يوسف عدنان *
لا غرابة اليوم أن نرى العالم المعاصر يتكلم بلغة كرة القدم، إنها الملتقى الوحيد الذي ظل يوحد البشرية الى حد الآن في عالم صدام الحضارات وحروب الهويات وعصاب الإيديولوجيات. ومن باب التشبيه فحسب، فالعالم نفسه يأخذ شكل دائرة، نسميها كرة أرضية. وقد طرح هذا الهيجان الكوني حول هذه الرياضية المستأثرة برصيد حيوي لا مثيل له، أسئلة استفزازية عميقة على الباحثين، من بينهم السوسيولوجي الفرنسي باسكال دوري، الذي اهتم بكشف التقارب الممكن بين الحدث الاحتفالي الرياضي، وتجربتنا الحياتية. إنه يحدثنا طويلا عن أنماط التفكير، وأساطير معاصرينا من المجتمعات التنافسية.
يسري التذكير أن السمة الزمنية التي يعرفها الحدث الكروي لا تخلو من تموجات نوستاليجية بين إيقاعات الماضي والحاضر. وربما هذا البعد هو ما يشدّ اهتمام المشاهدين للحدث الكروي، بل يزيد في تعميق حدة انتظاراتهم وتطلعاتهم. ذلك أن اللقاء الكروي يعاش في لحظاته الراهنة، ويعاد من بعد الحديث حوله وحول منعطفات اللقاء، وتلك العثرات التي تلازم الفريق المفضل في خضم الموسم، وفي نفس الوقت تعليقات عن إحباطات المعيش اليومي والحياة الانسانية. لذا تؤخذ الظرفيات مكانا هاما في أخذها كمبررات للهزيمة التي قد تعني انكسارا آخر غير مطاق في الحياة اليوتوبية للأفراد.
وكما هو الحال في جميع الرياضات، فقواعد اللعب هي من تنظم شكل المنافسة، بحيث أن المتوقعون للقاء ينتجون ردود فعل ذات طبيعة أخلاقية، ذهنية، اجتماعية (…) الخ. ونورد في هذا المضمار بعض التساؤلات التي تقفز الى الذهن في هذه الوضعيات، كأن نتساءل: من سيفوز؟ هل كان اللعب ممتعا أم رديئا؟ هل كان الفوز مستحقا؟ هل كان فريقي الأفضل؟
يجسد لقاء كرة القدم كما بيّن الباحث “برومبيرجر” رؤيا للعالم منسجمة وفي نفس الوقت متناقضة، حيث الحكم على الأشياء أثناء المباراة يؤخذ بعدا تقييما مزدوجا. ومن حيث ما هو متصل بتمثلات الزمن الكروي، كثيرا ما نجد الأفراد يشبهون لعبة كرة القدم بمدرسة الحياة، ليس إلا أنها تنضبط وفق ناموس تتحرك في عدة ثنائيات قطبية كالفشل والنجاح، الفرح كما الإحباط، والرغبة والتحدي والتنافس ومواجهة المصير، في الاحباط والاستكانة والهروب. وتظل تسعون دقيقة المفتوحة في زمن اللقاء كوقت ميت تخضع لنفس تقلبات دوامة الحياة، وقابلة لأي عودة مأمولة في المباراة وقلب النتيجة في الوقت الضائع.
وهنا أشدد على خاصية جد مهمة تتيحها هذه الرياضة ممارسة كانت أم مشاهدة، وهي إعطاء فسحة للأمل، وتجديد الطاقة الكامنة في الذات، من خلال كل أشكال التفريغ الانفعالي، والتوحد السيكولوجي الظرفي، والاحساس بالانتماء والدفاع عن ثوب معين، تختزل في مساندته قضايا وانتظارات ليست متعلقة باللقاء فحسب، وإنما برهانات الحياة في حد ذاتها.
فكرة القدم لعبة تمجد الإرادة والأناة والإصرار. وأن زمن المقابلة هو زمن حياة برمتها، بأفراحها وأحزانها وبتقلباتها الدرامية وضربات النحس والحظ التي تصنف من مفاجئات اللقاء، إنها دهشة مستمرة لا يمكن أن تخضع لأي منطق تنبؤي أو معادلات ميكانيكية. حتى أن الحياة الاجتماعية بما فيها من شهرة ومال ونساء وصعود وهبوط، ونظرا لما تنسجه مع الواقع من احتكاك وشد وجذب، يمكن أن تشكل مادة دسمة لسوسيولوجيا الرواية.
