
ثالثا: والتجليات الفريدة للظواهر في الوعي المبدع:
ارتبط الكرسي في التراث بالقوة، أو تبعية التكوين البشري؛ إذ لا يكتمل حضوره إلا باستدعاء إنسان افتراضي، ولكنه هنا يمتزج بالوعي المبدع، ولا ينفصل عن زاوية نظر الفنانة؛ وهو يشبه الذات المدركة نفسها، ويتجاوز موقعه الثقافي الهامشي، أو المركزي في آن؛ فهو مشبع بالحضور الجمالي الذي يذكرنا بحذاء فان جوخ، وبتأويل هيدجر لأصالته الفنية؛ فالكرسي – عند سارة – يمارس تعاطفا كونيا متعاليا مع الآخر؛ وكأنه يشير إلى الذات المتعالية أثناء حدوث العمل الفني، وهو يقع بين الأرض، والفضاء السماوي الرحب؛ وكأنه يشير إلى استقرار معلق، أو مؤجل، يشبه مدلول الكينونة عند هيدجر، والتي تختلط بالغياب، والتأويلات الكامنة المحتملة؛ وكذلك يذكرنا بمسرحية الكراسي لأوجين يونسكو، وتقع فيها الكراسي على أخيلة مائية، وترتبط بتاريخ زوج مهمش يبحث عن أولية افتراضية، ويتضاعف عالم يونسكو العبثي الخيالي في خطيب أبكم، وجمهور خفي، ثم تجل فني للكراسي وحدها في النص.
يقول يونسكو:
“الخطيب: … يحاول أن يفهم الجمهور أنه أصم وأبكم. يأتي إيماءات وحركات الأصم الأبكم؛ مجهودات يائسة لكي يفهمه الجمهور، ثم يصدر أصواتا أشبه بالحشرجة، والغطيط، والأنين …”.
(راجع، أوجين يونسكو، الكراسي، الأعمال الكاملة ليونسكو، ترجمة: د. حمادة إبراهيم، الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة 2006، ص 145).
الخطيب – عند يونسكو – شخصية افتراضية بلاغية بديلة عن الذات المهمشة للزوج، وبديلة عن موقع الكرسي الفني في آن؛ فهو التمثيل الخيالي، والأسطوري للكرسي الفارغ في المسرحية.
هكذا يصير الكرسي – عند سارة إسماعيل – كأحد تمثيلات الذات المدركة في تعاليه البلاغي، ووقوعه بين الفراغ، ومركز الرؤية في العمل الفني.
—————