فواد الكنجي
ما أحدثته الحروب التي نشبت في العهود السابقة واللاحقة من حالات القتل والدمار والخراب وإشاعة الخوف والرعب والاضطرابات وما خلفته من الآثار النفسية في السلوك والأخلاق بين إفراد المجتمعات التي عاشت بشكل مباشر أو غير مباشر الحرب؛ وما نتج عنه من تبدل القيم والأعراف وأشاع الفوضى والعبث واللامبالاة والتخندق داخل منظومات سيئة من مستوى السلوك والأخلاق؛ الأمر الذي ترتب عنه عدم الالتزام بما أعتاد عليه الناس من قيم وفضائل، كرد فعل لما خلفته الصدمة النفسية الناجمة عن الحروب بين أفراد المجتمعات بمقدار ما اختلف نسبة أثاره وتفاعله وتأثيره في انتشار الفقر و الأمراض والأوبئة وغياب حالة الأمن وارتفاع نسب الجرائم لدرجة التي أربكت قيم المجتمع وسلوك الإنسان، مما حدا بالجماهير إلى حاجتها لمتنفس ينقذ البشرية من الظلم والفساد؛ فاتجهوا إلى تشكيل كل ما يمكن إن يكون منفذا إصلاحيا يعمل على إنهاء كافة مظاهر الانحراف من أجل تحقيق الأمن والسلم المجتمعي والعدل وعلى كل المستويات ونواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية.
وضمن هذه البيئة تكون لا محال حالة النفسية للمبدعين مرهفة وصعبة تعتريها الكثير من اختناقات النفسية للحالة التي يشعرون بها وهم يرون مجتمعاتهم تنهار فيها القيم والفضائل ويساد الظلام ويطبق على النور وتخرس أصوات الحرية ويسود القبح وينهار الجمال؛ ذلك العالم الذي كان يتأمل فيه المبدعين أحلامهم وأمنياتهم ويبنوا فيه صروح أوطانهم بقيم الحرية والسلام والأفكار النيرة ليلامس هذا الواقع حياة الفنان الاسباني التشكيلي (فرانسيسكو غويا 1746 – 1828 ) واحد من أشهر الرسامين في تاريخ الرسم (الإسباني)، وأحد رواد الحركة الانطباعية ومن أوائل الأساتذة لفن الرسم الحديث؛ الذي عاصر فجائع بلاده وهي تعيش تحت الاحتلال (الفرنسي) بقيادة (نابليون بونابرت) الذي احتل (اسبانيا) عام 1808 م، ضنا منه؛ وبما كان يرفع شعارات تنويرية من المساواة والعدل والحرية؛ والتي كانت سائدة في فرنسا آنذاك بفعل كتابات (فولتير) و(جان جاك روسو) و(مونتسكو)، بأن الأسبان سيعتبرون قدومه إلى (اسبانيا) – ومنهم كان الفنان التشكيلي (غويا) – كمنقذ و محرر وسيلاقي في (اسبانيا) كل الترحيب، غير أن الشعب (الاسباني) اعتبروه طاغية و غازي دخل بلادهم لاحتلالها، لان كل المؤشرات؛ بدا بما قام بإسقاط حكم ملك اسبانيا (شارل الرابع) وأجبروه إلى مغادرة البلاد هو والعائلة الملكية والذهاب إلى المنفى، غيب ضنهم بما كانوا يعتقدون خيرا من القوات الفرنسية، فقرروا (الأسبان) التصدي لقوات الاحتلال الفرنسية، وبدأت المواجهة بحرب دامية وشرسة استمرت ست سنوات بكل ما خلفته من دمار وخراب، وعلى إثرها عين (نابليون) شقيقه (جوزيف بونابرت) ملكا على العرش (اسبانيا)، لتواصل القوات الغازية لجيوش الفرنسية وحشيتها، ذروتها؛ بما رافقت عمليات الغزو من إعدامات ومجازر جماعية لمواطنين (الأسبان) الذين احتجوا وقاوموا الاحتلال بكل ما أتى لهم من قوة وسبيل وكفاح، ولكن جيوش (نابليون) تعاملت معهم بقسوة ودون رحمة، مما اضطر (الأسبان) إلى ابتكار فن جديد للمقاومة – كان في ذلك الوقت أسلوب جديدا- وهو قيام بشن (حرب العصابات)، وظهر هذا المصطلح لأول مرة في تاريخ الحروب.
