الرئيسية | فكر ونقد | تأرجح الوجود الإنساني بين الحرية والضرورة | اسماعيل فائز
Jean-Louis Cotten

تأرجح الوجود الإنساني بين الحرية والضرورة | اسماعيل فائز

اسماعيل فائز

إسماعيل فائزيبدو أن كل تأمل في الوجود الإنساني يكشف عن توتر ومفارقة تتلخص في الأزواج المفهومية التالية: الحرية/الضرورة أو التناهي/اللاتناهي أو الذاتي/الموضوعي … يتجسد ذلك في هذا الشعور الذي يتملكنا بين الفينة والأخرى، ويجعلنا نعتقد أننا نملك مصيرنا ونبني ذواتنا وتاريخنا ومجتمعنا بإرادتنا…فجأة – وعلى حين غرة – ننصت لصوت آت من بعيد، وكأنه يخاطبنا بنبرة حادة داعيا إيانا إلى التخلص من وهم الحرية، والإلتفات صوب كل ما يحطم هذا “السراب” الذي خلقه الخطاب الفلسفي والميتافيزيقي لغايات أخلاقية ربما (إقرار المسؤولية الأخلاقية والقانونية…)، أو استجابة لنرجسية (متوهمة) تسمو بنا فوق الموجودات الأخرى، وتثبت أفضليتنا مقارنة بها.

ها نحن قد سقطنا في شرك الحيرة والقلق الذي تعمقه هذه الأبيات الشعرية لإيليا أبو ماضي، والتي تبرز ببساطة شفافة المفارقة التي أتينا على ذكرها : ” هل أنا حر طليق أم أسير في قيود هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود” قد تتخذ الحرية الإنسانية صيغة إقرار ديكارتي إيجابي تسنده قناعة فلسفية راسخة قائمة على النظر إلى الإنسان كذات مفكرة واعية،وقد تتبدى على شكل مسلمة كانطية ضرورية لتأسيس الأخلاق، ويمكن اعتبارها كمبدأ معتزلي غايته نفي الظلم عن الذات الإلهية التي منحتنا حرية الاختيار، والتي تستوجب بالتالي تحمل المسؤولية. وربما تتجسد هذه الحرية على شكل مطلب حقوقي حداثي بدونه لا يستقيم بناء الدولة المدنية الحديثة، أو على هيئة إجماع عالمي يتصدر المبادئ الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( الذي يعتبر ثمرة تلاقح أنساق فكرية حداثية ليبرالية واشتراكية…). ويذهب البعض أبعد من ذلك مبرزا أن تطور العلوم المعاصرة يجعل الوعي بالحتميات الطبيعية سبيلا للتغلب عليها أو على الأقل فتح الطريق لمناورتها أو استثمارها (وتلك حالة الهندسة الوراثية التي مكنت الإنسان من التدخل لتغيير “القدر الوراثي” (على سبيل المثال).

لقد تشبثت تيارات فلسفية برفض نتائج العلوم الإنسانية التي عملت على تصوير الإنسان كريشة في مهب رياح الإكراهات والبنيات والقوى الخفية، فأكدت بالمقابل أسبقية الوجود على الماهية ( سارتر ) وقدرة الشخص على الإبداع الذاتي في حركة شخصنة لا تتوقف ( الشخصانية )، ويمكن لمفاهيم الذات الفاعلة ( آلان ) أو الديمومة ( برغسون )أن تسعفنا في تدعيم هذا الطرح… هذه الأصوات التي استمعنا إليها – وإن اختلفت منظوراتها ومنطلقاتها – تتقاطع في تمجيد الحرية الإنسانية.

لكن مرة أخرى يطالعنا ذلك الصوت “المزعج” الذي يعيدنا إلى مملكة الضرورة والتناهي، والذي يكشف خضوعنا لإكراهات موضوعية،تختلف مسمياتها وأسسها، لكنها تلتقي في “تعريتنا” أمام ذواتنا، وسلب الذات الإنسانية أعز ما تملك : الحرية . يصرخ الصوت “المزعج” بملئ حنجرته قائلا : أنت ( أيها الإنسان ) لست إلا مجرد ممثل على خشبة المسرح في “مسرحية” تولى إخراجها القدر (الجبرية في الفكر الإسلامي والمدرسة الرواقية)، أو ألفها التاريخ بمكر (هيجل) أو سهرت على تأثيتها بنيات مادية أو ثقافية ( البنيويون ) أو تمسك بخيوطها غريزة قوية (نيتشه) أو إرادة حياة عمياء ( شوبنهاور) ، أو توجهها من وراء الكواليس دوافع لا شعورية ( التحليل النفسي)… تتعدد المسميات ويتوحد الصوت، وقد يتسربل برداء لاهوتي أو فلسفي أو علمي أو أسطوري كذلك، فينكأ جراحا نرجسية تفضي في أقصى أشكالها إلى القول ب “موت الإنسان” في فلسفة “جنائزية”، ما تلبث أن تذكرنا بتناهينا الأنطولوجي ( الموت).

فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق/الورطة ؟ يقترح البعض ضرورة نحت مفاهيم تشكل طريقا وسطا وتقرب وجهتي النظر السالفتي الذكر من خلال الحديث عن الحرية النسبية والحرية المشروطة أو المسؤولة، أو البين- ذاتية (ميرلوبونتي)، أو نظرية الكسب ( في الفكر الإسلامي)… فهل هذه الرؤى تحل فعلا مشكلة الحرية، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد تعميق لتلك الإحراجات ؟هل ينبغي أن نغير الوجهة والسؤال فننظر إلى مسألة الحرية من زاوية سياسية محضة (تستبعد ما هو لاهوتي وميتافييزيقي ووجداني) في علاقتها بالأنظمة الديمقراطية أو الكليانية (حنا آرندت) ؟ قد يبدو هذا الأمر ناجعا إذ يخلصنا على الأقل من تلك الحيرة التي تتملكنا كلما حاولنا التساؤل بصدد وجودنا.

لكن هل نستطيع فعلا الكف عن إثارة مثل هذه التساؤلات الوجودية ؟ أليست هذه هي “الضريبة ” التي ينبغي أن نؤديها مقابل امتلاكنا القدرة على التساؤل والتفكير؟ ثم هل من حقنا أن نحسد الموجودات الأخرى إذ حرمت نقمة/متعة التساؤل؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.