د. زهير الخويلدي
” لقد بدا أن كلا من معقولية العالم الواقعي وقدرتنا على فهم العالم صارا يتعرضان للهجمات من مختلف الأنحاء”[1]
يبدو العلم science المسألة المركزية في الفلسفة بالنظر إلى النزاع التاريخي الذي نشأ في ميدان المعرفة المنهجية الدقيقة مع أنماط مغلوطة من الخطابات ومع تصورات خرافية للكون وأقوال فارغة من المعنى، وكذلك بالقياس إلى صلة التكامل التي قيمها مع الفلسفة وتبادلهما للخدمات وتغيير المواقع بين الطرفين في مستوى تعيين الموضوع واعتماد المنهج وصياغة المفاهيم وإنتاج المعرفة وابتكار للحقيقة وإيجاد تفسير للطبيعة وتكيف العقل مع الواقع والتوقع بالحالة المستقبلية للعالم بالانطلاق من معرفة الحالة الحاضرة.
– تعتمد الفلسفة على العلوم في المجال التطبيقي وتنهل من المخابر العلمية اقتباسا واستفادة وفي المقابل تستنجد بها العلوم بغية التثبت وتوفير شروط الصلاحية وتحقيق التواصل مع الثقافة العامة ومن أجل تنظيم المناهج وتنسيق مدارات الحقيقة ووحدة المعرفة وبناء النسق.
– يشترك الفلسفة والعلم ضمن الإطار التاريخي ويتبادلان التأثير والتأثر ويشهدان جدلية الترسب والاستمرارية من جهة والقطيعة والانكسار من جهة ثانية ويخضعان لمنطق الهدم وإعادة البناء.
– اندلاع صراع على المشروعية بين العقلانية الفلسفة والعقلانية العلمية يسهم في تقدم المعرفة والتخلي عن اللامعقول والأقوال ما قبل العلمية ويفضي إلى مراجعة الفكر الفلسفي للبديهيات.
من جهة ثانية تشير الواقعيةréalisme في معناها الفلسفي الى المذهب الذي يقر بإمكانية بلوغ العقل البشري معرفة مباشرة ومرضية عن العالم الخارجي. لكن يجب التمييز بين الواقعية العلمية والواقعية المبتذلة بالمعنى العامي التي تعتقد بوجود الأشياء الخارجية بديهيا دون الحاجة إلى إدراك طبيعتها ودون التساؤل عن عناصرها.
كما تتصور الواقعية الوجود بشكل مستقل عن المعرفة العقلية به ولذلك تتعارض مع المثاليةidéalisme . بيد أن الواقعية تنسب إلى الكليات حقيقة أعلى من حقيقة الجزئيات الحسية لمشاركتها في الوجود الثابت. ثانيا الواقعية تعارض للاسميةnominalisme التي تعتبر الكليات مواضعات وتمنح الجزئي وجودا تاما.
بيد أن الواقعية لا ينبغي أن تسعى إلى إضفاء الشرعية على حقيقة النظرية وإنما بالأحرى تتأسس على إمكانية أن تكون النظرية خاطئة وقابلة للدحض وبالتالي يقاوم الواقع إمكانية تفنيده وبصورة عامة نقده.
لقد أضاف المفهوم الحديد عن الواقع réel الكثير من الإشكاليات الابستيمولوجية الهامة التي بقيت غائبة عن المفهوم الضارب في القدم عن الوجود ، ولقد صار يعني إطارا مناسبا للنشاط العلمي يخضع لرغبة الباحث العقلي ويتكيف مع خطة المشروع المقترح ويستجيب للتصميم التقني الساعي نحو تحقيق منفعة مبرمجة. بهذا المعنى يبدي الواقع تماسكه وبقائه وصلابة جواهره واستمراريته ويقاوم كل محاولة لإهماله أو إلغائه ويثبت أولويته ومستواه الإجرائي ويتعارض مع المظهر الحسي الذي يظل محل شك ويقبل الاختفاء والزوال. علاوة على ذلك يتمتع الواقع بالاستقلالية عن الفكر ويتميز بالطابع المعقول في وجوده المادي وبخاصية الكلية بالرغم من احتوائه للفردي وتكونه من الجزئي وإمكانية تذريته وتقسيمه وتعيينه.