وفي ظل هذه الأوضاع الشاذة عاش الفنان (غويا) وشاهد جوانب عديدة من وقائع الاضطرابات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية، حيث الساسة منشغلين بالخلافات وبتبرير ضعفهم ورجال الدين يتخبطون بنشر وتبرير إخفاقاتهم بالخرافات غير مجدية، بينما المجازر والإعدامات في ساحات وطنه (اسبانيا) ينفذها المحتل (الفرنسي) بحق شعبه بوحشية ليس من خلال الإعدامات والمجازر فحسب، بل من خلال تقسيم ارض وطنه (إسبانيا)، وكانت لتلك الإحداث شديدة الوقع والتأثر علي نفسيته وسلوكه فأخذته الانطوائية وهو ينظر إلى العالم بنظرة سوداوية بعد إن وجد كيف يفقد وطنه حريته وكيف هو يفقد سمعه بعد إن اخذ (الصم) يثقل سمعه، وهذا ما أزاد من ضغوط نفسية في أعماق ذاته بعد إن وجد نفسه وتمسكه بالحياة وتشبثه بحبها يصطدم بواقع مر، وهذا ما رفع من حدة اضطرابه النفسي وسوداويته؛ ليطغي عليه طبائع سلوكية حادة وقاسية مع نفسه ومحيطه؛ وانعكس بطبيعة الحال على فنه؛ بعد إن أخذا يعكس قسوة الحرب؛ وما تخلفه من دمار وخراب في مجتمعه ووطنه إلى أعمالة الفنية التي أخذت من تلك الإحداث مواضيع أساسية لإعماله – بعد إن كان معروفا برسمه لصور (البورتريه) للملوك وللأمراء والأميرات والنخب الحاكمة في بلاده، فتحول إلى رسم معانات الحرب؛ فرسمها بكل واقعية وبقسوة تعبير وانفعال لكل ما كان يشاهده من مآس الحرب؛ وشعبه يكافح ويناضل ضد المحتل (الفرنسي) من أجل الاستقلال. فسلط (غويا) الضوء على مشاهد القسوة والشراسة وانفلات العنف والوحشية لدى الطرفين – وليس لطرف واحد – بعد إن وجد بان الطرفيين فقدوا صوابهم متجاهلين قيم الإنسانية أمام الجرائم الوحشية و أهوال الحروب لينعكس كل ذلك في فكر الفنان (غويا) ومخيلته الفنية فعبر عن هذه المأساة بأسلوب تعبيري رائع؛ فرسم بصدق مشاعر وإحساس؛ ولم يعمل على تجميل مشاهد الحرب أو تقديم مشاهد بطولية للحرب فحسب، بل عمل على نقل والتعبير بما أحدثته الحرب من دمار ورعب وفزع و ويلات؛ وركز التعبير عن صور (الحرب الاسبانية) وفظائعها، فاتت لوحاته متنفسا لما كان يعانيه (غويا) وشعبه من جراء الحرب ودماره؛ فاتسمت لوحاته وحفرياته على المعدن – حيث في هذه المرحلة عمل على الحفر على المعادن – بطابع شديد القسوة بما نقلته من وقائع الحرب وسط غياب الأمل وارتفاع غمامة سوداء في الوطن؛ و دون أي بصيص لإشراق النور والخلاص أو النجاة من المذابح المرتكبة بالوحشية في طول البلاد وعرضها، وبما أوقعته من إضرار نفسية بحالة الإنسان وما أوقعته من دمار في كل أماكن وطنه (اسبانيا)، حيث شكلت لوحاته وحفرياته على المعدن؛ سجلا حقيقيا أرخ فيها وقائع الحرب وفضائحها التي قتلت (عشرون ألف) إنسان في مدينة (مدريد) فحسب، فجاءت لوحاته لتعبير عن قسوة الحرب ووقائعها المدمرة في نفوس الشعب الذي عاش تحت ظلالها دون إن تكون لهم أي بصيص من الأمل والنجاة، لذلك اعتبرت لوحات (غويا) التي رسمها في ظلا الحرب سجلا حقيقيا سجل فيها صور تعبيرية صادقة من حرب الاستقلال التي خاضها (الأسبان) ضد المحتل (الفرنسي) وبكل صفحات و وقائع الحرب ويومياتها؛ وكل ما كان يحيطها من ظلام وبشاعة؛ ومن قتل ودمار وسفك دماء؛ وفعلا استطاع إن ينقل (غويا) صرخات شعبه بكل صدق وتعبير، رغم إن (غويا) آنذاك كان قد تجاوز (الثاني والستين) من العمر، ولم ينشر لوحاته التي رسمها في ظلال هذا الاحتلال والتي سماها بـ(ويلات الحرب) والتي صنفت إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول صنف تحت موضوع (الدراما العنيفة للحرب مع الفرنسيين).
