الحسن المرغدي
يقدم ريكور في سعيه إلى مساءلة الوضع الإنساني صورة عن الإنسان المتكلم والفاعل والمعذب والباحث عن معنى لحياته ومصيره، وهذا الإنسان لا يتعرف على ذاته إلا من خلال العملية التأويلية التي تقوم بدور الوسيط بين الذات وذاتها، وفي إطار اللعبة الجدلية بين أنماط الفعل التأويلي المتباينة، التي يسميها ريكور بصراع التأويلات.
إنّ هذا الفيلسوف، وإن كان يرفض كل فلسفة متحررة من الافتراضات المسبقة لأنّ أية فلسفة جديدة تعبر عن نفسها جزئياً بلسان فلسفة سابقة، ولم يؤسس لنسق فلسفي معين، لكنه رغم ذلك وضع إزاء الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود” كوجيتو آخر، وهو الكوجيتو المجروح والمناضل من أجل جرحه النرجسي، كوجيتو يقول إنه لم يعد الإنسان سيد فعله وسيد نفسه، وهذا الأمر فيه إشارة واضحة إلى فرويد الذي أحدث ثورة باكتشافه لللّاشعور، وهذا الأمر سنحاول ما أمكن الوقوف عليه في ثنايا هذا المحور، ومن هنا فإنّ مقاربة ريكور للاشعور فرويد ستكون، من وجهة فلسفية ونفسية، دقيقة وفي غاية التعقيد.
ماركس، نتشه، فرويد:[1]
في البداية يركز بول ريكور على أنّ الفيلسوف المعاصر يجد نفسه أمام أعلام ثلاثة وأهرام شامخة، وهم ماركس ونتشه وفرويد، ويصف هؤلاء بأنهم روّاد الشك والريبة وثاقبو الأقنعة. هكذا يؤكد ريكور أنّ عمل فرويد يوازي كلاً من ماركس ونتشه، وهذان يلتقيان في محاولة النفاذ إلى الوعي المزيف أو الوهم، وذلك بالرغم من الأحكام المسبقة والمصادرة على المطلوب الذي تمّ حجز هؤلاء في ثناياه، حيث تمّ نفي ماركس إلى الاقتصاد الماركسي، وإلى نظرية الوعي المنعكس. أمّا نتشه، فقد تمّ جلبه إلى جانب النزعة الإحيائية إن لم يكن الدفاع عن العنف، في حين تمّ حصر فرويد في طبّ الأمراض العقلية.
إنّ هؤلاء الثلاثة الذين وصفهم ريكور بصفة عظماء الهدم[2]، والهدم هنا بمعناه الهيدغري الذي يفيد لحظة من لحظات تأسيس جديد، أو بمعنى السلب الهيغلي الذي يفيد التجاوز والاحتواء في الوقت نفسه. هؤلاء الثلاثة هاجموا الوعي، وهْم وعي الذات الذي سقط فيه ديكارت، بمعنى أنّ هذا الأخير وضع الأشياء موضع شك، لأنها ليست كما تبدو عليه، لكن هذا الأمر لم يدفعه إلى التشكيك بأنّ الوعي ليس كما هو لما يبدو لذاته، إذ فيه يلتقي المعنى والوعي بالمعنى. لكن مع رواد الهدم صرنا نشك في ذلك، فبعد الشك في الشيء دخلنا إلى الشك في الوعي، هكذا اجترح هؤلاء الثلاثة حسب ريكور طريقاً خاصاً في التأويل، فإن كان ديكارت انتصر بالشك على الشيء عن طريق ملكة وبدهية الوعي، فإنّ هؤلاء انتصروا بالشك على الوعي عن طريق تفسير المعنى. هكذا لم يعد البحث عن المعنى يتجسد في تفكيك التعابير، لأنّ العلاقة الأساسية للوعي هي علاقة قائمة على ازدواجية: الخفية / الظاهرة، المحجوبة / المتجلية.[3] وما هو جوهري لدى هؤلاء حسب ريكور أنهم أبدعوا وفق ما يمتلكونه من أدوات قصد تفكيك المعنى، ومنه فإنّ ما يميزهم “هو اعتماد منهج التفكيك والتأويل والتمثيل”.[4]
