ترجمة: سعيد بوخليط
هو مفكر إنساني كبير، غادرنا يوم7 فبراير في مدينة باريس عن عمر يناهز 77سنة، نتيجة مضاعفات انحلال خلوي يصيب الجهاز العصبي.تودوروف السيميولوجي، الناقد الأدبي، المؤرخ الأنثروبولوجي والباحث، عاش مختلف زوابع وكذا المنعطفات الفكرية لعهد مابعد الشيوعية.على الرغم من تحفظه، فقد مثّل ذاكرة للقرن العشرين ومراقبا للقرن الواحد والعشرين.
ولد سنة 1939بمدينة صوفيا البلغارية، قضى تودوروف طفولته تحت كنف النظام الشيوعي ، الأمر الذي طعّمه بلقاح دائم ضد كل ما يحيل على السياسة .زعيم سابق لفرقة “الرواد الصغار”داخل مدرسته، لكنه سيتخلى عن “إيمانه” النضالي في المدرسة الروسية المزدوجة المتواجدة بالعاصمة، سنة 1953مع موت ستالين.
عام 1956، لحظة تقديم تقرير خروتشوف وكذا قمع انتفاضة بودابست، ولج تودوروف الجامعة وحصل مثل جميع الشباب البلغاري والسوفياتي، على تكوين مرتكز على المادية الجدلية وكذا المذهب الستاليني. اختار دراسة الأدب البلغاري موضوعا لبحثه. طريقة ماهرة قصد التحول صوب الأسلوبية ويتخلص من الطوق الإيديولوجي، متحمسا بالتالي لشعرية الفولكلور والحكايات والأغاني الشعبية، بعيدا عن رقابة الحزب.
في إطار حلقة صداقاته للمثقفين، انتشى معهم بتأملات حول الحياة والموت، الخير والشر، معنى الوجود، تصاحبها جلسات سكر لا تنتهي إلا خلال ساعة متأخرة في الليل.تولستوي، دوستويفسكي ، تشيخوف ثم شعراء روس مثل ماياكوفسكي، أثروا خياله وفكره اليقظ رغبة في”تسليط الضوء على لغز فن الكتابة”مثلما أوضح في كتابه :”مقتضيات ومباهج حياة مهرب”(حوارات مع كاترين بورتفان، منشورات سوي، 2002):((هذه الحاجة للتخلص من الايديولوجيا كانت مصدر اهتمامي بالشكلانيين الروس، حين وصولي إلى فرنسا)).لأن تزفيتان تودوروف، تمكن من مغادرة بلغاريا ، سنة 1963، بفضل سخاء عمته.
*عصر البنيوية: انطلاقا من إعجاب تودوروف ب إديت بياف و إيف مونتان أكثر من سارتر وبارت، حيث كان يجهل تقريبا كل شيء عنهما ، اهتدى إلى شغفه المهني.بحث في معرفة كيف يصنع الأدب. ليس ما يقوله، لكن كيف يتم ذلك، والشكلانيين الروس مثل كلوفسكي، توماشوفسكي أو بروب، بحيث كرس كتابه الأول”نظرية الأدب”(منشورات سوي، 1965)فأضحى تودوروف قادرا على فتح مختلف مغالق الروايات الكبرى.
التقى جيرار جينيت في السوربون، وصار ملازما له وقدمه إلى جماعة ”تيل كيل”نحت إشراف مارسيلان بلينيت وفيليب سولير، فبدأ يحظى بالشهرة.تأثره ب إميل بينفنست و جاكبسون وبارت، دفعه للانكباب على السيميولوجيا. علم يفترض بأن اللغة ليست سوى نظاما من العلامات.اشتغل تودوروف بالأحرى على التقنيات السردية، والتركيب والبناء اللغوي أكثر من الدلالة المعنوية للنصوص الأدبية(الشعرية، 1968). إنها الحقبة الكبرى للبنيوية حيث البحث عن المعنى الخفي بين طيات منظومة الرموز والعلامات ثم أنساق القرابة.
أطروحته للسلك الثالث التي ناقشها سنة 1966 ، تناولت بالتحليل مايحمله اختيار”choderlos de laclos'(جنيرال وأحد كتاب الثورة الفرنسية) ، للشكل الرسائلي حين كتابة عمله :”العلاقات الخطيرة”.افتتن بكتابي رولان بارت”حبة الصوت”و”الغرفة المضيئة”(غاليمار، 1980 )، حينما كتب الأستاذ اللامع في كوليج دو فرانس، مايناهز عشرين صفحة ميزها إحساس نادر حول وفاة والدته. شرع تزفيتان تودوروف يلتقي بارت باستمرار خلال عشاءات بصحبة سولير وديريدا.دراساته النموذجية حول الأجناس وسجلات الكتابة، مثل ”مدخل إلى الأدب العجائبي”(منشورات سوي، 2015 )أو ”معجمه الموسوعي لعلوم اللغة”(1972)بالاشتراك مع أوسوالد ديكرو، سرعان ما تحولت إلى مرجعيات.
