الرئيسية | أدب وفن | المَهاجر العربية في الغرب: من الأفراد إلى الجموع | أمجد ناصر

المَهاجر العربية في الغرب: من الأفراد إلى الجموع | أمجد ناصر

أمجد ناصر

في الخامس والعشرين من حزيران/يونيو عام 1895 أبحرت السفينة التي استقلَّتها السيدة كاملة رحمة، وأطفالها الأربعة، من بيروت متجهةً إلى مدينة بوسطن الأميركية لتكون بعيدة، وأطفالها، عن زوجها السكّير الفظ. كان هذا النوع من السفر معهوداً تلك الأيام. فمن بلدان الشام راحت تتوافد أعداد غفيرة من المهاجرين إلى الأميركتين. الأسباب، معظمها، اقتصادي. القليل منها سياسي أو فكري. لم يكن غريباً، والحال، أن تكون السيدة كاملة رحمة قد سافرت من قبل إلى البرازيل وعادت إلى لبنان بطفل من طليقها هناك. بين أطفال السيدة اللبنانية، التي عرفت “الاغتراب” من قبل، ولد يُدعى جبران. من الصعب تخيِّل مشاغل تتعدى العيش الصرف تشغل بال هذه الأسرة اللبنانية – السورية التي كانت تحمل وثائق عثمانية. لكن هذا ما كانت عليه الأسرة الفقيرة، لحظتها، وليس ما ستكون عليه بعد بضع سنين.. أو بالأحرى ما سيصيره الولد الثاني للعائلة المدعو جبران. فهكذا كانت أحوال مئات، إن لم يكن آلاف العائلات المشرقية التي وجدت في الهجرة، إلى “العالم الجديد”، باباً للرزق، في أواخر أيام “رجل أوروبا المريض”.

 

“النبي الصغير”

لم يمض وقت طويل على وجود السيدة كاملة في بوسطن حتى دخل ابنها جبران الحياة الثقافية لبلد اللجوء من خلال صالون ثقافي لمصور وناشر أميركي يُدعى فريد هولند داي. لم ترتح والدة جبران لتلك العلاقة. رجل كبير في السن. استديو. هوس بالشرق. وشاب صغير طريّ العود، على وجهه مسحة من نداء بعيد. كانت تريد أن يسهم ابنها في عيش الأسرة بدل التردّد على صالون مصور أميركي غريب الأطوار، يرتدي عمامة ويدخن النرجيلة، ويقرأ على ضوء الشموع. هولند داي، بحسب معظم مؤرخي حياة جبران، هو الذي عرَّف الأخير بالشعر الأوروبي وبالرمزية والرومانسية في الفن التشكيلي الغربي.. وهو الذي أطلق عليه لقب “النبي الصغير”. أي هو الذي “أطَّر” صورة الصبي اللبناني الذي سيُعرف في الغرب، مذ ذاك، باسم: خليل جبران.

هذه المقالة ليست عن جبران، بل عن الهجرة. فقد عرفنا الأثر الذي تركه جبران خليل جبران ورفاقه في “الرابطة القلمية” النيويوركية: ميخائيل نعيمة، أمين الريحاني، إيليا أبي ماضي، نسيب عريضة وعبد المسيح حداد (صاحب ورئيس تحرير جريدة “السائح” النيويوركية)، على الحياة الأدبية العربية في الأوطان. إنهم أحد أهم مصادر تحديث الأدب العربي، خصوصاً الشعر، في النصف الأول من القرن العشرين. من هجرة معيشية صرفة قام بها هؤلاء، أو قامت بها عائلاتهم، سطع نجم التجديد في الأدب العربي الذي لم يطرأ عليه جديد طيلة العهد العثماني الطويل.

 