إنّ تأويلات هؤلاء الثلاثة هي من أجل الإنسان المعاصر، لكننا حسب ريكور ما زلنا بعيدين عن تمثيل اكتشافاتهم، وعن فهمنا لأنفسنا تماماً عن طريق التأويل الذي يقدمونه لنا عن أنفسنا، وهكذا فتأويلاتهم ما زالت تسبح بعيداً عنا، ولم نجد بعد لها مكانها الدقيق.[5]
إنّ عدم اكتمال التأويل وقابليته الدائمة للفحص وكونه يظل دوماً تأويلاً معلقاً كلّ هذا نجده بصفة مماثلة عند هؤلاء الثلاثة، وذلك في صورة رفض للبداية حسب ميشيل فوكو. فماركس يرفض الحديث عن حياة حي بن يقظان، ونتشه كان يعطي أهمية شديدة للتمييز بين البداية والأصل والفصل بينهما، أمّا فرويد فقد كان يلحّ على الصيغة اللامكتملة للطريقة التراجعية التحليلية.[6]
إنّ هذه النماذج تتعامل مع الرموز بوصفها حقيقة زائفة لا يجب الوثوق بها، بل يجب إزالتها وصولاً إلى المعنى الحقيقي المختبئ وراءها، فالرموز في هذه الحالة لا تكشف عن المعنى، بل تخفيه وتطرح معنى زائفاً، ومهمة التفسير هنا هي إزالة المعنى الزائف وصولاً إلى المعنى الباطني الصحيح، وكأنّ التأويل هنا يقوم بوظيفة حلّ الشفرة، أي شفرة المعنى الباطني من المعنى الظاهري حسب ريكور.
هكذا إذن فالقضية التي يثيرها، هؤلاء والتي برزت معهم بشدة، هي قضية الوعي واللاوعي، وذلك كمحاولة منهم لرد الاعتبار للجانب اللامفكر فيه، واعتباره هو الآخر له أهمية بمقدار ما للوعي من أهمية. وعلى العموم فإنّ القضية التي يثيرها هؤلاء هي قضية الوعي واللاوعي، وهو ما سنراه في النقطة الموالية.
الوعي وعدم الوعي[7]
القضية التي برزت مع كلٍّ من نتشه وماركس وفرويد هي قضية كذب الوعي، والوعي بوصفه كذباً، وهذه القضية؛ أي قضية الوعي ليست بالقضية الجديدة بل هي القديم المتجدد، فهي الحقل الأساس للظاهراتية لأنه يطرح مشاكل جمة أهمها مسألة الحكم والحكم المسبق للوعي، وهي مسألة ظلت شاهدة في تاريخ الفلسفة، وتتجلى بوضوح في “لغز الخطأ والرأي المغلوط”[8] منذ بارمينيدس.
الفيلسوف حسب ريكور يصنف إلى جانب علماء النفس حينما يدعي بأنه يعرف نفسه بنفسه[9]، وهي المسألة التي تطرح لنا قضية اللاوعي، وقد تبنت الفينومينولوجيا هذا الأمر من خلال طرحها لسؤال جوهري وهو: كيف يجب علينا أن نعيد التفكير في مفهوم الوعي وإعادة تأسيسه، وذلك بشكل يستطيع معه اللاوعي أن يكون آخره؟
إنّ هذه القضية – أي قضية الوعي وعدم الوعي- أفرزت لنا ثلاث قضايا:[10]
ـ القضية الأولى: تنبني على مسألة كيفية إعادة التفكير في مفهوم الوعي وإعادة تأسيسه من جديد بشكل يجعلنا معه قادرين على إدراك اللاوعي.
ـ القضية الثانية: وتثير مدى نجاعة النقد ـ بمعناه الكانطي ـ في اكتشاف اللاوعي، وهذا النقد لا يقودنا بالضرورة إلى التمييز أو الفصل بين المنهج والنظرية، لأنّ النظرية هي التي تجعل الموضوع نفسه ممكناً، ومنه النظرية هنا بوصفها منهجاً.