القسم الثاني صنف تحت موضوع (المجاعة التي حدثت في مدريد) نتيجة حصار نابليون الطويل لـ(اسبانيا) وحصدت أرواح أكثر من عشرين ألف إنسان.
القسم الثالث فصنف تحت موضوع (المشاهد الرمزية لفترة ما بعد الحرب)، أي عندما أعيد الملك (فرديناند السابع) إلى الحكم، جنبا إلى جنب مع عودة سلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش.
وخوفا من استهدافه – لان في بعض مضامين تلك اللوحات كانت تتضمن انتقادات حادة لبعض من خاض صراعات على السلطة؛ أي بين الحكام الجدد والكنيسة – تم نشرها بعد ثلاثين عام من بعد وفاته أي في عام 1863 م، رغم إن (غويا) في مجمل إعماله لم يكن يتوجه في موضوعات التي يطرحها أي توجها سياسيا، لأنه لم يكن ينتمي إلي أي معسكر سياسي، بقدر ما ركز على تسجيل وقائع تاريخية للإحداث وقعت في بلاده، وبكونه كان مؤمنا بالأفكار (الحركة التنويرية) وبكتابات (جان جاك روسو) و (فولتير) و (مونتسكو)، التي كانت سائدة في ذلك العصر، وكان يعتقد بان الفرنسيين سيحملون أفكار تنويره إلى (اسبانيا)، ولكنه اصطدم بتصرفات الجيش الفرنسي الوحشية لبلادهم وتعاملهم السيئ مع (الأسبان)، حيث القتل والدمار والتخريب على نطاق واسع؛ ولاحظ صور المعاناة و ويلات التي خلفتها الحرب في بلاده، ولما كان توجه (غويا) الفكري مبني بالقيم الإنسانية والعقل والسلم؛ والسلم المجتمعي والتآخي، وهذا الاتجاه الفكري الذي كان يؤمن بفكره (غويا) هو ما جعله ينظر إلى الحرب كـ(شاهد محايد) ليس مع هذا الطرف أو ذاك؛ بقدر ما كان يرفض الحرب وما ينجم عنه من أفعال الشر والقتل والدمار والتخريب والتنكيل بكل قيم الإنسانية؛ باعتبار الحرب شر يجب تجنبه والتحكم إلى العقل والإنصاف والحرية والسلام؛ وان يتمسك كل بني البشر بقيم العدالة والمساواة والأمن والسلم المجتمعي؛ وتجنب التعامل مع بعضهما البعض بالبربرية والوحشية، ولهذا فانه كان يركز في موضوعات التي كان يرسمها لتجنب الإنسان كل فعل شر ورذيلة، فهو يرسم موضحا ما يريد منه التوضيح للمتلقي في لقطات تعبيرية بشاعة الأفعال الإنسانية ضد أخيه الإنسان لعلا يتعلم الإنسان منها دروس وعبر؛ فهو يرسم لوحات ليؤرخ ما حدث في بلاده، ونذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر:
لوحة رسم فيها أسرى يتم إعدامهم من قبل فرق الموت.
لوحة رسم فيها شخص وحيد يبكي على نساء وهن على جانب تل مقتولات.
لوحة رسم فيها أسرى موثقين في رتل طويل يسيرون عبر طريق جبلي وعر.
لوحة رسم فيها امرأتان على وشك الموت ممدودتان على الأرض؛ وأخرى تجثو وبيدها كأس ماء.
لوحة رسم فيها حشد من الرهبان وهم يغطون رؤوسهم يحيطون امرأة مرسومة وسط هالة وهي مستلقية على ظهرها.
