عبدالرازق مختار محمود
كثير من القيم التي كانت تاجاً علي الرؤوس، اليوم أصابها المرض، وعلاها الضعف، وخيم عليها التزييف، وأحاط بها العطب.
وللأسف كثير من المرضى لا يعرفون أنهم مرضى، يمارسون حياتهم بصورة تفوق قدرات الأصحاء، يصولون ويجولون، وعلامات مرضهم بادية للعيان، يراها القريب والبعيد، ويشم رائحتها العفنة العامة قبل الطبيب، أما المريض فهو لا يدري أنه مريض عن جهل أحيانا، وعن وهم أحيانا، وعن إنكار في كثير من الأحيان، وعلماء النفس يفسرون ذلك، بأن الفرد إذا عجز عن مواجهة
مشكلاته بصراحة؛ فإن ذلك يدفعه إلى أساليب من التكيف يقصد بها تخفيف حدة بعض التوترات التي لا يستطيع التعامل معها، ومن هذه الأساليب ما يسمى بالحيل الدفاعية اللاشعورية: وهى عبارة عن عملية عقلية هدفها خفض القلق، وتشترك جميعها في خاصيتين: أنها تعمل بطريقة لا شعورية، كما أنها تنكر الواقع وتشوهه وتزيفه.
والحيلة الدافعية هي عملية لاشعورية ترمي إلى تخفيف التوتر النفسي المؤلم، وحالات الضيق التي تنشأ عن استمرار حالة الإحباط مدة طويلة، بسبب عجز المرء عن التغلب على العوائق التي تعترض إشباع دوافعه، وهي ذات أثر ضار عموماً إذ أن اللجوء إليها لا يُمَكِّن الفرد من تحقيق التوافق، ويقلل من قدرته على حل مشاكله، وإذا استخدمت بشكل مسرف؛ فإنها يمكن أن تؤثر في النمو النفسي؛ لأنها تعمى الفرد عن رؤية عيوبه، ومشاكلة الحقيقية.
ويعد الإسقاط من أبرز تلك الحيل وفيه ينسب الفرد عيوبه ورغباته المحرمة والعدوانية للناس حتى يبرء نفسه، ويبعد الشبهات عنها؛ فالكاذب يتهم معظم الناس بالكذب, والمزور ومحترف شهادة الزور يحب أن يرى عدوه يمارس التزوير، ومعدوم الإمكانات يتبارى في وصف من يكره بأنهم جهلة وبلا إمكانات.
وآلية الإسقاط هي آلية نفسية لا شعورية بحتة، وهي عملية هجوم لاشعوري يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه بالآخرين، كما أنها عملية لوم الآخرين على ما فشل هو فيه، فيقول الشخص في لاشعوره: أنا أكره شخص ما، ولكني أقول هو يكرهني، هنا أريد أن أخفف من ذنبي، ومشاعري الدفينة تجاه ذلك الشخص.
والخطر الأشد في تلك الأيام من تلك الحيل أن صاحبها يصدق بصحته وسلامته، وأن الآخرين هم المرضى بالداء الذي أصابه.
والعجب العجاب أن هذا المريض يقاتل؛ لكي يجد زمرة من المصدقين والسائرين خلف حيلته الدفاعية مدفوعين بأمراض اجتماعية أخرى من قبيل: الحقد، والحسد، والجهل، والبعض، وكراهية الحياة، والشعور بالقزمية والدونية، إلي غير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي تحولت في بيئتهم الاجتماعية التي هي في الأصل مفككة، أو مملوءة بهذا الخليط المقيت من القيم الفاسدة؛ فأنتجت تلك الحيل، مع تلك الأمراض الاجتماعية أمراضا جديدة متحولة أهم ما يميزها أن المرضى لا يعرفون.
وعلماء النفس يخبروننا أن أولي مراحل العلاج أن يعرف المريض أنه مريض، وأنه يمارس المرض في كل لحظات حياته، فهو يمارسه في صحوه وفي منامه، يمارسه مع أهله وبين أصدقائه، يمارسه في عمله وفي هواياته، يمارسه في واقعه وفي خياله، يمارسه وهو لا يدري أنه يمارسه.
كما أن الأمراض الجديدة والمتحولة؛ تتطلب علاجات جديدة بالطبع لا يجيدها العامة، ولكن يتقنها الخبراء، وهم لا يقدمون عليها إلا بعد أن تخبرهم معاملهم، وتشير عليهم تجاربهم، وإلا تزايد المرض، وتفاقمت الأعرض.
فليشمر علماء النفس، والاجتماع عن سواعدهم ويعملوا أدواتهم، ويشخصوا تلك الأمراض، التي تنخر في أعمده المجتمع، ضاربة في صلب قيمه الحاكمة، ومعرضة تماسكه للانهيار منتجة جيلا جديدا من القيم الهدامة، والتصرفات الشاذة، والسلوكيات المنحرفة، والمبررات المتطرفة، التي أصبحت شائعة، ومتقبله، بل وأحيانا تجد من يدافع عنها، تحت ستار المنفعة، والمصلحة العابرة، بحجج واهية، وأسانيد عبيطة، ومبررات مرفوضة، سرعان ما تنفضح وينفضح أصحابها، مستغلة في ذلك منافذ عدة للتنفيس، من أهمها وسائل التواصل الاجتماعي؛ كمنفذ مميز للتعبير عن تلك الأمراض.
وعلي هؤلاء العلماء أن يضعوا أيديهم علي مكمن الداء، ويعملوا مشرط الجراح في أصل الداء بلا هوادة، ففي تلك اللحظات لا ينفع التطواف، ولا يصح معالجة الأعراض، دون الولوج إلي الجذور، فقد وصلنا إلي مرحلة أصبحت فيها الهوية علي المحك، وصارت القيم الحاكمة في مهب الريح، وأصبح المرضى قادة الفكر، ورواد العصر، وعمالقة الجيل، وأصحاب رايات التغير، وخطباء منابر الحقيقة.
وأخيرا فإن أمة تعرف سر تأخرها، ولا تبذل الغالي والنفيس من أجل علاجه، هي أمه تحتاج الكثير من الوقت والجهد؛ حتي تبرأ مما أصابها، وهي أمة سوف تتفاقم أمراضها؛ حتي تنتج جيلا جديدا من الأمراض عصيا علي العلاج، متحولا عن العافية، متأقلما مع الواقع، ضاربا جذوره في بنية المجتمع، وعندها يصبح الأمر في سجل المستحيل، فلنبادر قبل أن تتأصل الأمراض، ويصبح الإنكار هو السيد، ويصبح المرضي ممن لا يعرفون أكثر بكثير ممن يعرفون.
أستاذ علم المناهج وطرائق التدريس بجامعة اسيوط