ـ القضية الثالثة: وتدور حول مدى إمكانية قيام إنتروبولوجيا فلسفية قادرة على النهوض بجدلية الوعي واللاوعي في منأى عن نقد نماذج الوعي. كلّ هذه القضايا تثير لنا مسألة أزمة الوعي.
أزمة مفهوم الوعي:
يركز ريكور قوله في هذه النقطة على أمرين أساسيين:[11]
1- يوجد يقين للوعي المباشر
2- يحيل كل فكر إلى غير مفكر فيه.
ويسمّي ريكور هذين الأمرين بالشدة الفينومينولوجية أمام القضية التي يطرحها اللاوعي.[12]
في النقطة الأولى نلمس مسّاً ديكارتياً كان يستعمل مفهوم اليقين بمعناه الرياضي، لكنّ هذا اليقين حسب ريكور غالبٌ من حيث هو يقين، وشكٌ من حيث هو حقيقة. إنّ المعرفة لهذا المقترح تتطلب البحث عنها والعثور عليها، يقول: “إنّ ملائمة الذات لذاتها والتي يمكن أن نسميها وعي الذات لا تكون في البداية بل في النهاية”، وفي هذه النقطة يستحضر لنا ريكور هيغل صاحب فكرة المعرفة المطلقة كحد نهائي للوعي، والنهاية هنا حسب ريكور ليست هي الوضع البدئي للوعي لدرجة جعل من هذا الأمر موضوعاً لفلسفة الوعي بدل فلسفة العقل، وهو بهذا الأمر يسعى لتقويض فلسفة الوعي، مؤكداً أنّ مثالية الوعي الفردي غير ممكنة، مستحضراً النقد الذي وجّهه هيغل لهذا الأخير، وهو نقد يوازي إلى حد بعيد نقد فرويد للوعي الفردي، وهكذا فما يروم ريكور التأكيد عليه في هذه النقطة أنّ وجود فلسفة للوعي أمر غير ممكن.[13]
في النقطة الثانية والتي عنونها بأنّ كل فعل تفكير يحيل إلى اللامفكر فيه لييسّر فهمها، استحضر لنا ريكور هوسرل الذي انتقد بدوره الوعي المفكر، ونجد أنّ هوسرل أدخل مفهوماً سيثير العديد من الردود وهو الاستبطان، هكذا يقرّ ريكور كحكم أولي بأنّ فلسفة هوسرل تبقى في دائرة التلازم بين فعل التفكير نفسه والتمثيل الملازم لهذا الفعل، وأنها لا تستطيع أن تذهب حتى النهاية وذلك لفشل الوعي. [14]
إنّ غير المفكر فيه يحيل إلى عدم الوعي في المنهج الظاهراتي، وبالتالي فهو يسعى لأن تكون له القدرة على أن يصير وعياً، لكنّ هذا الوعي الاستبطاني الذي أقرّه هوسرل يعلن ريكور فشله، وكذلك الأمر بالنسبة لفرويد أيضاً. يقول ريكور: “إنّ الوعي ليفهم يجب عليه أن يتخلى عن كل بخل إزاء نفسه”.[15] والبخل هنا هو العلاقة النرجسية لوعي الحياة المباشرة، من هنا يصير اليقين المباشر للذات مجرد ادعاء، مما يجعل الوعي بمعنى أو بآخر هو مقاومة ضد الحقيقة.
مقاومة ضد الحقيقة[16]
الوعي حسب التحليل النفسي يقاوم فهم نفسه. وليجسد لنا فرويد هذا الأمر حسب ريكور، فإنه يستحضر لنا أسطورة أوديب الذي قاوم ضد الحقيقة التي يعرفها كل الآخرين، من هنا يقرّ ريكور بأنّ معرفة النفس هي المأساة الحقيقية، لكنها مأساة من الدرجة الثانية مقارنة مع مأساة الوعي، لأنها تضاعف مأساة البدء، مأساة الكينونة.[17]
وفي هذا الصدد، يستحضر لنا ريكور حديث فرويد عن المقاومة ضد الحقيقة في نص لهذا الأخير “صعوبة التحليل النفسي”، والذي يقول فيه: “إنّ التحليل النفسي هو آخر الإهانات الشنيعة التي تكابدها النرجسية، وحبّ الإنسان لذاته نتيجة الاستقصاء العلمي حتى الآن”.[18] التحليل النفسي إذن هو آخر الصدمات التي تلقاها الوعي الفردي المنحبس عن الذات، لكن هناك إهانات وصدمات أخرى يسردها ريكور ويعطي لكل واحدة عنواناً خاصاً بها، ويسميها إهانات الإنسانية الكبرى:[19]
ـ الإهانة الكونية: وهي الإهانة التي عاقبه بها كوبونيك، وذلك بهدم الوهم النرجسي والذي تبعاً له صار مكان الإنسان ثابتاً بين الأشياء.