لوحة رسم فيها امرأة وسط عشرات الجثث التي تنتظر الدفن، تمشي إمامهم بانكسار.
لوحة رسم فيها جثث عارية لم تدفن وتركت على إحدى التلال بينما شخصان من الناجين يراقبان المشهد باشمئزاز.
لوحة رسم فيها طائرا ضخما من أكلة الجيف يحوم حول الجثث والناس يطاردونه لإبعاده.
لوحة رسم فيها وسط فوضى رجال ونساء يحمل بعضهم بعضا ويهربون ليلا.
لوحة رسم فيها جثة مشوهة ومعلقة على غصن الشجرة.
…..والى أخره من لوحات رسمها (غويا) عبر وجوه ممسوخة لتعبير عن معاناتهم من الحرب؛ وجل الوجوه التي رسمها تلوح بكون من الطبقة الدنيا معبرا بتقاطيع وجوههم وحركاتهم ورموز التي استخدمها عبر التظليل المكثف ومتدرجات اللون الأسود؛ هول ما تركته الحرب في نفوس الشعب؛ بل ويصور وحشية الإنسان حينما يقوم بالتمثيل بالجثث لكلا الطرفين وتشويه جثث القتلى والتي اعتبرها استهزاء سافر بقيم الإنسانية والتحضر.
ليكون تعبير الفنان (غويا) لمشاهد الحرب و مآسيها وثيقة على وحشية المتقاتلين من كلا الطرفين، لان إيمانه بالقيم الإنسانية وحبه للحرية والسلام والأمن جعله دوما يقف إلى جانب العقل والعدالة والإنصاف وحب الخير، فرسم مآسي الحرب من زاويا متعددة لمعاناة المدنيين دون محاولة لتخفيف آثارها ونتائجها المريعة؛ لتؤرخ لوحاته قسوة الحرب ووحشيتها واللا إنسانية البشر، وعن السلوك الوحشي لجميع بني البشر الذين يعيدون الكر نفسه ين حين وأخر وما يزالوا لا يكترثون بما يفعلون من تدمير وقتل وتخريب ودمار، لتكون لوحاته إدانة بوجه منفذيها ، ليرسم هذا العالم الموحش عبر أشكال من مخلوقات غريبة عن عالمنا بوجوه الليلية مظلمة وممسوخة وهو يعطي لها ظلال ومسحة من ضوء باهت كرمز لأمل لعودة الحياة، ولم يكن هذا التعبير الذي لجئ إليه الفنان (غويا) مجرد تعبيرا ذاتيا يراد منه انعكاس لما كان يعانيه من الانطواء والعزلة ومن فقدانه لحاسة السمع؛ فعزل نفسه في منزل بعيد عن العالم يتفرغ هناك للرسم فحسب، بل كان هذا التعبير حبا لوطنه (اسبانيا) وبدوافعه الوطنية وحبه للسلام وحياده ونفوره مما يرتكب باسم الدين والوطنية من جرائم ضد قيم الإنسانية؛ حيث يتم ذبح وقتل والاغتصاب وبتر الإطراف والتمثيل بالجثث للمدنيين عزل وتدمير الأديرة والكنائس والاعتداء على الرهبان والراهبات والانتقام مع الأسرى لكلا الجانبين (الأسبان) و(الفرنسيين)، فرسم وعبر (غويا) في لوحاته عن كل هذه الجوانب المدمرة لـ(لحرب) ببشاعتها وقسوتها، وبما أفرزته من مذابح ومجاز دموية رهيبة لدرجة التي كانت روائح الموت تفوح من كل شوارع (اسبانيا) وبقاعها؛ والتي استمرت لمدة (ستة سنوات) والتي لا محال أثرت تأثيرا بالغا في إعمال (غويا) الفنية والتي أرخها في أعظم إعمال فنية؛ واعتبرت فعلا أرشيفا لتلك المرحلة القاسية من تاريخ (اسبانيا) والتي سميت الإعمال التي نفذها في هذه المرحلة بمجموعة (كوارث الحروب) التي جلها تميل إلى تعبيرات سوداوية متشائمة لعنوان (الحرب)، لان تلك الوقائع تركت مشاعر وضغوط نفسية شديدة ألوقع على نفسيته؛ فعبر عنها بكل صدق و وفاء، لأنه كان يرى كيف يتهاوى وطنه إلى منزلق الحرب ويتحول تدريجيا وخلال ست سنوات إلى خراب و دمار.
