ياسين سليماني *:
في تجربته الزجلية السابقة “يبلّل ريق الما” يقول عبد الرزاق بوكبة: “تشبهْني البذرة…وين يَرموني نَنبت”. ولم يبالغ الرجل في هذا، ولا جانب حقيقته، خاصة إذا علمنا أنّ مجموعته القصصية الجديدة “كفن للموت” الصادرة قبل شهرين عن “دار العين” المصرية، تحاكي تجربة إنسانية عميقة، ترى نفسك فيها، ترى أنها تشبهك، أو تشبه شيئًا فيك. وأنا إذ أكتب عن هذا العمل من جديد بعد ورقة سابقة (انظر صحيفة “النصر” الجزائرية، الثلاثاء 27 أكتوبر الماضي) فلأنني أحسست، وأنا أرسل المقال للنشر، أنّ كثيرًا من الأفكار والآراء تم القفز عليها.
كان عليّ أن أعود إلى مجموعة إذاً باسم التلقي العاشق. وعندما أعلمت بوكبة بالأمر في دردشة عابرة، أعلن لي تحفّظه. إذ تكفي حسبه قراءة واحدة لكتاب واحد. فأية إضافة يمكن أن يضيفها الناقد إلى عمل تحدث لتوه عنه؟ مع ذلك فإنني إذا كنت في المقال السابق تحدثت عن القصة كشكل فني اختاره الكاتب، وعن موضوع الموت، كتجربة إنسانية، فإنني الآن أحاول الحديث عن مكانة المرأة في أدب بوكبة، من خلال هذه المجموعة: كيف نظر إليها؟ وكيف صوّرها؟
مع بدايات المجموعة تظهر لنا قصة “الهاتف”. هل يمكن أن نصدّق هذه الواقعة: “تعلم أنها الوحيدة التي لم أكن بحاجةٍ إلى أن أكتب اسمها، أو أميّزها بموسيقى أو صورة. هناك ما يُميّزها، ويجعلني أعرف رنتها، بل إنني كنت أتوقعها، فأمدَ يدي إليك، قبل أن ترن. ص 19” هل هي مبالغات الشعراء أو الكتاب في فراديس العشق أم أنها واقع؟ إن الإجابة باختصار: حدس المحبّ. حيث يكون للعشق طقوس وحدوس. ويتخفّى المنطق وقوانينه، والسبب والمسبّب. يبقى فقط القلب بكل تجليات التيه في عشق طرفه الثاني. يصبح عشق المرأة هنا، شكلا من أشكال النبوة، وتجلّ من تجلياتها. فأن تعشق امرأة، بمثل هذه الأوصاف: “من المستحيل أن تكون في الطائرة من تنافسها على انتمائها إلى ضوء الحياة-ص 19″، فإما أن تصير بحدس النبي، أو بعقل المجنون، فاختر أو لا تختر.
هذا الموقف الإيجابي من المرأة. بوصفها باعثة للحياة، أو هي الحياة القادرة على أن تبعث الروح في الجماد، وأن تجعل للإنسان جناحين من نور إذ “لستُ أدري كم كان عدد تلك الجملة، في قائمة جملها المحرّضة على التحليق-ص 20) هو ما يجعل صاحبه ينخرط في رهان من هاتف تعود رنتها ليقول: ” اطلبْ مثلا إذا ربحتَ الرهان ألا آكل حتى أموت، أو آكل ما يجعلني أموت فورًا.. وجدتها.. ما رأيك في ألا أخرج من البيت إلا إلى المقبرة؟” فما جدوى حياة هذا الزبير إن لم تتكلم سارة؟
امرأة مثل هذه، لابدّ أن يكيّف العالمَ بحسب طقوس مزاجها. فسعادتها سعادته، وميلان فلكها، يُميل فلك السعادة إلى الحزن أو التعاسة إلى حبور. هكذا فإنّ التواطؤ بين رجل يحب امرأته، حبيبته، معشوقته، مع صاحب مطعم ليجعل من لقائهمها فيه مجالا للمسامحة، لعدم المكابرة، لإنهاء جرح ما، وخصومة معينة، لذلك فإنّها تستحق أن ” أكيّف خدماتي وفقها: اللون المفضّل، الأكلة المفضّلة، الموسيقى، معطّر الحمّام، الفاكهة، الفنّان المفضّل-ص 26″.