ـ الإهانة البيولوجية: وذلك عندما وضع داروين نهاية الاعتقاد لادعاء الإنسان بأنه مقطوع عن مملكة الحيوان.
ـ الإهانة النفسانية: وبموجبها إذا كان الإنسان الذي يعلم من قبل أنه ليس سيداً للكون ولا سيداً على الأحياء، فقد اكتشف مع فرويد أنه ليس سيداً حتى على نفسه.
والمهان هنا حسب ريكور ليس هو الوعي بل ادعاء الوعي، لأنّ الوعي قد انزاح عن تمركزه حول ذاته وفكّ انتقاله المسبق، لذلك نقله كوبونيك نحو الكون الواسع، ونقله داروين نحو العبقرية المتحركة للحياة، ونقله فرويد نحو الأعماق المظلمة للنفس الإنسانية.[20]
التحليل النفسي وحركة الثقافة المعاصرة
يؤكد ريكور على أنّ مكانة التحليل النفسي في حركة الثقافة المعاصرة تتطلب مقاربة مزدوجة:[21]
ـ محدودة: بمعنى فتح المجال للمناقشة والتحقيق.
ـ كاشفة: بمعنى تعطي فكرة عن سعة الظاهرة الثقافية التي يمثلها التحليل النفسي بيننا.
هكذا إذن يتسجل التحليل النفسي باعتباره تأويلاً للثقافة في حركة الثقافة المعاصرة، ذلك لأنّ التأويل الذي تعطيه عن الإنسان يصب بشكل مباشر وأساسي في مجمل الثقافة، لدرجة يصير معها التأويل لحظة من لحظات الثقافة، ومنه فما دامت تؤول العالم فإنها تغيره حسب ريكور، من هنا يؤكد هذا الأخير على أنّ التحليل النفسي يهدم كل الحواجز التقليدية ويطبق في نماذج مختلفة، هذا ما جعله تأويلاً محدوداً وكاشفاً في الوقت نفسه، بمعنى:[22]
ـ كليّ: ينطبق على كل الإنسانية.
ـ محدود: أي لا يمتد إلى أبعد من نموذجه.
تجدر الإشارة إلى أنّ فرويد من جهة أخرى لا يزعم أنه سيقدم تفسيراً شاملاً، لكنه يسعى ما أمكن لإعطاء تفسير بواسطة اقتصاد الغرائز “إنني لا أستطيع أن أتكلم عن كل شيء في الوقت ذاته، وإنّ مساهمتي لتعد متواضعة وجزئية ومحدودة”[23]، لكن هذا الاعتراف حسب ريكور لا يلغي أنّ هذا التأويل مفتوح على شمولية الظاهرة الإنسانية من جهة الثقافة، ونقصد بهذا كل تلك الرموز والأساطير التي قام فرويد بتحليلها والتي تفسر تاريخ ثقافة الإنسان، وهنا يستحضر مجموعة من الرموز والأساطير من قبيل أوديب والطوطم… وهذه الأمور سنراها بالتفصيل في ما بعد.
وضع تأويلية فرويد
التأويل الفرويدي حسب ريكور يلامس الجوهري، فهو لا يرسم حدوداً للثقافة. هذه اللامحدودية هي التي تجعل مواجهته صعبة، ففرويد لم يطرح قضية حدود تأويلاته، لأنه قَبل بوجود غرائز أخرى غير تلك التي يدرسها، لذلك نجده حسب ريكور يتحدث عن العمل والتضامن والرابط الاجتماعي والواقع والضرورة. لكن بالرغم من كل هذا فإنّ فرويد لم يدع مجالاً للمرء لكي يرى كيف يرتبط التحليل النفسي مع علوم أخرى أو تأويلات أخرى، هذا التحيز الشديد يثير فينا حيرة شديدة كما يقول ريكور.[24]
المرمى الأساسي إذن لكل تفسيرات وتأويلات فرويد هو محاولة “إزالة القناع عن الوعي الزائف”[25]، باعتبار أنّ التحليل النفسي كمنهج مطبق على السلوك الإنساني في مجموعه وكليّته.