ومن هنا فان الإعمال التي أنجزها الفنان (غويا) في هذه المرحلة التي سميت بـ(كوارث الحروب) تعتبر مرحلة وسطية متميزة من مسيرة حياته الفنية بما قدمه من إعمال فنية رائعة تميزت بحدة التعبير والمعبرة بصدق عن معاناة الشعب تحت ظلال الحرب، وما قدمه في هذه المرحلة؛ هي من جعلت المهتمين بالأنشطة الفنية وأكاديمياتها؛ يسلطون الضوء على مسيرة أعماله الفنية معتبرين أعماله علامة مميزة وبارزة في تاريخ الفن التشكيلي العالمي ليس في (اسبانيا) فحسب بل في العالم اجمع، لتصبح أعماله مدار بحث وتحليل وتدريس في الأكاديميات العالمية بما حملت من تجديدا وتطوير وإضافات مهمة على مستوى التقنيات وعلى مستوى أساليب الصياغة الفنية والإبداعية أو على مستوى التعبير وربط الشكل بالموضوع؛ التي كانت شديدة الالتصاق بالواقع، فـ(غويا) خلال مسيرته الفنية قد أنجز بما يتجاوز عن (سبعمائة) عملا فنيا، فهو قد عاصر فلسفة التنوير التي كانت سائدة في عصره وتأثر بأفكارها؛ وكان من اشد مناصريها؛ رغم أنها كانت محصورة بين الطبقات الميسورة؛ لان عامة الشعب كان واقعا تحت تأثير المعتقدات الدينية؛ وان رجال الكنيسة كانوا يتلاعبون بعقول عامة الشعب باسم الدين والمعتقدات المسيحية ويؤمنون بوجود السحر والمنجمين والمشعوذين، ولما كانت طبيعة الحياة تجري وفق شيوع هذا النمط من أناس وبهذا نمط من المعتقدات؛ فلا محال إن يعاشر الفنان (غويا) هذا الوسط الذي يملأ عقولهم بالخرافات والدجل؛ فعاشر المسحوقين بالفقر، والمتسولين، وقطاع الطرق، واختلط مع الكهنة الفاسقين والمضللين، كما اختلط مع الشباب الثوريين، وكما انه عاشر الملوك والطبقات الحاكمة، بل انه شاركهم في احتفالاتهم، وقد استفاد من خلال تركيز الرؤية إليهم لرسم هذه الوجوه في أعماله لتعبر لوحاته بواقعية عما يريد التعبير؛ فصور دماثة وجوههم وتقاطيع وجوههم وعيونهم الجاحظة والمنتفخة، ولما كان (غويا) معروف عنه بكونه فنان البلاط الملكي، وان اختلاطه مع الأمراء والأسرة المالكة وحاشيتها الأرستقراطية؛ اخذ عنها انطباع عام في كيفية التعبير عن حركاتهم، وهذا ما أتاح له خبرة الفنية هائلة من التفاصيل ليعبر عنها بشكل واقعي معبر في لوحاته؛ أي انه اختلط وعاشر كل فئات المجتمع واخذ انطباع عن كل هذه الشرائح، وقد عكسها في إعماله انعكاسا مثيرا لتعبير عن واقع المجتمع لهذه المرحلة ناقدا وساخرا من العادات وتصرفات، ولما كان الفنان (غويا) ينفر من المشعوذين والدجالين لذلك سلط الضوء عليهم في لوحاته ورسمهم بتعبيرات مختلفة اخذوا مساحات كبيرة في أعماله الفنية التي أنجزها خلال مسيرته الفنية في هذه المرحلة والتي سميت أعماله المنجزة في هذه المرحلة بعنوان (النزوات)، ويذكر بان مرحلة (النزوات) هي الأعمال المنجزة قبل مرحلة (كوارث الحروب)، والتي حملت تعبيرات جريئة تخطت كل الحدود الجراءة بقدرتها التعبيرية على كشف وفضح وإظهار عيوب المجتمع الإسباني في ذلك الوقت، وتميزت أعمال الفنان (غويا) الفنية لهذه المرحلة بتجاوزها كل المضامين والتصورات؛ لا تحدها قوانين أو القوالب