تعتبر الكرافيتيا Graffiti فنا ارتجاليا يتميز بالسحر والعجب العجاب. حيث كانت ولادة هذا الفن مجهولة من لدن الفنانين، وهذا ما جعله قابعا في الظل لسنين. فقد وصفت الكرافيتي بكونها فنا لقيطا، فنا لا أب له، ولا مدرسة ولا انتماء له؛ مما دفع البعض إلى عدم الاعتراف به كممارسة فنية وتشكيلية زاخرة بالجمال إلى حدود الأربعينيات من القرن العشرين بالرغم من أن تاريخها الفعلي يعود لعصور ما-قبل التاريخ[1]. ذلك أن الكرافيتيا تمردت على كل الأنماط والقواعد الفنية التي ظل الفنانون الكلاسيكيون يقدسونها، حيث مزجت الخط بالرسم والنحت بالتلوين والنقش، والمنمنمة، والزخرفة، وغيرها، في فضاءات عمومية كجدران الأنفاق ومحطات القطار وجدران المدارس وبعض الأماكن المهمشة والجدران البالية. فتناولت شعارات حول التغيير، ونبذ العنصرية، والمساواة، والعدل، وغيرها من القضايا النضالية التي كان يعجز بعض أشكال التعبير الأخرى التصريح بها. في هذا الصدد يصف الناقد السوسيولوجي أحمد شراك هذا الفن بكونه فنا نضاليا لأن “وجودها يدخل في سياق النضال الوطني، أي كسلاح من أجل التعبئة وتقوية الحس الوطني…”[2] . فالحديث عن الكرافيتيا يجرنا للحديث عن الطاغ Tag الأمريكي الذي ظهر كحركة مناهضة للتهميش والميز العنصري والإقصاء. حيث استعمل هذا الفن كوسيلة للتعبأة الجماهرية وللتحريض والتوعية في العديد من السياقات الدولية: كالولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، ولبنان، وفلسطين، وغيرها من البلدان. وتؤدي الكرافيتيا وظائف عديدة من بينها: الوظيفة التعبيرية، والوظيفة التواصلية، والوظيفة الاجتماعية، وغيرها.
وينبع اختيار دراسة عمل يتأطر ضمن خانة الكرافيتيا من حيث كونها شكلا من أشكال الفن المعاصر الذي حظي بمكانة عالية في الدراسات الفنية والجمالية المعاصرة وكذا من حيث إن العمل الفني موضوع الدراسة يلامس الواقع الذي نعيشه من الناحية الفنية والسياسية وكذا الاجتماعية.
يعود هذا العمل الفني الكرافيتي(الصورة أعلاه) لأحد المهاجرين النازحين من إفريقيا جنوب الصحراء نحو المغرب بحثا عن حياة أفضل. رسم بمدينة الرشيدية على أحد الجدران القريبة من محطة الحافلة حيث كان يقيم هؤلاء المهاجرون المغامرون.
أُنجز هذا الرسم على حائط طاله من البول والقذارة ما جعل سكان المدينة يتجنبون الجلوس قربه فكان مرتعا للحمقى والمنبوذين. من ثَم كان هذا المكان اختيارا للمهاجرين الأفارقة الذين اتخذوه مأو يلوذون إليه ومجال إبداع يعبرون من خلاله عما يحسون به ويفجرون ما بدواخلهم.
يحتوي الرسم على ثلاثة وجوه بشرية؛ أحد هذه الوجوه مرسوم بشكل كلي، يرتدي طربوشا، أما الوجهان الآخران فيختفي جزء منهما خلف طربوش الوجه الأول. رسمت كذلك حروف كبيرة متراكبة باللاتينية ملتصقة بهذه الوجوه من الأسفل وهي الحرف N والحرف T. أستعمل في إنجاز هذا العمل الطباشير كمادة أساسية مما يحيلنا على أعمال الفنان الكرافيتي أرثر ستايس Arthur Stace الذي كان يبدع لوحات كرافيتية باستعمال الطباشير[3]. في هذه اللوحة كذلك ثلاثة ألوان: الأسود والأخضر والأزرق.