أما الواقعة أو الحقيقة réalité فإنها تضيف تحديدا جديدا للوجود ، اذ لم يعد الأمر يتعلق بالوجود العام وإنما بالوجود الموصوف بخاصية معينة ويحمل كيفية تتعارض مع كل رغبة ذاتية أو مشروع شامل.
ليست الواقعية العلمية مجرد نزعة مادية تمتلك برنامجا ميتافيزيقيا بل هي موقف ابستيمولوجي يمتلك تعبيرا رياضيا وتطبيقا تجريبيا ، كما أنها لا تبحث عن التفسير المطابق للأصل للكون بل تنصت إلى الوقائع وتلتزم بالأحداث وتعيد بناء المع عن طريق مقولات الذات وتنتقل من العيني إلى الموضوعي. فهل من الممكن أن نحدد بالدقة العلمية المطلوبة ما يفترض أن يكون واقعا؟ ثم ماهي علاقة الواقعي بالافتراضي؟ وأين التناقض في مقولة الواقع الافتراضي؟ مما تتكون بنية الواقع الافتراضي؟ وكيف تؤسس الواقعية إمكانية التقدم العلمي؟ ألا تقوم الواقعية النقدية بدور توجيهي للعقلانية العلمية؟ و ماهو معيار العلومية ؟ وفيم تتمثل عملية التأسيس العلمي للعلم؟ وهل من شروط لقيام الموضوعية؟ ما الذي يمنح التمشي الإجراء في العلوم دقته الموضوعية ونجاعته التطبيقية؟ وكيف تفسر خصوبة المعرفة التي تعمل العلوم على تأسيسها؟ وبأي معنى تتواءم العملية العلمية مع الضرورة البنيوية للوغوس من جهة ومع مقتضيات الفعل من جهة أخرى؟ ومتى تبتعد الحقيقة عن الدقةexactitude وتقترب من الصلاحية؟
تدور هذه الأسئلة على الطريقة التي تسمح باستخراج معيار عام للعلومية قابل للتطبيق على اختصاصات أخرى ويمكن من إطلاق صفة العلم عليها. في البداية يفترض أن يتم الارتكاز على مصطلح العملية بدل المبدأ والقيام بالتدخل في مستوى المسارات الصورية والتمشيات التجريبية بغية إجراء بناءات تفسيرية.
بهذا المعنى تحصل المعرفة العلمية بالانطلاق من طابعها الإجرائي الذي يمثل شرط إمكان تميزها على بقية المعارف والآراء التي ينتجها الكائن على خصائص المعقولية والمصداقيةcrédibilité والنجاعة.
