الرئيسية | فكر ونقد | بامغار في آيت هادي : قراءة على عتبة المعايشة | شبير محمد

بامغار في آيت هادي : قراءة على عتبة المعايشة | شبير محمد

شبير محمد

 

تقديم: تختفي دلالة بامغار  bamghar في الجهل بالأصل اللغوي الذي تنحدر منه هذه الكلمة، لكن إرجاعها إلى الأمازيغية باعتبارها سياقا لغويا لها، يقرنها بدلالة أولية، لأن هذه الكلمة مركبة من (باⴱ ⴰ) و (أمغارⴰⵎⵖⴰⵔ)، أما الأولى فتعني ذا/ صاحب أو الأب، وأما الثانية فتفيد الشيخ أو الكبير، إلا أنهما تلتحمان في بامغار لإفادة السخرية من أمغار الذي يعني السلطة في ثقافة العرف، ويكون معادله في ثقافة القانون كل من يتولى مهمة تميزه عن باقي الناس، كالساسة ورجال السلطة في مراتبهم المختلفة، وفي هذه الدلالة ما يؤشكل بامغار في علاقته بسلطان الطلبة، إلا أن دراسته في سياق الثقافة المغربية عموما، وفي سياقه الاجتماعي خصوصا، وفي سياقه الفني خاصة، ستجعلنا نكون دوائر دلالية لأهم الإشكالات التي يمكن للباحث أن ينطلق منها لمقاربة بامغار. فما حدود التقليد والعادة فيه؟ وكيف يشتغل فنيا واجتماعيا؟ وما دلالاته التاريخية والجمالية؟

  • 1) الفضاء والسكان  في بامغار

تيكمي –ن- حماد أو”دار حماد” بالتعبير العربي، هي فضاء البحث، وتنتمي هذه القرية إداريا، إلى حد هذا الانجاز، لجماعة آيت هادي، وهي فضاء بدوي تلاقحت فيه مجموعة من الأسر المنحدرة من قبائل مختلفة كانت قاطنة بالجوار، وتواشجت فيها خيوط الثقافة المغربية ذات الخلايا المتشعبة طبيعيا، إنها فضاء منفتح أمام التعابير الفنية المختلفة للقبائل التي انحدرت منها الأسر  المشكلة لمجموع السكان، بحيث انحدر بعضهم من الجبال المجاورة، ويحملون أسماء عائلية دالة على أماكن انحدارهم، كانفيفة ودويران على سبيل المثال لا الحصر..  ولكن هؤلاء تفاعلوا في علاقات اجتماعية ولم يؤد اختلاطهم إلى الانسلاخ عن إرثهم الثقافي، بل جعلوه عرفهم المشترك ورسخوا له ركائز  تحافظ على استمراره في شكل عادة لا مفر منها[1] وفي شكل تقليد سنوي لا مرد دونه، وفي ذلك ما ساهم في تقوية العلاقات الاجتماعية حتى أصبح الناس وكأنهم قبيلة واحدة، بل لعل الدارس الذي لم يستطع اختراق دائرة الصمت لن يستطيع الحكم على هذه الأسر بكونها منحدرة من قبائل مختلفة.

والعادة بما هي تكرار مؤسس للقانون (العرف) هي اللحمة المؤسسة لكثير من العلاقات الاجتماعية ذات الطابع النفعي، وأخرى ذات الطابع الرمزي، فكان بذالك بامغار ضربا من هذه العادة التي تعيد ترتيب منمنمات المجتمع/القبيلة في رقعة الفضاء، وفي مسافات تتلاشى فيها الفوارق الاجتماعية كما تتلاشى المسافة بين الذكر والأنثى في اللعب الرجولي. ولهذا فالسنة دورة زمنية يمثل بامغار عيدها الاجتماعي الحاضر بين أوراق عيد ديني هو عيد الأضحى، والمستدرج بجلود الماعز –كما في الديثرامبوس الإغريقي- في حفل بيلماون (بوجلود/هرما).