مديح المنفى

نادراً ما تكون الهجرة عملاً جيداً بالنسبة للمجتمعات الأم، خصوصاً إن تركَّزت على ما نسميه “العقول” و”الكفاءات”: أي أولئك الذين أنفقت المجتمعات الأم مالاً وجهداً ووقتاً لكي يتكوّنوا في حقولهم، وعندما يجيء أوان إسهامهم في تطوّرها وتحسين وضعها، على غير صعيد، يتركون بلادهم، أو يتُرَّكون. لم تكن هجرة جبران ورفاقه في “الرابطة القلمية” مماثلة لما عرفه العالم العربي في العقود الثلاثة الماضية. الهجرة الثانية التي يمكن التأريخ لها ابتداءً بالحرب الأهلية في لبنان وما آلت إليه حرب الخليج الثانية، كانت هجرة عقول وكفاءات.. وبالأخص أقلام وطاقات فنية ونشطاء سياسيون. ورغم أنه لم توضع دراسات معمَّقة بصدد “الهجرة الثانية” التي ينتمي إليها كاتب هذه السطور، إلا أنني أزعم أنَّها ذات أثر بالغ على الثقافة العربية. فلا شيء شغل مثقفي ومثقفات “المهجر الثاني” أكثر من سؤال الحرية، يليه، أو يتضافر فيه، سؤال التجديد. فإذا كان “المهجر الأول” ضمَّ بضعة أسماء (عشرات الأسماء على أبعد تقدير)، فإن “المهجر الثاني” يضمُّ مئات الكتاب والشعراء والتشكيليين والسينمائيين العرب الموزعين على بلدان الغرب. وقد أسَّس هؤلاء الصحافة العربية المهاجرة، التي تكاد تكون الظاهرة الأهم في مشهد الصحافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. لا أعرف إن كان هناك مثيل لظاهرة “المهجر الثاني” بين جاليات الشعوب والأمم الأخرى التي لجأت إلى الغرب في تلك الفترة أم لا. قد يكون الإيرانيون، الذين فرّوا من حكم آيات الله، لهم وجود مشابه، غير أنه لا يبزَّ الظاهرة العربية، فهم ينتمون إلى بلد واحد، بينما ينتمي المهاجرون العرب، قسراً، إلى جامعة من البلدان.

ظاهرة ثقافية وإعلامية كهذه لا بدَّ أن تلعب دوراً في طرح أسئلة جديدة على ثقافتنا. وهذا ما أزعم أنه حصل. المفارقة أنَّ المهجر، أو المنفى، وهما يحيلان إلى حالة إنسانية سلبية، يساعدان، في الوقت نفسه، على إنتاج ما هو إيجابي، بل ما هو حداثي في حياة الأوطان، من ذلك الكتابة والتفكير والإنتاج الفني بعيداً عن الرقابة الرسمية والاجتماعية على السواء. وهذا ما عرفته، مثلاً، الثقافة الإسبانية، في عهد فرانكو، والثقافات الأميركية اللاتينية، والأفريقية، التي اضطر عدد كبير من مثقفيها للذهاب إلى المنفى الأوروبي. فالمهجر، أو المنفى، على سوئه وأزماته بالنسبة لمن يجدون أنفسهم مقذوفين فيه ومقطوعين، عن جذورهم، يطوّر ملكات وقدرات قد لا تكون مكتشفة، أو متبلورة في الوطن الأم، فضلاً عما يحدثه من “مثاقفة” مع آخر، هو في حالتنا هذه، أكثر تطوراً على المستوى العلمي والتكنولوجي.. بل والثقافي.

موجة جديدة

لكن كل الهجرات العربية السابقة في كفَّة وما نراه اليوم في كفَّة أخرى. نحن، الآن، أمام ظاهرة لجوء، هجرة (أم تهجير؟) عربية غير معهودة، من حيث حجمها ونوعية أناسها.  هجرة جموع لا هجرة أفراد، كما كان الحال من قبل. كانت الهجرة فردية، ربما عائلية، وغالباً ما تكون سرية، أو “احتيالية”، كأن يأتي شخص، أو عائلة، بفيزا زيارة إلى بلد أوروبي ثم يمزّق أوراقه الثبوتية في المطار ويطلب اللجوء! ثلاثة أرباع الذين قدموا طلبات لجوء في بريطانيا (المثال الذي أعرفه أكثر من غيره) أتوا بالطريقة التي وصفتها. ولأن بريطانيا جزيرة ولا تربطها حدود بدولة أخرى، فمن الصعب أن يتسلل إليها المهاجرون، كما يحدث اليوم في اليونان وصربيا والمجر والنمسا.. وصولاً إلى ألمانيا، أو بحراً من موانئ ليبيا التي لا أثر لحكومة فيها.

 الطريقة الوحيدة للوصول إلى بريطانيا هي المنافذ الرسمية. وهذا ما يجعل بلاد الملكة إليزبيث الثانية بعيدة، حتى الآن، عن أرهاط اللاجئين الذين رأيناهم يتدفقون عبر أراضي أوروبا الوسطى، قادمين من تركيا.

هناك تواتر في القول (وليس في الإحصاءات، للأسف) إن معظم هؤلاء الذين رأيناهم يفرّون بحياتهم أمام الكاميرا ينتمون إلى شرائح الطبقة الوسطى، وبينهم طاقات أكاديمية وإدارية وثقافية وفنية متبلورة في بلادها، وأخرى قد تتبلور في المهجر. ويمكن التدليل على “نوعية” اللاجئين السوريين، تحديداً، بما نشره موقع التلفزة الألمانية “دويتشه فيلا” بخصوص التقدّم السريع، بل المذهل، الذي أحرزه تلاميذ سوريون التحقوا بالمدارس الألمانية، رغم مرور وقت قصير على مجيئهم إلى ألمانيا. يورد التقرير حالات تفوّق في ملكات تبدو حكراً على التلاميذ الألمان، مثل القراءة والكتابة باللغة الألمانية، الأمر الذي سيساعدهم في الاندماج السريع في حياة البلاد العامة. وهذا بالضبط ما ترغب فيه حكومة ميركل المضيافة. فمن دون لغة لن تكون هناك علاقة مع أبناء البلد المضيف، ومن دون هذه العلاقة يصعب الاندماج.