*بعيدا عن الراديكالية السياسية :تبلور غليان شهر ماي 1968، في المركز التجريبي ب فانسان، لم يكن تودوروف ضمن هيئة التدريس- كان يشتغل لحظتها في المركز الوطني للبحث العلمي، ثم صار مشرفا على البحث- غير أن مقاربته للأدب وجدت هناك مرتكزا للإرساء .تماما كما الحال بالنسبة لمجلة “الشعرية”، التي أسسها مع جيرار جينيت. مقابل إفراط المثقفين خلال تلك الحقبة، في مباهج الراديكالية السياسية، سنجد بأن تزفيتان تودوروف لم ينجذب نحو ذلك، نظرا للمناعة التي تلقاها خلال طفولته ببلده بلغاريا.يعتقد أن الدوكسا الماركسية –اللينينية شكلت عبئا ثقيلا خنق أنفاس”الثلاثين سنة المشؤومة”(1945-1975) ، للفكر الفرنسي، فلم يتردد في وصف الحركة السياسية لشهر ماي 1968ب”الحرس الخلفي”.
على المستوى الجامعي، وبسبب رغبته في عدم المجازفة بالنصوص جراء الاستعاضة عنها بالميتا- خطاب الذي يترصدها، توخى تودوروف انطلاقا من كتاب :”نظرية العلامات”(1977)، الابتعاد عن البنيوية وعلمويتها.بالتالي، ليس مفاجئا أن يبرز كتابه الأساسي لمرحلته الإنسانية : “نحن والآخرون”(منشورات سوي، 1989)، نقدا لنسبوية كلود ليفي شتراوس.
انطلاقا من سنوات الثمانينات، اتجه اهتمام تودوروف نحو تجربة الآخرية.لأنه هو نفسه”شخص مغترب”وغير مقتلع الجذور، يشرح في عمله الذي يحمل نفس العنوان : (الإنسان المغترب، منشورات سوي، 1996). إنه”قروي من الدانوب”، انغمس في عالم آخر، وأجنبي حصل على الجنسية الفرنسية سنة 1973، يحمل نظرة جديدة وثاقبة حول بلد الاستقبال.
مع عمله ”غزو أمريكا”(1982)، الذي أبرز إرنان كورتس المغامر الاسباني كابن روحي ل ميكيافيليي، وكذا شارحته الأزتيكية التي تدعى لامالينش، سيطرح تزفيتان تودوروف أنثروبولوجيته الفلسفية، بحيث تحيل هنا على التهجين الثقافي.بخصوص كونية آخريته – أو على حد تعبير الفيلسوف إيمانويل ليفيناس :”إنسانية الإنسان الآخر”- بلغت أوجها مع دراسته”نحن والآخرون”، العمل الذي يناهض في الوقت نفسه النسبوية الثقافية ثم التيار الثقافي الوطني الذي شرع يفرض برنامجه.
فضل تودوروف الاعتدال على الراديكالية، والتحفظ على المغالاة، ثم اللامكان على التجذر، حد إمكانية أن تؤاخذ عليه نوعا من التفاهة.لكن ذلك ليس صحيحا.فالذين اقتربوا منه، تلمسوا جميعهم رقته الأسطورية، إلى جانب نزعته الشكية النقدية ثم نظرته النبيهة بل اللاذعة: “اسمحوا لي أن أكون شيئا ما شكيا”هي بغير شك صيغة تعبيره المفضلة، تؤكد الروائية والباحثة نانسي هوستون، التي التقاها سنة (1978-1979) ، وأثمرت علاقتهما عن طفلين هما ”ليا” و “ساشا”، ثم ”بوريس” طفل ثالث من زواج ثان.ينزع تودوروف نحو السرد مقابل النظريات، مازجا البورتريهات بالدراسات.
الجانب الأدبي، يشبه التغير بالنسبة للكثيرين تغيرا في الاتجاه.ليس الأدب خطابا بل هو فكر ينقل قيما، يؤكد تزفيتان تودوروف.هكذا يصرخ، وهو العضو في المجلس الوطني لوضع البرامج، حينما كان يشرف عليه الفيلسوف لوك فيري : ((إذا تعلمت ابنتي فقط أن تميز الفارق بين المجاز والكناية، فربما اشمأزت كليا من الشعر)).لكن دون استسلامه قط ل”ديماغوجية ”الجمهوريين المحافظين الذين أرادوا قبل كل شيء إنقاذ الآداب أكثر من اهتمامهم بالبشر. تودوروف الأول ضد تودوروف الثاني، كما لو يسخر من نفسه، عندما أعلن:((ليس فظيعا أن يغادر التلميذ السلك الثانوي دون إدراكه للفرق بين التبئير الداخلي والخارجي، لكن سيكون الأمر خطيرا، إذا لم يعرف مجموعة شعرية اسمها “أزهار الشر”)).