  • 2) الزمن الطقسي والزمن الفني:

قبل التمييز بين الزمنين الطقسي والفني لبامغار، نشير إلى المناسبة التي تجمع الناس في هذا العصر، وهي عيد الأضحى، ولا يمكن أن نقر بكونه زمنا ثابتا في عمر بامغار، كما لا يمكن نفي ذلك. إلا أن ارتباطه بعيد الأضحى من حيث العادة، يحقق الشرط الاجتماعي لوفرة الناس وعدم انشغالهم بأمور العمل كما في الأيام العادية من السنة، ولهذا فإن بامغار إذا ارتبط بهذا الزمن بعينه، فإنه عادة ظهرت في صلب التاريخ الاسلامي، وإذا لم يكن كذلك فإن مناسبة أخرى غير عيد الأضحى قد كانت زمنه الطقسي قبل تحول المجتمع، فتعانق الطقس القديم (بامغار) مع الطقس الجديد (الأضحى) لخلق هذا التلازم المستجيب للضرائر الاجتماعية، لأن كل عيد ديني وكل وقت طقوسي يتكون من إعادة تحيين حادث مقدس حاصل في ماض أسطوري[2] وسواء كان الزمن المطلق عيد الأضحى أو غيره فإنه يستجيب كذلك  للضرائر الاقتصادية لأن مثل هذه المناسبات تمثل الزمن الفعلي لتصريف المنتوج، ولذلك فلبامغار أمناء يجمعون التبرعات لقضاء مآرب المجتمع/ القبيلة، وهذا ما تصطلح عليه السياسات الحديثة بالمقاربة التشاركية في تدبير الشؤون المحلية، ولن نجد في الأمر مبالغة أن الأموال التي يجمعها الأمناء قد حققت تآلفا اجتماعيا ووفرت للسكان كثيرا من الحاجيات وقَوَّت العرف بينهم، لأن العرف هو كذلك خاصة المجتمعات البدائية والبدوية المنعزلة أكثر من غيرهما، فعقابه قد يكون أقوى من عقاب القانون. فهو يعاقب عقابا مباشرا أو سريعا، بالاستهجان والاحتقار، والكلام الجارح[3]..  

وعيد الأضحى تلازمه مجموعة من المناسبات، لكونه زمنا يوفر من الامكانيات الاجتماعية ما لا يوفره غيره من أيام السنة، لأن طابعه الديني هو الذي جعل المغاربة يطلقون عليه “العيد الكبير” لأهميته الاجتماعية والدينية.  وهذا العيد له دور اقتصادي في توفير  المادة اللازمة لصناعة الفرجة، لأنه الفترة التي تصرف فيها الأموال بإفراط أكثر من باقي أيام السنة، وفي تناغم هذه الضرائر الاجتماعية والاقتصادية تنضاف الشرارة الروحية لطابع المناسبة الديني، فتجتمع هذه الضرائر لخلق الجو العام للطقس والعادة، فتقتحم الفنية هذا العالم بتسخير جلود الأضاحي ودمائها لصناعة فرجة تراجيدية وهي بيلماون ذات الأسماء المتعددة كبوجلود وهرّما.. وهذا الجو التراجيدي الملازم لأيام العيد يعقبه جو كوميدي يغتسل فيه الناس من مخاوف بيلماون ترويحا عن النفس بالضحك، فيطلقون عليه بامغار، لكن مجتمع الممارسة لا يدركون غالبا من هذا اللون إلا ما يلزمهم بالوفاء لعاداتهم ولتقاليد أجدادهم، عكس الدارس الذي يغوص في عمقه بما أوتي من قدرة  تختلف درجاتها باختلاف المعرفة بمجتمع البحث، أي تلك الدائرة من الممارسين وما يحيط بها من الدوائر  ذات الصلة بالموضوع.