لقد بين السوسيولوجيون والمؤرخون والأنتروبولوجيون بوضوح، أن المتعة التي توجد خلف الإقبال على كرة القدم تنحدر من ما هو محرك للقيم: كالتنافسية والمساواة اللذان يهيكلان المجتمعات الغربية الحديثة. فقد أصبح الطقس الكروي يأخذ طابعا مقدسا عند المجتمعات المعاصرة. فمثلا كأس العالم كحدث رياضي بامتياز، أصبح يوزع على القارة الكونية الفضائل الأكثر حميمة للحداثة، بالأخص كرة القدم الرياضة الملكة كما يتفق على توصيفها، والتي باتت مرآة سحرية تعكس الصفات الأكثر أهمية في العالم المعاصر. إنه من خلال هذه الرياضة يمكن للإنسان المعاصر أن يتعرف على نفسه، ويدرك ما هو عليه (وهو جدل مشحون برؤيا فلسفية لا يسعني الخوض فيها في هذا المقام على كل حال). ففي كرة القدم، روح المجتمع العالم الحديث، هناك مزيج رهيب وممتع وغير محدود بالمنافسة يصل إلى حدّ تصويب علاقة الإنسان مع القيم على اختلافها وتنوعها مع ايجاد نقط تقاطع بين المشترك الانساني.
ولنا أن نتساءل في هذا الصدد عن السر الذي يقبع وراء هذه القوة المغناطيسية التي تجذب بها كرة القدم الذرات البشرية المتناثرة في أرجاء العالم وتوحدها في كتل جماهيرية ؟ وهذا الكمّ الفياض من العواطف الذي يتدفق على مسرح المشاهدة ما منبعه؟ وما مبرراته؟ وكيف باتت هذه اللعبة أفيونا جديدا للمجتمعات، إلى درجة توصيفها بالدين الكروي؟
قد يستغرب المرء إذا ما أحاط علما بتاريخ كرة القدم عن هذا الحراك المتسارع الذي عرفته. فمن زمن كانت رياضة منبوذة ممارساتيا إلى درجة أن المحكمة البريطانية أصدرت عقوبة حبسية نافذة في حق من يزاولها كهواية، حتى عكفت مع مطلع القرن العشرين أغنى رياضة في العالم. لعل هناك عدة أسباب يعود إليها هذا التحول السريع لكرة القدم في سلم الرياضات المفضلة والأكثر درّا للربح، وقد سبق لمجموعة من الباحثين مناولة بعضا منها في معرض الحديث عن أوقات الفراغ والترويح والدينامية السوسيوقتصادية والحراك الاجتماعي (…) الخ. زيادة عن ذلك، فتأثيرات هذه الرياضة قد وضعت إطارا لإمكانية التشابه، يدرج داخل ما يعرف في قاموس علم النفس “بنموذج التماهي”. فنجوم كرة القدم أصبحوا مادة للتقليد وإثارة غريزة المحاكاة لدى المعجبين و الأتباع.
ونظن أنه لا بد والاشارة في هذا المستوى إلى حافز سيكولوجي متين يقف وراء تأثير اللاعب (النجم) في الطفل الراغب في أن يصبح مثله. وقد أثار الباحث مصطفى حجازي هذا الملمح في معرض تشريحاته العميقة للذات العربية، أي كيف تعقد وتعلق الآمال على هذه الرياضة من طرف أبناء الأحياء الفقيرة للوصول إلى النجومية السريعة –حلم القفز حول حاجز البؤس – وهي اختزالات كامنة في المخيال الشعبي بين القلم والقدم، تترجمها عبارة تقال على نطاق واسع باللغة الدارجة لا حاجة إلى ذكرها لأنها مألوفة على مسامع الناس. فكرة القدم بالنسبة للشريحة المعوزة تصبح بمثابة قارب النجاة الوحيد للانعتاق من متاهات الشارع وسمومه، ولعل أسطورة اللاعب مارادونا خير نموذج على ما ذكرناه.