هجرة أم لجوء؟

ظلت مفردة الهجرة قادرة على وصف ظاهرة رحيل أفراد إلى ديار غير ديارهم، مبارحينها تماماً، وعازمين على بدء حياة جديدة في مكان آخر. تغطي مفردة الهجرة هذا الفعل العربي الفردي على مدار قرن، تقريباً، من الخروج الذي في رأس أسبابه الرزق وتحسين شروط الحياة المعيشية. لكن مع الحروب العربية الإسرائيلية، ثم العربية العربية، ثم الأهلية والطائفية صار لهذا الفعل صيغة جماعية وتسمية أخرى: اللجوء. وهاتان مفردتان مختلفتان في العربية. فالهجرة تلحظ الترك والمغادرة النهائية، أو شبه النهائية، فيما اللجوء يحيل إلى المؤقت والطارئ. اللجوء مغادرة اضطرارية، لا خيار فيها، من المكان الأصل إلى مكان تكون فيه حياة اللاجئين في مأمن. لا بدّ أن صور اللاجئين الذين تدفقوا العام الماضي، في مشاهد ملحمية، هو الأكبر، والأغرب، لانتقال أعداد هائلة من البشر من منطقة إلى أخرى، أمام الكاميرا. هؤلاء ليسوا مهاجرين. لم يتركوا بلادهم لتحسين ظروف عيشهم في بلاد أكثر تطوراً اقتصادياً، بل دُفعوا (خصوصاً في الحالة السورية) إلى اللجوء خارجها. مرة إلى تركيا. مرة أخرى إلى اليونان، ومن هناك إلى غير بلد أوروبي غربي، وإن كان الهدف المفضل للاجئين هو ألمانيا، لما سمعوا عنها من “كرم” ضيافة، وباب مفتوح لاستقبال الهاربين من حروب بلادهم. هذا الشكل من “الهجرة”، أو اللجوء، أحدث تغييرات في المفردات والأوصاف التي كانت صالحة لمعالجة حالات اللجوء والهجرة السابقين. يوصف هذا اللجوء، في البلدان المضيفة، بأنه “مؤقت” ومحدد بظرف خاص هو الحرب في سورية (خصوصاً) وسيزول بزوال أسبابه. لكن مع تواصل الحرب وتراجع فرص حل سياسي سيتوطد هذا اللجوء، وسيدق أوتاداً في البلاد المضيفة بحيث يصعب، اجتماعياً واقتصادياً وقانونياً، اقتلاعها. فهذه ليست خيمة في العراء تهدم ويرحل ساكنوها. حتى المخيمات التي أقيمت، في البلدان العربية وتركيا، لإيواء اللاجئين السوريين، قد تتحول إلى أشكال أخرى ليس من بينها العودة إلى البلد الأم.

العودة

ظل جبران يفكر في “الشرق”، وفي بلده لبنان، ولكنه لم يعد إليه إلا مرتين. الأولى صغيراً، والثانية في تابوت لكي يُدفن في مسقط رأسه “بشرّي” في شمال لبنان.

العودتان لافتتان. الأولى في الخامسة عشرة من عمره برفقة عائلته. الشائع أنها كانت لتمكين جبران من اللغة العربية التي كاد ينساها في بوسطن. لكن قد يكون الأمر غير ذلك. أياً يكن، فحديث الذين سطروا سيرته عن تركيزه على اللغة العربية وعودته إلى وطنه الأم من أجلها، لا نجده في مهاجري اليوم. قد يفعل ذلك قلة منهم. ربما يقلق المهاجرين ضعف بناتهم وأبنائهم باللغة العربية، أو حتى انعدم معرفتها، ولكن هناك ما يقلقهم أكثر: إيجاد موطئ قدم لهم، معاشاً وتعليماً في بلاد الهجرة. سيكون عليهم أن يدفعوا أبناءهم إلى دخول “السيستم” الذي من دونه لا مستقبل لهم في المَهاجر. هكذا قد تكون لغة المهجر هي التي تقلقهم أكثر من لغة وطنهم الأم.

أما العودة الثانية لجبران في تابوت، فلا يفعلها كثيرون اليوم في المَهاجر. هناك صعوبات إجرائية ومالية ومعنوية تحول دون ذلك. عودة جبران في كفن هي عودة ثقافية. رجل فكًّر (وأوصى) بالعودة إلى حيث ولد وترعرع، وربما حيث يمكن أن يكون موضع اهتمام ومحج، خصوصاً بعدما أدرك جبران شهرته وهو حيٌّ.

المصدر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.