تحمل هذه النظرة للمرأة، جانبا في غاية الأهمية. إنها ليست نظرة مساواة بين الرجل والمرأة. ولكنها نظرة إليها باعتبارها واهبة للحياة ومانحة للوجود. وأصل لهما. إنها نظرة تنسلّ من عباءة الرجل الشرقي الذي تعوّد في أدبياته على “منطق الحريم” ليصرخ أنها الأوّل والأصل.فإذا كان الواقع المعيش سلبيا، في مختلف تجلياته، فإنّ المرأة، وحدها القادرة على تعديل الاتجاه نحو أمن الروح ووهجها. لأنّ وجودها هو الحياة نفسها وغيابها قمين بأن يجعلها على هذه الشاكلة حيث : “احتضن الزجاجة الفارغة، وغرق في بكاء أسود: سارة.. كنتُ أعلم أنك هنا.-ص 32)
وإذا كانت المرأة الحبيبة، تُفهم للوهلة الأولى على صورة واحدة هي التي تجمعها بالرجل حالة عشق كأي رجل وامرأة أو ذكر و أنثى. فإنّ امرأة حبيبة أخرى في “كفن للموت” يتم إظهارها بجلاء: إنها الأم. يُلخّص القاص العلاقة بين الابن وأمه بإيجاز يغني عن كثير من الكلام: “صادف أن كانت آخر جملة كتبها في القصّة، قبل أن يفاجئه الزلزال، ويُرْعِدَ مفاصل العمارة: “أين أنتِ يا أمّي؟”، وظلّ يردّدها حتى بعد أن هدأت الهزّة.” هل يمكن اعتبار كلمة “الأم” ملجأ للطفل صغيرا وللطفل بعد أن كبر؟ حتى صار التشبث بها وقت الخوف والخطر يملأ القلب بالسكينة والراحة؟
يكون الهروب بهلع بعد لحظة الزلزال، لا إلى مناطق الأحياء، وما حدث لهم بعد وقوع الهزة. ولكن، إلى قبر الأم. ليس هروبا من حياة، إلى الموت. بل استعادة لحياة أعطتها له هذه التي تسكن القبر، حية في قلبه ولو تحت تراب. يمكن أن نعقل بهذا الحب، الرائع، هذا التورط في محبة الأم. كيف للابن ألاّ يحرص على عدم الارتماء على القبر. فهو إذ يزوره. لا يزور إلاّ حياة رائعة، وروضة أعطته كما لم يعطه أحد. إنه يقفز إليها، ليخبرها، ليحكي، ليسلم روحه وقلبه ودموعه لها. لأنها لا تزال حية. خارج منطق المادة وموت المادة. عندها: “وُلدتْ أمّه من قلبه: ألم أقل لك إنني سأكون عندك بمجرّد أن تناديني؟-ص 41”.
يظهر أنّ العاشق، الذي يسعى إلى أن يفعل كل ما يمكن وما لا يمكن لإرضاء المرأة الحبيبة، ينقلب طفلا من جديد. طفلا في البدايات ما إن تستعيد صورة أمه وجودها –الذي لا يذهب أصلا- أمامه. وهو السبب المباشر الذي يجعله، يجعل هذا الطفل الذي لا يكبر، يهمس بما يشبه العجز: “تعلمين أين أريد أن أكون بعد رحيلك يا أمّي، طبعًا.. إلى جوارك في مقبرة “العَمْري”، أين سيغفو جرحي ويندمل إلى الأبد-ص 72”
يتمازج في القلب الواحد، حب المرأة بوصفها حبيبة، معشوقة، ترتفع بمقام الرجل إلى النبوة. وحب المرأة الأم، الذي يرتدّ به إلى الطفل الذي كان عليه قبل سنوات وسنوات. وسواء كان الرجل نبيا، أو طفلا، فإنّ الجامع بينهما هو الحب الذي يوقن أنه السبيل للخلاص. خلاص البشرية، بل خلاص النفس قبلها وبعدها. والمرأة بهذا التوصيف. ملاذ آمن. وأصل للجمال والمحبة وملجأ من كل كرب. هي البياض في زمن السواد. وهي اختلافات الطيف الواهب للنور، الملغي لكل الظلمات والظلامات.
كفن للموت، في الواقع، جرعة جديدة لبوكبة في شرايين الحياة. وإغداق للحب والجمال. وبوح للمرأة وعنها. و”عبد الرزاق” عندما سماها “حشرجات قصصية” فإنه استعاض بهذه العبارة عن عبارة أخرى أكثر واقعية قد تعني الحياة في أسمى تجلياتها. ذلك أنّ الحشرجة أحيانا، قد تكون اختصارا للحياة بل هي الحياة.
*كاتب جزائري.