أعتقد أنه بعيدا عن زمن الميتولوجيات والأساطير ، يتجلّى لنا اليوم أسلوب جديد تعبر به الانسانية عن ذلك الأثر الأرخي (القديم) للعقل الأسطوري البشري، ومن الرغبة المكبوتة لديها في العودة إلى مستبيحات الطبيعة، بغية تحرير الغرائز من سجن الواقع المادي والتمزّق العقلاني للإنسان المعاصر. ففي عصرنا الراهن لم تعد ملحمة الأبطال يدور رحاها في عالم ما وفق الطبيعة، وإنما أسقط الإنسان صفة الكمال على نفسه، والاعتقاد الواهم لديه بأنه سيد العالم. وتنبثق هذه الرؤيا تحديدا من تخيلات تعود لتقحم زمنا ميتولوجيا في قلب المجتمع الحضري، تتحول بموجبه الملاعب على مستوى التمثلات إلى ساحات للقتال، تحاكي تلك التي كانت معروفة عند الرومان “بالكوليسيوم” يتبارز في حلبتها مقاتلين شجعان يلقبون بالغلادياتورز، مع ايقاعات موسيقية تبث من طرف الإعلام، تعود أغلبها إلى حقبة الحروب الصليبية، سعيا منها الى تهييج مضاعف للحدث التنافسي الكروي. ويمكنني في هذه النقطة أن أخلص سريعا إلى القول، أنه لم تكن لهذه اللعبة أن تتطور لولا هذه الخصيصة الفيروسية التي تتضمنها. ووفقا لمنطق الصراع والمواجهة، فإن الطابع التصادمي لكرة القدم على وجه الخصوص، يستمد جذوره في الأصل من صبغة الإدراك المسبق لمجال اللعب كساحة للمنافسة الشرسة والقتال، حيث الفوز يكون من حليف الأقوى.
ومن أجل الغوص أكثر في خبايا الأشياء، نرى أنه من الأجدى العودة إلى المتن الأنثروبولوجي وتاريخ الشعوب، فقد نعتر لاشك على طرق عديدة كانت تمارس بها لعبة كرة القدم ، من ضمنها “الكرة المتدحرجة” سواء تعلق الأمر بدحرجة شيء مصطنع، أو رأس حيوان أو حتى رأس كائن انسي. ولذلك فكرة القدم باعتبارها تخفيضا رمزيا لهذه الأساليب التنافسية البربرية التي تحفظ شحنة مبطّنة تحرك لاوعيا بدائيا في الناس وتستثير الذهنية الحشدية، فهي في العمق مشهد صيد بدائي فيه كل مكونات ملاحقة الطريدة، من شباك وطريدة (الحياحة) الذين يقفون جانبا، وهم الجمهور هنا لمساعدة من يجرون وراء الكرة (اللاعبون). ولا يمكن تفسير قدرات كرة القدم على إلهاب حماس الحشود إلا بالعودة إلى هذا السلوك البدائي والغريزي الذي تستثيره حركية اللعب.
على ضوء هذه الاستنتاجات ندرك بإمعان، أن مهما صعد الإنسان في سلم الحضارة والتسامي بنزوعه الاناسي، إلا أنه يبقى في حاجة ماسة وملحة إلى تلك الشعائر والأساليب الطقوسية التي بات يحرمه منها المجتمع المعاصر، ليس في ثوبها البهيمي والبدائي تماما، وإنما هي سلوكيات تتخذ سبلا مقنعة وتعبيرات رمزية ذات طابع فلكلوري أو حتى كرنفالي، يتماشيان مع روح العصر. فكما سبق واستنتج المحلل النفسي السوسري كارل غوستاف يونغ ببصيرته النافذة، أن لعقل الإنسان تاريخه الخاص، كما أن النفس البشرية تحتفظ بالكثير من البقايا المختلفة من مراحل تطورها السابقة، وهو ما أسماه باللاوعي الجماعي. أي ذلك الجزء من النفس الذي يحتفظ بالموروث السيكولوجي العام للجنس البشري، وينقله من جيل إلى جيل. وأكثر من هذا وذاك، فإن محتويات العقل الباطن تمارس على النفس تأثيرا تشكيليا لا ندركه في غالب الأحيان، نظرا لطبيعته اللاشعورية، وهو الأمر الذي يعيق ويصعب مقدرة الفرد التعرّف على عالمه الداخلي وجوانبه الظلية والباطنية.
أستاذ الفلسفة *
باحث في الفلسفة والتحليل النفسي