*كتابه ”الإمضاء البشري”
وداعا السيميولوجيا، وحده تقريبا صديقه الايطالي أومبرتو إيكو، ظل مهتما إلى أبعد مدى، على نحو رائع ومبتهجا، بعلامات وأساطير حداثتنا، مثل “السمارتفون” والأبطال الخارقين. جوهريا، توجد استمرارية في عمل ومسار تودوروف، ينبغي بلا شك الوقوف عليها في رغبته كي يفهم ”الإمضاء البشري””، على مستوى الكتابة المحلية وكذا الأدب الكوني، من خلال تأملاته للفن التشكيلي الفلمندي وكذا نشأة الفرد لكن أيضا في مسارات الحياة.هذا ماقاده كي يرصد مسارات شخصيات مثالية ك :جيرمان تيليون ، إيتي إيليزوم، نيلسون مانديلا، بل وإدوارد سنودن ، أسماء كانت قادرة على التمرد وعرفت كيف تقول ”لا”.إجمالا، انتقل تودوروف من الاستتيقا إلى الإتيقا، فارتبط ب”المعنى الأخلاقي للتاريخ”كتابات وحيوات.
تمثل المقاومة الفرنسية بشكل أفضل لديه هذه الطريقة لاعتبار أن : ((الحياة الإنسانية ليس لها عَلَما)) مثلما أورد في كتابه”معركة الحرب والسلام”(منشورات سوي، 2007 ).هذا المغزى الذي تجلى أحيانا في المعسكرات النازية والشيوعية، لم يتوقف عن إثارة انتباهه، ليس فقط نتيجة لماضيه، لكن كذلك بغاية التفكير في الحاضر(مواجهة التطرف، 1991)
لايمكن التشكيك، في المنحى الانتقادي لإنسانيته ، وخاتمة كتابه آخر إصداراته :انتصار الفنانين، الثورة والفنانين الروس(فلاماريون، 2017 )، لاتترك بهذا الخصوص أي مجال للريبة. كما لو تعلق الأمر باستحضار لغرامياته الأولى، فقد عاد تودوروف ثانية إلى كتاب أمثال : باسترناك، ماليفيتش، ماياكوفسكي، مانديلستام، والذين مستهم دوامة الانطلاقة السوفياتية وكذا الأضرار الستالينية.
تودوروف، القوي بتجاربه ونقده للأنظمة الشمولية، سيكشف عن التباينات القائمة، لكن خاصة الاستمرارية بين التوتاليتارية والليبرالية المتوحشة.لأنه عبر السعي إلى جعل المجتمعات الغربية، متماثلة وممتثلة، تقوم دوائر سلطوية مختصة، دون نسيان هذه المسيحية السياسية التي تمثل شاهدا على أن مقياس التدخل الغربي، وضع جزءا من العالم على النار والدم.
هذا النقد الشمولي للنظام الديمقراطي، كان أصلا حاضرا في عمله :”ذاكرة الشر، إغواء الخير”(روبير لافون، 2000):((إن الرغبة في استئصال الظلم من سطح الأرض أو فقط ما تعلق باغتصاب حقوق الإنسان، وتأسيس نظام عالمي جديد يتصدى للحروب، والعداوات، مشروع يصل بين الطوباويات في سعيها كي تجعل الإنسان يحظى بما هو أفضل وإقامة الجنة على الأرض))، هكذا كتب تودوروف، قبل أن يخلص في جهة أخرى :((من الممكن البقاء عند الشر لكن دون التخلي عن السعي وراء الخير)).
هكذا وبعد مرور خمسون سنة، عن إصداره الأول، الذي اهتم بالشكلانيين الروس، استعاد تودوروف حديثا مع آخر عناوينه أي :”انتصار الفنان :الثورة والفنانين الروس”(2017)، هؤلاء الكتاب والفنانين الذين قرأهم كثيرا واستمع إليهم أو تابعهم.كي نستشف، تأملا رائعا حول التاريخ وعبرة أصيلة إيتيقيا وسياسيا، من خلال صور ذاتية :((إذا أردنا الدفاع عن الكائن البشري ضد القوى الاجتماعية التي تحطمه فلا ينبغي فقط تخيله باعتباره حصيلة مبادئ مجردة، بل استساغة رؤيته ماضيا بآثار مصيره)).
*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017 .