ومن أبرز تأويلات فرويد في الجانب الثقافي نجد تفسيره وتأويله لمسرحية أوديب ملكاً لسوفلكس المؤلف التراجيدي الشهير. فأوديب قتل أباه من دون قصد وتزوّج أمه من دون علم، هذا ما تقوله المسرحية، وفرويد يرى أنّ الرمز هنا هو رغبة أوديب في التخلص من والده الممثل للسلطة ولمنع إشباع الرغبة، في حين أنّ العودة إلى كنف الأم يمثل الخير الأعظم، ولكنه الخير المحظور، هكذا إذن أوديب يشبع هذه الرغبة التي تشكل النواة الأقسى في كل النفس البشرية، وتعتبر هذه العقدة هي مدار التحليل الفرويدي.[26]
ريكور يقترح تفسيراً آخر حول هذه العقدة وهو تفسير غائي نوعاً ما، إذ أنّه يرى في أوديب ليس رمز الرغبة الأصلية، بل رمز توق الإنسان إلى المعرفة، وبالتالي شوقه المستمر إلى الحقيقة، وأوديب يدفع ثمن المعرفة الحقيقية، هكذا إذن اللاحقيقة والجهل يقودان إلى مأساة أوديب حين ينتهي به الأمر إلى أن يشوه نفسه، بأن يفقأ عينيه على إثر ارتكاب المحظور، لينتهي به المطاف بأن يشعر بالذنب ليحاول ما أمكن معاقبة الذات كتكفير لما جنت يداه، وهذا الأمر سنراه في ما بعد.
ومن أبرز التفسيرات في الجانب الثقافي لدى فرويد نجد تأويلاته حول نظرية الوهم، والسؤال الذي ينطلق منه فرويد حسب ريكور هو السؤال حول إله البشر ووظيفته الاقتصادية في ميزان التخليات عن الغرائز الجنسية[27]، من هنا يقر فرويد حسب ريكور بأنّ مفتاح الوهم يمثل قساوة الحياة [28] من هنا تصير مهمة الثقافة ليس فقط اختزال رغبة الإنسان، بل تسعى إلى الدفاع عن الإنسان ضد تفوق الطبيعة الساحق، ويمثل الوهم هنا النموذج الذي تستخدمه الثقافة، لذلك يرى فرويد أنّ الإنسان يصنع الوهم بخلقه للآلهة قصد إبعاد الخوف والشرور وقساوة الطبيعة، وينظر إليها على أنها ممسكة بالواقع، وبمقدورها أن تحقق هذا الأمر. ويرى ريكور أنّ الدين الذي يصنعه الإنسان لا يرضيه إلا بتوسط التأكيدات الثابتة بمصطلحات البرهان والملاحظة العقلانية، ومنه يجب على المرء أن يسأل عن أصل هذه النواة التمثيلية للوهم.[29]
دراسة فرويد للوهم ترتكز على ما يُسمى بالنواة التاريخية التي تشكل أصل الدين، من هنا يستحضر ريكور قولة إبيقور التي تقول: “إنّ الخوف هو الذي صنع الآلهة”.[30] وهذا يدل دلالة واضحة على الرجوع للأصل التاريخي للوهم، ومنه فالتركيز على هذا الجانب يروم في الحقيقة الوقوف على بداية التوحيد وتغذية المكبوت الديني، وليفسر لنا ريكور هذا الأمر استحضر لنا فرويد من خلال كتابه: “الطوطم والمحرم”، وفيه تطرّق إلى أسطورة الطوطم، ومدار هذه الأسطورة أنّ الإنسان كان يعيش عشائر صغيرة، وكل عشيرة يحكمها ذكر شديد يستأثر بكل النساء لنفسه ويقتل كل الأبناء المتمردين مما يدفع الأبناء إلى التحالف ضده، فيقتلونه ويلتهمونه للتماهي معه، هكذا إذن تخلف الجماعة الطوطمية للإخوة عشيرة الأب، ولكي لا يهلك الإخوة أنفسهم في صراعات يقبلون على نوع من العقد الاجتماعي، وينشؤون محظور ارتكاب المحارم، ويضعون ضوابط للزواج، وبشعورهم بالتناقض الوجداني يعيدون إنشاء صورة الأب على شكل بديل لحيوان محظور، وحينئذ تأخذ الطوطمية معنى التكرار الاحتفالي لقتل الأب.[31]