  • 3) بيلماون وبامغار : الأصل والامتداد

يصعب تحديد الأنواع في الأشكال التعبيرية الشعبية لأن الحياة بفصولها مزيج متجانس، يكون فيه اليومي المبتذل رمزيا ناذرا، فتتقلص المسافة بين قيم المقارنة بين الألوان الفنية، من جهة وبين الظروف المعيشية من جهة ثانية، وذلك حال بامغار الذي ينهل من بيلماون ويؤثر فيه كما يتأثر به، وهما معا حاضران غائبان في الحياة اليومية لأن المجتمع الممارس يوفر بقايا الحياة اليومية لتلك الحياة الخاصة، وكأن الحياة اليومية هي مرحلة التفكير في النص وجمع كلماته وعلامات ترقيمه، لكتابته في الزمن الطقسي/ زمن العادة، ولهذا فإن عمليات الكتابة والاخراج والتمثيل، في الفرجة الشعبية التي يمثل بامغار مظهرا من مظاهرها، تخترق الحياة، ومعنى ذلك أن الاستعداد لبامغار  لا يكون في الزمن الطقسي وحده، بل تمثل عملية جمع مستلزمات هذا الشكل التعبيري شكلا من الكتابة والاخراج والتمثيل في الآن نفسه، وكذلك الحال في أيام الزمن الطقسي، وقبيله أثناء التداريب والتجمع، وبعيده أثناء التخلص من تلك المستلزمات وتخبيئها للموسم المقبل..

أمغار 1ونظرا للعلاقة القائمة بين الأشكال التعبيرية الشعبية، في تكاملها وتشابهها وتقاطعها.. فإن بامغار لا يمكن أن يكون نوعا مستقلا أو جنسا خاصا، بل إنه امتداد لمجموعة من الأشكال في طرق التعبير أو في الأصل التاريخي، ولهذا فإن الاهتمام منصب على الجوانب التعبيرية فيه، لا على الجوانب التاريخية التي تبحث في السبق التاريخي لمجموعة من الأشكال إلى الوجود..  وإن كانت مجموعة من النصوص التي تغنيها الجوقة المرافقة موحية بعلاقة اليهود بهذا الفن، إما

أداء أو نقدا، فإن البحث في الطابع الأدائي يجلي زواجا بين فني حمادة وأحواش[4] في تساوق فني وفي جمالية خاصة تجمع بين النظام والفوضى، على النحو الذي يجمع اللعب بينهما في تعبير كوتسينغا[5]، وبين التمسرح  والغناء والسرد والرقص، وهي جمالية تسترعي المتلقي المشحون بطقسية الفنون الشعبية، وكذلك العلاقة بين بيلماون وبامغار فكل منهما يمثل بروفة للآخر، وكل منهما يتلاشى ليعيد الآخر انتاجه في قالب جديد، ولا شك في الأمر أن علاقة ما تربط الشكلين بالديثرامبوس الاغريقية، التي ولدت المسرح وقام على أنقاضها المسرح الأوروبي.

  • 4) الذكور صناع الفرجة في بامغار

ترتبط بالثقافة المحلية لأمازيغ المنطقة بعض التعابير الساخرة كقولهم دَّالفاهم للتعبير عن غباء المخاطب، لأن “دّا” تستعمل في اللغة الأمازيغية، بلسان أهل المنطقة، للتعبير عن الكبر والوقار والاحترام، ولأن “الفاهم” في اللغة العربية هو الشخص سريع البداهة وذكي الطبع، لكنهما يقترنان عند التزاوج بالغباء والهجاء، بل بالسخرية ممن يحتاط كثيرا من الايقاع به، لكنه كثير الوقوع، وبالالغاز إذ يعبر عن سخافة غريب  يحاول التميز  بين أفراد مجموعة منسجمة، وكذلك شأنهم في القول “بامغار”، لأن العبارة تركيب مزجي بين “با” التي تحمل صفات الأبوة في مجتمع تسود فيه قيم الذكورة، وبين “أمغار” التي تعني كبير القوم، وأمغار  هو الحاكم في العرف الأمازيغي، فهو  في منزلة الساسة من ملوك ورؤساء في السياسة الحديثة، ولهذا فإن التركيب بين الأبوة والقيادة (السيادة) يتجاوز القوة الحرفية للتعبير عن قوة مجازية تتغذى من السخرية المطلقة من الساسة وأولي الأمور الذين تختزلهم كلمة “أمغار” في الوعي الجمعي لمنظومة العرف في المغرب، فنجد “بامغار” في هذا المستوى من القراءة فضاء جامعا لقيم الذكورة  في أبعادها المطلقة[6]. إنه الفسحة التي يتحرر خلالها الرجال من مكبوتهم اليومي بالتعبير عما يخفونه من تصورات لتضاريس الأنثى وجمالها وقبحها[7]، وهو الرخصة السنوية للدخول في دائرة العلاقة الحميمية  التي تلتقي فيها الأجساد في جسد واحد، ليظهر الرجل الجمال الأنثوي الذي يسكن جسده الرجولي، أو لرسم جسد المرأة بشكل ساخر (كاريكاتوري) بحشو يبرز ضخامة الصدر والردف والحوض.. فيكون ذلك باعثا للضحك من جهة ومثيرا جنسيا للاعبين المشاركين من جهة، وللمتفرجين ذكورا وإناثا من جهة ثانية، وتتضح جنسانية sexualité هذا اللون من اللعب عند انزواء اللاعبين المشاركين عن عيون النساء، فيما يتبادلونه من مناورات بين اللاعبين الممثلين للذكور وبين الممثلين للاناث، إلا أن الباحث غير المشارك انثروبولوجيا، سيعتبر ذلك ضربا من الشذوذ الجنسي، وهو الأمر الذي ننفيه بناء على معرفتنا بأدق التفاصيل عن هذا الحفل.

