الرئيسية | فكر ونقد | اللغة الراسمة في (شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين) لكريم عبد الله
لوحة للتشكيلي المغربي عادل حواتا

اللغة الراسمة في (شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين) لكريم عبد الله

د أنور غني الموسوي:

عبدالله كريم

عبدالله كريم

الرسم بالكلمات، ليس فنا جديدا، بل هو ضارب بالقدم، إلا انّه غاية للاديب أيضا، ولطاما تباهى المبدعون بذلك، حتى أشير إليه انّه ليس اسلوبا فقط بل هوفن قائم بذاته. ولحقيقة المركزية التي صارت تحتلها الصورة الشعرية في الأدب الحديث، صار من الجميل فعلا الارتقاء بهذا العطاء الإنساني.

إن المميّز الأهم للغة الراسمة انّها أكثر حيوية وأكثر إشراقا، وأكثر وضوحا، وتعتمد التعبير المنطلق من الصورة ، بحيث انّك ترى الكلمات كأشياء والتراكيب كلوحة، ثم هي تنطلق بك بعد ذلك الى عالم المعنى . بل إن الأمر يكون أحيانا أعمق من ذلك، إذ تتشكل الصور في عالم الفكر، فيكون أمامك تلألأ فذ وجميل ملّون وبرّاق.

انّ اللغة الراسمة وما ترسمه من تشكلات إنما هوباختصار عالم جميل، عالم يعجّ بالجمال، الجمال فحسب. وهذا التراكم الجمالي التصويري نجده جليّا في لغة الشاعر العراقي الفذّ كريم عبد الله في كتاباته، ربما المفتاح الأمهر لقراءة لوحات كريم عبد الله هومدخل اللغة الراسمة، إلا انّه في نص ( شرفات شاحبة من طين) يبلغ الغاية محقّقا انجازا أدبيا فذّا ومتفردا سيكون له أثره في ساحات الإبداع. نحن هنا في هذا المقال سنركز على الأسلوبية التي حقّق بها هذا النص القدرة الراسمة الكبيرة، أما الجوانب الجمالية الأخرى للنصّ والتي هي كثيرة فنتركها لمحلّها ولأهلها.

العنوان في ذاته لوحة ( شرفات شاحبة من طين ) ولا تحتاج إلا لمخيّلة حتى تبحر في تلك الشرفات الطينية الشاحبة وتعيش أجواءها.

في لوحة مرسومة من المعاني في فضاء من الدلالات يقول كريم عبد الله ( فراغٌ متجرّدٌ إلاّ منْ مخالب تعلوأفقاً متآكلاً …. ). الإسناد الاسمي (فراغ متجرد) ثم يتبعه بالاستثناء ، فبعد ان تشكّلت الصورة للفراغ، جاء صوت الاستثناء، كضربة ورفع يد للإشارة إلى جانب، (إلا من مخالب ) انّه ابراز للمخالب. اللغة الراسمة تتميز بالأبراز والقدرة على تسليط الضوء. وهذا ايضا يجري على تصدير الكلام بكلمة (فراغ) انّه تسليط للضوء على هذه الكلمات. انه فراغ متجرد إلا…. من مخالب. لا ينتهي الوصف هنا، وبلغة نثرية فذة، على مستوى عال من الشاعرية، انّها مخالب تعلوأفقا متآكلا.. وبعد هذا الرسم، وما للمفردات من مرجعيات وعوالم معنوية تنقل الذهن إلى فضاءات الدلالة وما يريد الشاعر إيصاله.

ثم ببيان أعلى يقول

(كاتماً بأنفاسِ شرفاتٍ مستوحشةٍ في زمنِ الخراب..)

في لوحة تصويرية تطورية تفترش المكان، وتعلووتكتم الأنفاس، أنفاس شرفات مستوحشة، في زمن الخراب.

)خاليةٌ الأشجارُ سوى القُبحَ يتوجّسُ ثمارِ الهزيمةِ…..)

وفي بيان مرآتي وانعكاسي أومحاكاتي، وبتدوير للوحة من وجه آخر، الأشجار خالية، ليس هناك سوى قبح يتوجّس ثمار الهزيمة ) في أسلوب الإبراز والتوضيح والأمانة الكاملة ببوح عال ومجازية وشعرية فذة تتكامل الصورة.

ومن ثم بوجه ثالث للوحة وببوح عال يقول آويرسم (يوشكُ هذا الليل يربطُ وجهَ الصبح بفوّهةٍ رعناء…)، حتى تصل اللغة إلى مقطع مرسوم بدقة عالية (تمتمَ القطارُ نحوالغروب يحثّوعجلاتَ القلق)، في بيان حدثي، فعلي يتمتم القطار، نحوالغروب مجازية عالية إلا أنها بوحية، يحثّ عجلات القلق.