للمدارس الفنية؛ بقدر ما تحاول اكتشافات النزوات و البدع وفق تعبيرات التي تمليها دوافعه النفسية، وهي تحمل كل هذه المعاني لإغراقها في طرح صور تعبيرية؛ وقد تم تنفيذ هذه الإعمال في عام 1794 م، أي في فترة التي كان يعاني من فقدانه لحاسة السمع والذي كان يرهقه كثيرا، وقد سميت أو صنفت – كما قلنا – تحت عنوان (النزوات) والتي تم تنفيذها بالفرشاة والحبر، ويذكر بان هذه المجموعة نفذت وهو كان مرتبط بعلاقة غير مستقرة عاطفيا وغمرته بمزيد من الألم مع دوقة (ألبا) عام 1796، حيث تخلل في هذه الفترة قيامه برسم بعض من لوحات بتعبيرات ذاتية ليعطي لنفسه مساحة لتنفس الهادئ، فرسم صورا للنساء وسحرهن كما وكان يرسم الإبطال والشهداء والأساطير والأعياد وغيرها من مظاهر الحياة اليومية للمجتمعة كمتنفس للهروب من مرارة الواقع سواء بأسلوب الكلاسيكي أو (البورتريه)، وقد نشرت جل هذه الإعمال الفنية – وما سبق – عام 1799م، في فترة كان فيها يتماثل للشفاء، لتكون أعماله في هذه المرحلة وهي مرحلة الأولى والتي سبقت – وكما قلنا – مرحلة الإعمال التي صنفت بعنوان (كوارث الحروب)، بأنها أعمال لوحت منذ البدا بنبوغ موهبة خارقة في عالم الفن، وفعلا فان تلك الأعمال لاقت شهرة واسعة بما قدمته من أسلوب متميز و شكلت فلسفة بسياق فني جديد، بكونه استطاع تجاوز أساليب (الجمال الكلاسيكي) بأساليب (التعبير العنيف الصارم) الذي أمكن (غويا) بقوة التعبير دمج الخيال بالعالم الواقع عبر التعبير، لان غاية (غويا) في فن الرسم لم تكن تتوجه أو تبحث عن (الجمال الفني) وإظهاره بقدر ما كانت جهوده تبحث عن إظهار (الحقيقة)، الحقيقة الداخلية والعالم الخارجي، ليقدم الإنسان في معاناته، وفي تحديه، وفي تمرده، وصمته، واحتجاجاته، ورفضه، وهكذا جاءت أعماله في مرحلة التي صنفت بـ(النزوات)، وبقدر ما كان (غويا) يركز في أعماله عن التعبير؛ فان تعميقه وتركيزه بتصرفات الناس الغير المتزنة وعبثيتهم وجنونهم هي التي فجرت أعماقه لتعبير؛ ليصل إلى ذروة الإبداع بعيدا عن المدارسة الفنية الأكاديمية؛ متخذا من لون الأسود مادة التعبير في إعماله وكمتنفس لفواجع التي شهدها إثناء الحرب؛ وعن حالته الصحية حيث فقدانه حاسة السمع اخذ مأخذه منه، وكغريزة إنسانية عندما يفقد الإنسان حاسة السمع تقوى عنده حواس العقل الأخرى، الأمر الذي جعل خياله وذاكرته تنشط بشكل ملفت، وهذا النشاط نلاحظه في طريقة ابتكار والتعبير في لوحاته (غويا) فهو يقوم بإسقاط الصور وما جمع في ذاكرته من ملاحظات وانطباعات سابقة قبل فقدانه حاسة السمع، وهو ما كان يقود (غويا) للغوص في عالمه الخاص وينتج أشكال تعبيرية بزوايا متعددة وبوجوه واقعية و أخرى ممسوخة في لوحاته تكون على الأكثر منقولة من الخيال؛ لتكون تجسيدها عبر التعبير و رؤية الفنان في أعماله الفنية التي أطلق عليها عنوان (النزوات) وعقبتها مجموعة (كوارث الحرب) لتعبقها في مرحلة الأخيرة من حياته حين دب الأسى والحزن بأعماقه فانزوى في كوخه ليرسم مجموعته الأخيرة التي سميت بمجموعة (الرسوم السوداء)، وهناك