لا يقتصر اللاعبون بتحقيق النشوة بتحطيم القيود النوعية بين الذكر والأنثى، بل يحلقون بأنفسهم في سماء الدين بتمثيل رجال الدين (الفقهاء) بما في عينة منهم من الشذوذ ومن الشراهة والبخل والنصب والاحتيال، كما يسخر منهم بقلة علم وبانحراف في السلوك، وعدم المعرفة بأبسط الأمور الدينية، مما يجعل دعوتهم الناس لأمور الدين عبثا ومفارقة يستحقان الانفجار ضحكا واستغرابا، وكأن هؤلاء اللاعبين يحاولون تمثيل ما جاء في كتاب البخلاء للجاحظ، أو ما جاء في رسالة ابن شهيد الأندلسي المعنونة بالتوابع والزوابع، إلا أن أغلبهم لا معرفة له بالقراءة والكتابة، ولا ننفي أن الطلاب والموظفين من أهل المنطقة يشاركون هم كذلك في “بامغار”، لأنه حفلهم المتوارث جيلا عن جيل ونجد فيه تراكبات وارسابات تاريخية قد تعود إلى ما قبل الميلاد.

ولعل السخرية بالجنس وبالدين وبالسياسة من أهم الأمور التي تصنع الفرجة في بامغار، ولا يعني ذلك السخرية من الجنس ومن الدين ومن السياسة، لأن هذه الميادين تستغل باعتبارها وسائل للسخرية من النماذج البشرية وليست غايات في حد ذاتها، وإذ تنتفي هذه الغائية تختفي عبارات الشذوذ والتحريم والعصيان في بامغار، ورغم أن بعضا من التيارات الوافدة على المنطقة تحاول تكريس هذه الأفكار  بأبعادها السلبية، فإنها لم تصمد أمام قوة العادة بمفهوم ماكس فيبر، والتي أصبحت قانونا عند السكان المحليين، وهذا القانون هو العرف الذي يجب احترامه بإقامته في كل سنة، مما يضمن له استمراره بالتفاعل مع شروط أخرى سنذكرها بالتدرج، ومن خالفه يكون عقابه أسوأ عقاب في ملحمة القبيلة