يندرج هذا العمل الفني ضمن خانة الغرافيتيا وهي حركة فنية مناضلة ثائرة على جميع أشكال الضبط والتوجيه لا من داخل الفن ولا من الناحية السوسيولوجية والسياسية. ذلك أن الغرافيتيا لا تعترف بانتمائها لأي مدرسة فنية أو مؤسسة اجتماعية أو اتجاه فكري. وبذلك فهي تؤسس جمالياتها من منطلقاتها الخاصة. فلا حديث فيها عن الالتزام بالمنظور أو الانصياع لقواعد ما كاستقلال اللون، أو صفاء الأشكال، أو قوة الزخرفة، أو غيرها. فكل ما يميز ‘الكرافيتيا’ بوصفها خربشة هو التوقيع والسرعة والرسالة. فلا تكاد تجد خربشة إلا ووجدتها تحمل توقيعا ما. في هذا العمل أيضا يوجد حرفان متراكبان هما (T) و(N) وهما حرفان لاتينيانLatins متراكبان بطريقة فنية لا تخلو من إبداع. يبدو كذلك أن الرسام استعمل اللون الأسود لتحديد الأشكال المراد التعبير بها )هندسة الطربوش، والوجوه الاهليليجية المتراكبة، والحروف المتداخلة( وهو رسم للحدود والتخوم بين ما هو ثقافي) الحروف، الطربوش( وما هو طبيعي (وجه الانسان). أما اللون الأخضر فلونت به المساحة وسط الحروف وجزء من الطربوش الذي شغل مساحة مهمة مقارنة بالأشكال الأخرى التي تؤثث هذا العمل.
تطبع الوجوه المرسومة تيمة الاختلاف النوعي، حيث إن الوجه البارز هو وجه رجل ذي أصول إفريقية، بعينين كبيرتين وشفتين كبيرتين؛ والوجه الخلفي هو وجه امرأة جاحظة العينين ذات شعر أشعث طاله من الإهمال ما طالها في الحياة.
يعتبر هذا العمل الفني محاولة لإتمام المرور من حالة الإمكان النوعي إلى حالة الوجود؛ وذلك بالاستناد إلى سيميائيات شارل ساندرس بورس أو ‘العلامة الأيقونية[4]‘ كما سماها الدكتور عبدالله بريمي. حيث يحتوي هذا العمل الفني العفوي الكرافيتي على جملة من الرموز والعلامات التي ينبغي سبر معانيها لمحاولة قراءة وفهم الدوافع النفسية، والاجتماعية، وكذا السياسية التي جعلت هذا الشخص/ الفنان(ة) يفجر هذا الرسم على الجدار الخلفي لمحلات الأكلات السريعة والرخيصة الشهيرة بأكلة ‘أومليط كشير’ بمدينة الرشيدية. هذا المكان يكتسي رمزية خاصة باعتباره ينتمي للهامش؛ وما زاده رمزية ودلالة هو احتضانه شكلا فنيا ينتمي هو الآخر للهامش؛ وذلك من أجل التعبير عن المهمشين، والمستضعفين، والمقصيين، والمقهورين، والمنبوذين. وهو ما يؤكد الخلل القائم على مستوى مقاربة الإدماج وإعادة الإدماج المتبعة في سياسة تدبير الهامش بالمغرب. يحيلنا هذا على فكرة محورية عبّر عنها أحمد شراك مفادها أن الهامش يمأسس في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسة بالتهميش[5]. فباعتبار الطربوش علامة دالة، فإنه يضفي على الخربشة طابعا سلطويا. ذلك أن تواجده في أعلى الرسم وأخذه مساحة مهمة بالمقارنة مع العناصر المؤثثة للعمل يمنحه معاني عديدة. فشكله العمودي يوحي بالأبهة والعظمة، لكون الطربوش في الثقافة الإفريقية مرتبط بالسلطة الرمزية لرجل الدين والسياسة (الحاكم، الرئيس، الراهب، الإمام، العسكري،…) ومرتبط كذلك بالطبقة الراقية في المجتمع (البرجوازي، الباشا، الأفندي،…) وما يؤكد ذلك تلوين جزء منه باللون الأخضر الذي يعتبر لونا ذا حمولة سيميائية مكثفة؛ فهو لون الطبيعة والحياة، ولون الروحانيات، والقوى الخارقة والقداسة ؛ لذلك لا يكاد يخلو عَلم إفريقي من هذا اللون.