وكتفسير يقدمه ريكور لهذا الرمز من الرموز يؤكد أنه يجسد مدى احتفاظ الجمهور بانطباعات الماضي على شكل آثار تسمح بالتذكر اللاواعي، وهذه الآثار هي بمثابة صدمات كبرى للإنسانية والتي تفرزها عودة المكبوت، من هنا فإنّ الدين هو بمثابة العصاب الاستحواذي الشامل للإنسانية، والذي بمقتضاه التزمت البشرية في عصر من عصورها بالتخلي عن الغريزة الجنسية، أو كما يسميه فرويد محاولة نسيان المكبوت، ومن هنا ابتدأت الثقافة، أي أنها ابتدأت مع منع الرغبات القديمة ومنع ارتكاب المحارم وأكل لحوم الناس والقتل، ومع ذلك فهذا القسر حسب ريكور لا يشكل الكل الثقافي.
إنّ الطوطمية كرمز من الرموز لتفسير أصل الوهم أعقبه التوحيد اليهودي في تاريخ عودة المكبوت، وذلك بالانطباق مع شخصية موسى البديل السامي للأب، وقد تجسد هذا الأمر أيضاً مع المسيحية حسب ريكور من خلال قتل المسيح، وهذا أفرز لنا ما يُسمى بالخطيئة الأصلية التي ينظر إليها على أنها جنحة وجريمة ارتكبت في حق الله، وأنّ الموت هو وحده الذي يستطيع أن يكفر عنها.[32]
وبعودتنا إلى قضية الوهم في معناه الديني نجد فرويد يؤكد على أنه “يجب أن يموت الدين كي يولد الإيمان، وذلك إذا كان الإيمان يجب أن يكون شيئاً آخر غير الدين”[33] والسر في هذه التفرقة حسب ريكور أنّ فرويد تنويري، وعقلانيته وعدم إيمانه ليس ثمرة لتأويل الوهم الديني الذي يريده أن يكون شاملاً، وكأننا نلمس نوعاً من الدفاع عن فرويد في هذه النقطة، لكن ريكور لم يلبث أن انقلب عليه، وأكد أنّ التحليل النفسي ليس بمقدوره دوماً النفاذ إلى قضايا الأصل الجذري، وذلك لأنّ وجهة نظره هي اقتصادية.[34]
هذه الوجهة الأخيرة هي المهيمنة على كل التأويلات الفرويدية ويتجسد لنا هذا الأمر حسب ريكور من خلال كتاب فرويد أزمة في الحضارة الذي ينتشر فيه هذا التأويل على زمنين:[35]
ـ كل ما يمكن قوله من غير اللجوء إلى غريزة الموت
ـ كل ما يمكن قوله من غير أن يجعل هذه الغريزة تتدخل
وفي هذه النقطة يفتحنا فرويد على ما هو مأساوي في الثقافة، وذلك باستحضار مفهوم الشبق الغريزي العام، يقول: “إنّ الأهداف التي يتابعها الفرد وتلك التي تحييها الثقافة تبدو بوصفها صوراً منسجمة حيناً ومتنافرة حيناً آخر، وذلك بالنسبة إلى غريزة الشبق نفسها”.[36] والشبق هو الذي يصنع الرابط الداخلي للجماعات، وهو الذي يحمل الفرد على البحث عن اللذة والهروب من الألم:[37]
ـ ألم العالم
ـ ألم الجسد
ـ ألم البشر الآخرين
من هنا فإنّ فرويد يشبّه بنية التطور الثقافي مثل نمو الفرد من الطفولة إلى الرشد، من جهة أخرى يقيم فرويد مقارنة بين الشبق والضرورة لتحديد أيهما الأبرز والأجدر في توحيد اللحمة المجتمعية، لذلك نجده يؤكد على دور الحب أكثر من العمل والضرورة، والسبب في ذلك أنّ ضرورة الاتحاد من أجل العمل قصد استغلال الطبيعة أمر يسير وقليل مقارنة مع الشبق الذي يوحد الأفراد في جسم اجتماعي واحد، من هنا يؤكد على أنّ غريزة الحب هي التي توحد البشر في مجموعات تكون على الدوام أكثر سعة، لكن هذا الأمر ما كان ليحدث من دون أزمة في الحضارة، لأنه سينشأ عن الشبق توترات معينة بين الأفراد والمجتمع، والسر في هذه التوترات حسب ريكور أنّ الشبق يقاوم بكل قوته الجمودية المهمة التي تفرضها عليه الثقافة، التي تتجلى في التخلي عن مواقفه السابقة.