  • 5) الأدوار النسائية في بامغار

يعني الحديث عن  الأدوار النسائية في بامغار الغوص في جنسانية هذا الشكل التعبيري، لأن صناعة الفرجة من قبل الرجال، لا تعني بالضرورة إعادة تمثيل حياة الرجل في المشاهد الساخرة التي تشكل اللوحة الفنية لبامغار، بل يعني ذلك نوعا من التجرد باللاعبين المشاركين عن الهوية الطبيعية، لاعتناق هويات أخرى، إنها هويات لعبية (لعبوية)  des identités ludiquesتحمل الكائن اللاعب من فضائه الإحيائي النوعي لتعيد بنينته في فضاء تنمحي فيه الحدود بين الذكورة والأنوثة، فتجد المشاركين في بامغار مستعيرين لأزياء نسائهم أو أخواتهم أو إناث أخريات لصناعة الفرجة والمساهمة فيها، ومن غير حرج، فيصبح الرجل الفرجوي ذكرا، وتصبح المرأة الفرجوية أنثى، لتتلاشى هذه الجنسانية بنهاية اللعبة، وليس في بامغار ما يدعو للبحث في الجوانب النفسية لممثلي الأنوثة من الرجال، لأن الأمر لا يتصل بالمثلية، ولا علاقة له بالخنث، كما لا علاقة له بالشذوذ أو بأي عقدة نفسية ذات الاتصال بالانحراف الجنسي، لأن عددا من اللاعبين لهذه الأدوار  يعيشون سواء جنسيا في حياتهم العادية، وقد يعزى تمثيلهم للأدوار النسائية لأسباب ثقافية تؤكد فكرة الهيمنة الذكورية لطبيعة المجتمع الأبوي (الأبيسي)، لكن حضور النساء في شكل جوقة مصاحبة يفند هذا الادعاء.

ونرى أن المرأة هي ذلك الحاضر الغائب بقوة في بامغار، فهي حاضرة في تمثلات ذكورية من خلال الاستعارات التي يصنعها جسده الذكري، وغائبة فعليا، مما يعني أنها جسد الاستحضار  الذي يتقاسمه الحضور والغياب، ولكنها حاضرة فعليا في دور ذي أهمية إذ تصاحب موكب بامغار، مرددة للأغاني المرتجلة، ومصفقة لإحداث الايقاع اللازم للاندماج في عالم بامغار، ومزغردة للتعبير عن رضى الجماعة بمكوناتها، ومثيرة بصوتها الجذاب لمن يجلبه الشبق لعالم بامغار، إنها الوقار والغواية في هذا العالم الغني بالمتناقضات، ولهذا فإن حضورها وغيابها متاخمان بعضهما لبعض، إلا أن الجسد الأنثوي المحمول بالجسد الذكري العامل في فضاء الفرجة هو أحد السندات التي لا يكون بامغار إلا بهذا التواجد في بينهما.

  • 6) بامغار الضريبة السنوية للحمة الاجتماعية

تتزيى  الأعياد الاجتماعية، في الثقافات عموما بألوان من العلاقات الاجتماعية السائدة، وأخرى كامنة في الوعي الجمعي، ويصعب التمييز بين هذه الألوان إلا بالبحث  الإجتماعي المتفاعل مع  خصوصيات المجتمع المبحوث، وبهذا الحس نتأمل في بامغار، لنجده مؤلفا من مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي لا يحتفظ بها إلا بأداء ضريبة أو ضرائب تختلف مواقيتها وقيمها حسب النوع الاجتماعي الذي يسنها، أما في أيت هادي فإن الضريبة السنوية لبامغار  تحفظ التلاحم الاجتماعي لمجموع السكان، ولقد تبين في “دار حماد”  أن القيمة الضريبية لم تكن موحدة ولا ثابتة، بل إنها ذات قيم مختلفة حسب المكانة الاجتماعية والموقع المادي للفرد/ الأسرة بمقاسات الأعراف السائدة.

ولعل المتتبع لطريقة استخلاص هذه الضرائب، سيكتشف شكلا من أشكال النزاهة في جمع المال العام، إذ تتجول الجوقة من فريق اللاعبين والمشاركين، ذكورا ونساء في الوسط بين السكان، ويقصدون الديار والمحلات التجارية لجمع ما يقدمه المستخلص منهم إتاواتهم عن قصد وبطيب خاطر ولا إلزام في ذلك رغم ما يبدو عليهم من الإلحاح في اللعب، لكن الممتنع والبخيل يسجل في الذاكرة الجمعية لمجمع المشاركين، ليهمل في مناسباته، وعدم مساعدته أثناء الحاجة لمساعدة الجماعة، خاصة أن الأموال المستخلصة تجمع عند الأمناء لتسديد ديون جماعية، أو لتوفير وسائل انتاج جماعية كمستلزمات المسجد والدفن والأعراس.. وعادة ما لا يستفيد من بعضها من لم يساهم بقدر استطاعته.