انك ترى بوضوح حضور الألفاظ الظرفية وهي مهمة كثيرا في الرسم، انه ترتيب المكان، ويمكننا القول وبسهولة إن هذه اللغة مقصودة وليست انثيالات شعرية بل تقنية عالية يقول كريم عبد الله

(للمحنةِ صرير أبوابٍ مغمضة وراءها تراثٌ معلول

أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد )

نلاحظ كلمة صرير، وأبواب، ومغمضة، ووراءها ومعلوم. كلها مفردات حسية، ظاهرة جدا لا لبس فيها، وكلمة وراءها لها وصف مكاني ظرفي بحت. اذن تعلمنا لغة كريم عبد الله ان اللغة الراسمة لغة تعتمد الحسيات وتعتمد الظرفيات وإنها لغة التقنيات العالية، انها مدرسة تعلّمنا نموذجا لفن كلامي فذ. في مقطع يشهد لما قلنا ويوضّحه أكثر يقول كريم عبد الله (أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد (ويستمر الرسم حيث يقول

(الآتيَ أومأَ بالتسوّلِ يدقُّ مساميرَ النعشِ

في الفتنةِ الهوجاءَ يتعنّكبُ رمادٌ أجهشهُ وطنٌ بلا غد

منْ هنـــــــــــــــــاكَ مرقَ طليقاً حجراً محتضناً هشيمهُ…)،

المقطع يعجّ بالافعال المضارعة ويعجّ بالترتيبات المكانية والزمانية ويعجّ بالحسيّات، انّه رسم مقصود وفذّ وتلوين للفكر . لغة راسمة تأسر الفكر وترتّب المعاني كأنّها اشياء وليست مقاصد معنوية .
الى ان تأتي المقاطع الاخيرة وعلى نفس الوتيرة والرسم والترتيب
(
هذا الصدى للأنين صارَ وجهاً ملفوفاً بالدهشةِ ../ مبلولاً بالأحقادِ صرخاتهُ أنجبتْ حلماً خديجاً …/ داهمَ نثيثُ الأوبئةِ أجساداً مغيّبةً تئزُّ بـعورةِ الثورات.

رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بــ الرحيل

الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بــأروقةِ الخذلان

غبراءَ كعادتها اندلعت في أوراقنا ثقّبتْ مكروهةً ريح أشعةَ الحلم

ونلاحظ جيدا التجسيد الحسيّ القوي في عبارة رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بالرحيل

الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بأروقةِ الخذلان(

إن كريم عبد الله بلغ هنا غايات مهمّة جدا في اللغة الراسمة وقدّم نموذجا فذا يفتخر به حقّا في هذه اللغة ـوكما قلنا هناك جوانب جمالية عالية وكبيرة في النصّ يطول الحديث عنها الا أنّا وكأسلوب نتبعه نركّز دوما على مظهر من مظاهر الإبداع لأجل فهمه وفهم اللغة التي كٌتِب بها ولقد كان نصّ (شرفات شاحبة من طين) مناسبة جمالية متفرّدة للغة الراسمة ، ونموذجا خصبا لهذا المظهر الابداعي .


النص

شرفاتٌ شاحبةٌ منْ طين

كريم عبد الله


فراغٌ متجرّدٌ إلاّ منْ مخالب تعلوأفقاً متآكلاً

كاتماً بأنفاسِ شرفاتٍ مستوحشةٍ في زمنِ الخراب

خاليةٌ الأشجارُ سوى القُبحَ يتوجّسُ ثمارِ الهزيمةِ

يوشكُ هذا الليل يربطُ وجهَ الصبح بفوّهةٍ رعناء

تقزُّ الأجاجَ حولَ رقّاصٍ أعرج

تمتمَ القطارُ نحوالغروب يحثّوعجلاتَ القلق

مسّحتْ غمامةٌ نبضَ الجوعِ تستسقي غاباتَ الظمأ

للمحنةِ صرير أبوابٍ مغمضة وراءها تراثٌ معلول

أقامَ الزمنُ خيمةً ظلّلَ أوتادها الحداد

الآتيَ أومأَ بالتسوّلِ يدقُّ مساميرَ النعشِ

في الفتنةِ الهوجاءَ يتعنّكبُ رمادٌ أجهشهُ وطنٌ بلا غد

منْ هنــــــــــــــاكَ مرقَ طليقاً حجراً محتضناً هشيمهُ

هذا الصدى للأنين صارَ وجهاً ملفوفاً بالدهشةِ

مبلولاً بالأحقادِ صرخاتهُ أنجبتْ حلماً خديجاً

داهمَ نثيثُ الأوبئةِ أجساداً مغيّبةً تئزُّ بعورةِ الثورات

رائحةُ الأرصفة المشويّةِ وصوتها المبحوحَ يشي بـالرحيل

الحزنُ معتقلٌ في صدورٍ تاهتْ متبعثرةً بـأروقةِ الخذلان.

غبراءَ كعادتها إندلعت في أوراقنا ثقّبتْ مكروهةً ريح أشعةَ الحلم …..

بغداد العراق

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.