لا تصل المعرفة إلى درجة العلمية إلا إذا نجحت في إدخال الأبعاد البنائية والاستدلالية والاختبارية والتقييمية والتأسيسية في ممارستها البحثية وعملياتها التوضيحية وقامت بتحويلها إلى أشكال صورية. كما يتكون البرنامج التأسيس للعلم من توضيح آليات الابتكار والكشف التي تتميز بها الممارسات الإجرائية وتتبع عمليات منطقية تتميز بالجمع والتركيب والإحصاء والتثبت وتركز على العلاقة والبنية والشبكة. ولا يمكن الخروج من الأزمة التي طرأت على العلاقة بين الفلسفة والعلم إلا بمنح العلوم المفتاح التفسيري للطبيعة وإعطاء الفلسفة دور الوساطة بين الاختصاصات العلمية وتوكيلها وظيفة التوجيه والنقد الجوهري للكلي وتمكينها من إعادة اكتشاف مهمتها الخاصة التي تتمثل في تخليص المعرفة الموضوعية من تلقائية الموقف الطبيعي التي تقع في الخلط بين المعرفة والفهم وتفرغ بلا ضوابط العقلانية من صرامتها وتفهمها وتحيل بصورة عمياء الدال البنيوي الى ثبات التدفق المادي دون أن تقع في مطب توفير معرفة تصورية على غرار الخطوات الواثقة التي تقطعها الميتافيزيقا عندما تترك التثبت وتقوم بتعميم المعارف الجزئية. هكذا تصبح الفلسفة عابرة للتجارب وتقيم على عتبة النظريات وتطلب من العلوم التثبت من حقيقة الواقع وواقعية الحقيقة تصديقا للثورة التي فجّرها مارتن هيدجر بقوله أن العلم لا يفكر وبأن الحقيقة ليست الدقة. في حين بقي لفلسفة العلوم أطروحة واحدة تدافع عليها ألا وهي تطوير إشكالياتها ضمن المنظور الذي تدشنه الأفق الأنطولوجي من خلال الالتقاء بالحدث في المسافة الأصلية التي يتركها الكائن مع الحقيقة. لكن ماهي معايير علمية النظريات العلمية؟
لقد أفضى النقاش حول مقومات النظرية العلمية، ودور كل من التجربة والعقل في بنائها، علاقة العقل العلمي بالواقع العلمي، إلى مواقف فلسفية وعلمية متباينة، يؤكد بعضها أهمية التجربة والملاحظة ودورهما، كشرطين أساسين للنظرية العلمية، كالنزعات الاختيارية والتجريبية التي ترى أن المعرفة العلمية ينبغي أن تطبق على مادة الملاحظة والتجربة او النزعات العقلانية التي تجعل من العقل مصدر الحقيقة العلمية ومعيارها. فمن أين تستمد الواقعية النقدية صلاحياتها المنطقية وقيمتها المعرفية؟
والحق أن إثبات صلاحية النظريات العلمية: يقتضي توفر مجموعة من الشروط التالية:
1- – معيار الأنساق أو التماسك المنطقي، ويقصد به اختبار الانسجام الداخلي للنظرية من خلال المقارنة الصورية بين مكوناتها: فرضياتها، مفاهيمها، نتائجها… ويشترط في النسق خلوه من التناقضات الداخلية.
2- – معيار التحقق التجريبي، ويعني التأكد من محتوى النظرية العلمية ومكوناتها، من حيث هي قضايا ذات معنى وبالتالي يسمح بإدخالها في دائرة العلم والمعقولية أو هي فارغة من المعنى ويجب شطبها.
3- – معيار قابلية النظرية العلمية للتزييف أو للتكذيب وذلك بعرضها على الاختبار والتحقق التجريبي وذلك بالبحث عن صمودها أمام أدوات الدحض والتبكيت وامتلاكها مقومات الحقيقة العلمية النقدية.
4- النظرية العلمية تعتمد على الانتقال من الواقع العيني من حيث هو معطى الى الواقع الافتراضي من حيث هو بنية وتفترض التلاقي بين العقل والتجربة ورمزية الصياغة الصورية ومادية التحقق الميداني.
في نهاية المطاف ليس الواقع الافتراضي مسألة ظنية وأمرا احتماليا وإنما هو واقع تقريبي يقوم على الافتراض والتخييل بدل التجربة المسلحة والتثبت المنهجي ويتشكل من خلال المحاكاة الإبداعية للموجودات ويشير إلى العالم الذي يصنعه الحاسوب الآلي من أجل دراسة الطبيعة ونمذجة المعارف التي ينتجها العقل العلمي حولها.لكن إذا كانت هذه هي معايير الموضوعية وخصائص المعرفة العلمية فأي دور للافتراضي في إعادة بناء العقلانية العلمية وفق مقاربات معاصرة؟
المرجع:
سيرل (جون)، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة سعيد الغانمي، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الدار العربية للعلوم، طبعة أولى، 2006.
كاتب فلسفي