وقد يغتنم بعض علية الوسط الاجتماعي الفرصة لإشهار قيم الكرم والَياقة والانفاق، ليحافظ بذلك على مركزيته بين المكونات الاجتماعية للوسط، وفي هذا ما يشحذ التنافسية في الانفاق فيضمن لبامغار الشرط المادي الذي تستلزمه الاستمرارية وبفرضه التواتر ومقاومة أشكال التحريم والحجر التي تسعى لاستئصال هذه التقاليد من المجتمع بتوظيف تأويلات دينية أو اجتماعية لتلك الغاية. 

  • 7) بامغار  المسخرة  والتمثيل

أمغار 31

يمكن أن نعتبر بامغار فنا تمثيليا قائما على مجموعة من السندات التي تقوم عليها الفرجة، ويغلب عليه عموما طابع المسخرة، لأنه قائم على مسخ الأشكال والصفات البشرية، بآليات تجمع بين تضخيم الأحجام وتغيير الألوان وتشويه الأصوات، والمبالغة في تصوير التدني، فيكون بذلك قناعا كبيرا للحياة اليومية لتقديمها أمام محكمة قوانينها كلها لعب وتفجير للطاقة الخلاقة التي يضمرها كل لاعب طوال أيام السنة، إنه عالم السحام على الوجوه، والحشو في البطون والأرداف والصدور، وهو عيادة العمليات المشروعة في تغيير الجنس والتجميل والتقبيح لإثارة مخزون النفس البشرية والتطهر من الكبت، وهو  منظومة الأخلاق التي تنتقد الأخلاق السائدة حتى في أشكال تسخير اللاأخلاقي، وبه يصبح السوقي عالما والعالم سوقيا، ويصبح الدين دنيا وتسمو الدنيا إلى مراتب الدين.

وإذاكان بامغار في كليته فنا تمثيليا، فهذا أمر طبيعي ليتضمن محاكاة للحياة اليومية ونقدا لها، وذلك حاصل في الكلمات المغناة من جهة، فبعضها هجو وبعضها مدح والبعض وصف أو مغازلة، وحاصل في الشخصيات المقدمة على مسرح متنقل، يمشي على أقدام اللاعبين والمشاركين، ويتخذ من الظلمة التي تتخللها أشعة لخرق حميمية الليل، واقتطاع جزء منه لصناعة الزمن المفقود في الحقول والمراعي والأشغال المنزلية وفي سائر مشاغل الحياة اليومية.

أمغار 2ونرى أن بامغار لا يكتفي بهذا النوع من التمثيل، بل من فقراتها تمثيليات يسميها فريق من اللاعبين بالمسرحيات، وهي جملة من المرتجلات لتي تنتقد أمام العامة كثيرا من الصفات ومن النماذج البشرية وبعض المشاكل الاجتماعية والدينية والاقتصادية والنفسية للسكان أو للإنسان عموما، بحيث يتاح للاعبين التحليق خارج الخصوصيات وبعيدا عن المحلية لاعتناق المشاكل الانسانية الكبرى.

  • 8) بامغار  الجوقة الغنائية المتجولة

ينفتح بامغار على الفضاء الذي يسكنه اللاعبون، وقد يضم إليه عدد من اللاعبين من أماكن أخرى، فيرسم فريق اللاعبين مسار  رحلة بامغار في طوافه بالوسط، وقد يحترم هذا المسار كما تم الاتفاق حوله من قبل وقد تعترض الرحلة عوارض لم تكن في الحسبان، لكن الرحلة تغطي مجموع الرقعة الجغرافية التي يشغلها النوع الاجتماعي، ولذلك سجلنا أن رحلة بامغار تنطلق من نقطة ما في دار حماد، ويجوب الفريق الدروب حتى يصل بهم المقام إلى أيت وزبير، وقد تكون نقطة الانطلاق من أيت وزبير في اتجاه دار حماد، ويمتد غلافه الزمني حتى يغطي هذا الفضاء، وفي هذا السفر  أمور كثيرة تخلق الفرجة المرتجلة في بامغار لأن اللاعبين يصادفون أشخاصا في طريقهم، فيورطزنهم في حفلهم، وهذا يبرز دور الجوقة المتنقلة التي ينخرط فيها المشاركون جميعا، وقد يكون المصادف في الطريق شيخا وقورا، أو رافضا لهذه التقاليد، أو معتوها.. فيوقع به الفريق في صلب اللعب، إنه ورطة كبرى تتجول في الوسط وتفرض الحظر على من لا يماشيها، ليبحث عن مكان للجوء طوال أيام الاحتفال.