يرى ريكور أنّ من بين أسباب إخفاق الإنسان في تحقيق السعادة هو الشبق الذي يؤثر على علاقة الإنسان بالإنسان، بمعنى آخر إنّ غريزة الموت والعداء الأولي للإنسان ضد الإنسان هو سبب الفشل في تحقيق السعادة. إنّ غريزة الموت حسب فرويد تظل صامتة في الكائن الحي ولا تصبح ظاهرة إلا في تعبيرها الاجتماعي في العدوانية والتدمير[38]، إنّ غريزة الموت تمثل استدلالاً لا مفر منه وتجربة لا يمكن تغييبها ولا نستطيع الإمساك بها على الإطلاق إلا في غريزة الحب، هذه الغريزة حسب ريكور تتخذ من السادية شكلاً، وذلك من خلال عملية الإشباع المازوشي، وهكذا يتمّ الصراع بين الغريزتين، وتتجسّد بقوة على مستوى الثقافة، إنّه هو المضمون الجوهري للحياة، إنّه معركة الجنس الإنساني من أجل الحياة بين العمالقة. مع دخول غريزة الموت اتخذ تأويل الثقافة منحى آخر، أي مع دخول الإحساس والشعور بالذنب بوصفه القضية الرئيسة لتطور الحضارة.[39]
الشعور بالذنب هو الأداة التي تستخدمها الحضارة لكي تجعل العدوانية تهوي في الفشل[40]، هكذا يغدو الشعور بالذنب تعبيراً عن صراع التعارض للنضال الخالد بين غريزتي الحب والموت، وقد برز هذا الصراع منذ وهلة العيش المشترك التي جسّدها فرويد في عقدة أوديب، أو الشعور بالذنب، وتحمل عناء الخطيئة الأصلية.
مراجع معتمدة:
– بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، ترجمة منذر عياش، مراجعة جورج زيناتي، ط 1، طرابلس، 2005
– ميشيل فوكو، جينالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي، دار تبقال للنشر، ط 2، 2008
[1]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، ترجمة منذر عياش، مراجعة جورج زيناتي ط 1 طرابلس 2005 ص 191 [2]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 192 [3]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 192 [4]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 192 [5]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 194 [6]ـ ميشيل فوكو، جينالوجيا المعرفة، ترجمة احمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي، دار تبقال للنشر، ط 2، 2008، ص 49 [7]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 137 [8]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 137 [9]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 138 [10]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 138 [11]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 139 [12]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 139 [13]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 139-140 [14]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص140-141 [15]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص141 [16]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 194 [17]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 195 [18]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 195 [19]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 195 [20]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 196 [21]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 160 [22]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 161 [23]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 162 [24]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 184 [25]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 185 [26]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 154-156 بتصرف [27]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 172 [28]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 172 [29]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 172 [30]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 171 [31]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 174 بتصرف [32]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 178 [33]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 187 [34]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 188 [35]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 165 [36]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 165 [37]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 166 [38]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 168 [39]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 169 [40]ـ بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمونيطيقية، المصدر نفسه ص 169