عاش الفنان (غويا) عزلته وأنتج إعمال متميزة واغلب ما رسمه في هذه الفترة رسمها على جدران منزله الصغير- الذي سميي فيما بعد بـ(منزل الرجل الأصم) – حيث جاءت بلغة تعبيرية قاسية وسيطر اللون الأسود على إعماله في هذه الفترة أيضا؛ ليبلغ (غويا) في رسومه ذروة التعبير لحجم التشاؤم الذي كان ينتابه اثر إحساسه المفرط بفقدانه حاسة السمع وعدم قدرته على الاندماج مع محيطه، فجاءت لوحاته أشبه ما تكون بكوابيس وأحلام مفزعة؛ وكانت مواضيع إعماله لهذه الفترة جلها مواضيع خياليه سوداوية النزعة للحالة النفسية التي تركتها الحرب على بلاده؛ وما انتاب فيها من حالة الفزع والخوف والقلق وحالات الاضطرابات التي مرت بلاده (اسبانيا)، فعبر عن هذا الواقع بمجوعة من لوحات أخذت إبعادها في الساحة الفنية ليس في (اسبانيا) فحسب بل في الوسط الفني العالمي؛ حيث دمج التعبير في موضوعات التي طرحها في هذه المجموعة من الأعمال بين الرموز الأسطورية مع مواضيع الحرب وما تركته في نفوس الشعب من أثار مدمرة، ومن تلك الإعمال ما أطلق عليها اسم (زحل يلتهم ابنه) حيث ربط بين الأسطورة الرومانية المتمثلة بالإله (زحل) يلتهم ابنه؛ لنبوءة تقول بان احد أبنائه سيقضي عليه، فعبر (غويا) عن هذا الأسطوري ورسمها بشكل مثير لتعبير عن حالة الاضطرابات الأهلية التي كانت تسود (اسبانيا) آنذاك، لتعبير بان الرمز (زحل) يمثل (اسباني) التي تأكل أبناءها كما فعل الإله (زحل)، هكذا كان فعل التعبير مع بقية أعمال لهذه المجموعة التي سميت بـ(الرسوم السوداء)، ومن هذه الأعمال الفنية نذكر منها (رؤية أزموديا) و (رجل أصم) و(سبت الساحرات) و(الكلب) و(ليوساديا) و(أتروبوس) و (هولوفيرنس) و(رحلة إلى سان إيسيدرو) و (قتال بالهراوات) و (عجوزان يتناولان الحساء) و (رجال يقرأون) و (جوديث) و (نساء يضحكن) و(موكب المكتب المقدس)، وهنا يشار بان الفنان (غويا) لم يعنون أي لوحة من هذه اللوحات التي رسمها في منزلة هذا؛ وإنما قام مؤرخين الفن بتسميتها، لتكون لوحات (غويا) تجسيدا حقيقيا ومرآة لواقع شعبه عاش فترة عصيبة تحت الاحتلال (الفرنسي)، فعكس معاناتهم بمنظوره الواقعي واسقط مشاعرهم بإحساسه المرهف لحجم تأثيره لما خلفته الحرب من فضائع انعكس سلبياتها على حياة الموطنين، وقد عبر عن هذا الإحباط النفسي بما كان يلتمسه من خلال وقائع يشاهدها ويلتمسها ويحللها نفسيا، وكيف (الأسبان) كانوا يجسدون مخاوفهم وأحزانهم وصمودهم وكفاحهم وضعفهم وحماقتهم في سلوكيات إرادية واللا إرادية، وكل ذلك جسدها (غويا) في أعماله لتكون نافذة تطل لمشاهدة واقع عاشها شعبه في (اسبانيا) بمرارة وقسوة، وهو ما وجع الضمائر الحية وهي تعيش الحزن والمرض والجنون كما عاشها (غويا)، لتترك بصمته الفنية آثارها الواضحة بما تركته رسوماته الفنية من حالة التعبير عن قصص ورموز وأساطير حاكت واقعهم؛ ليتخذ منها عبر ودروس لتحصين واقعهم بقيم الخير والأمن والسلام التي كان يؤمن بها الفنان (غويا) لتبقى رؤيته صورة حية مثيرة للاهتمام وتحتذ في المدارس الفن والفن العالمي على مر العصور.