وتتخلل هذه الجوقة مبارزات شعرية، يستعرض فيها كثير من الشعراء قدراتهم الفنية في الاعتزاز بالذات وفي هجو الآخرين والحط منهم، ومما يثير في ذلك أن المبارزات الشعرية لا تخلق صراعا حقيقيا بين الشعراء في حياتهم اليومية، إذ تتلاشى العداوة الفنية بتلاشي اللعبة، ويعود كل فرد إلى دائرة العلاقات الاجتماعية التي تتقاطع فيها مصالحه بغيره من السكان، فقد تجد منهم من لا يشارك إخوته أو أبناء عمومته في علاقاته العامة، وإن كان مدافعا عنهم في مبارزات بامغار [8]

خاتمة تركيبية:

يتضمن بامغار مناحي أخرى غير التي سافرنا في بعض تفاصيلها، لكننا تناولنا هذه الجوانب التي أردنا من خلالها وضعه في موضع الإشكال لا في موضع البحث عن الحقائق الصارمة، ولذلك فإننا نراه غير مدرك كلا إلا بقراءته في ضوء الثقافة المغربية عموما، وفي علاقته بالأشكال التعبيرية الأخرى، لرصد بعض التفاصيل التي تخفيها الثقافة الشعبية عموما في التشظي والإنشطار  اللذين يطبعانها. وعلى هذا الأساس وجب القول إن بامغار تمفصل من تمفصلات المعنى التي تساهم في بنينة الثقافة الشعبية والنوع الاجتماعي الممارس لها، ولا تتشكل نصيته إلا في استحضار  كثير من النصوص الحاضرة فيه والأخرى الغائبة في إطار لعبة المحو بين الغياب والحضور .

باحث في الفرجات والأنثروبولوجيا

 

الهوامش:

[1] Bont Izard. Dictionare de l’ethnologie et l’anthropologie. Ed 2/ 2000

[2]  ميرسيا إلياد. المقدس والمدنس. ترجمة عبد الهادي عباس المحامي. دار دمشق. ط1 سنة 1988. ص 50

[3]  فاطمة مسدالي. الثابت والمتغير في أعراف الأسرة البدوية بدكالة (ضمن كتاب الأعراف بالبادية المغربية) منشورات البحث في تاريخ البوادي المغربية. سلسلة ندوات ومناظرات1 جامعة ابن طفيل القنيطرة 2004 ط1 ص 97

[4]  حمادة هو الشكل التعبيري الذي يميز قبائل السباعيين في شيشاوة، بينما أحواش يميز مجموع الناطقين بلسان سوس الأمازيغى.

[5]  يوهان كوتسينغا. ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الانسانية. ترجمة صديق محمد جوهر. ط1 سنة 2011عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث

[6]  بيار بورديو. الهيمنة الذكورية (ترجمة سلمان قعفراني). المنظمة العربية للترجمة. ط1 بيروت 2009 (الفصلان الأول والثاني)

[7]  أحمد شايب. أبحاث في الضحك والمضحك. دار أبي رقراق للطباعة والنشر. ط1سنة 2010 ص119ـ 120

[8]  تجدر الإشارة أن عائلة بوزاليم كان لها شعراء لاعبون يمتازون بالحذق وسرعة البداهة والرد، ويغمرهم اللعب والمرح والجد والهزل، وأرقهم الحافظ  بوزاليم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.