الوجوه في هذا العمل تدل على التهميش، والشعور بالدونية، والخوف وهذا ما يبدو من خلال الوضع المتراكب للوجوه وكذا جحوظ العينين بالإضافة إلى وضع الفم المغلق الدال على الصمت والقهر والمعاناة. أما وضع الوجه الأنثوي في الخلف فهو تأكيد على صورة المرأة في المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الفنان باعتباره مجتمع قهر اجتماعي وسياسي، حيث تعاني المرأة من التهميش والتحقير والتقزيم.
تحيل الحروف اللاتينية على الهوية التي ينسب الفنان نفسه إليها وهو ما يطرح أكثر من تساؤل عن ملابسات غياب اللغات الإفريقية على اختلافها وتعددها (العربية، يوروبا، النكو، أورومو، الهوسا،… ). هل هو استلاب ثقافي؟ أم انفتاح؟ هل هو دعوة للتحرر من ‘الهوية العمياء’ على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي؟ أم هو تأكيد للقمع الممارس على الذات، والقهر الذي يلازم المقهور بوصفه مهمشا ومنبوذا بلغة مصطفى حجازي؟ الحروف اللاتينية تخفي بين طياتها معاني غامضة قد تحيل على الأحرف الأولى من اسم الفنان أو اسم محبوبته أو ربما أحرفا من اسم بلده. كل هذه مجرد فرضيات وتكهنات لا تقبل النفي ولا الإثبات؛ وإنما تتيح إمكانية فتح أفق جديد يستشرف عوالم الانسان الباطنية ومحاولة فهمها وتفسيرها.
أما الألوان المستعملة في هذا العمل فهي الأسود، والأزرق، والأخضر. الأسود لرسم الحدود والتخوم، فهو لون محايد يدل على الغموض والتيه في عالم المجهول، وهو على ما يبدو، العالم الذي تعيشه جماعة المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء. اللون الأزرق الداكن ممزوج مع الأسود على الوجوه دلالة على ما تعانيه هذه الشخوص من معاناة نفسية واجتماعية أو حتى جسدية. أما اللون الأخضر فيضفي جمالية خاصة للرسم؛ حيث يصور لنا الجانب المشرق في هذا العالم: إنه الأمل؛ إنه التمسك بالحياة والطبيعة والرغبة في تحسين الوضع الإنساني.
يتميز هذا العمل الفني الكرافيتي بالعفوية، والبلاغة التعبيرية، وكذا التكثيف الدلالي. ونجزم بالقول إن هذا العمل نابع من ذات مبدعة متمكنة من إدراك مكامن القوة ومواطن الضعف في التعامل مع الفني، وذلك بغض النظر عن أصل هذا الشخص/ الفنان أو جنسه؛ وإن هذا الرسم الجداري ليحمل من صاحبه من المعاني كما يحمل ذاك الجدار من تربة الرشيدية. يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: “الواقع أن التعبير عن الموجود يتطلب التطابق مع الموجود والقياس عليه”[6]. لذلك فالفنان يقتني مادته بعناية ليحيل على حقيقة فنية هي العمل الفني نفسه. فبالرغم من فقر المادة المستعملة لإنجاز هذا الرسم (طباشبر، فحم، طوب،)؛ إلا أنه استطاع تصوير انفعالاته الداخلية وتفاعلاته مع محيطه بشكل بليغ. هذا ما يعبر عنه كارشن هاريس Karsten Harries بقوله: “إن هايدغر يدفعنا لفهم العمل الفني في سياقه الواقعي الذي لا يخالف الحقيقة”[7]. أي الانطلاق من الواقع للإحالة عليه.
يتضح من خلال هذه المقالة التحليلية، أن هذا العمل الفني يحمل دلالات ورسائل مختلفة. إنها رسائل واضحة بالحق صادحة: صادحة بالجمال، صادحة بالنضال، وصادحة بالتشكيل وإعادة إشكال الهامش لطاولة النقاش. إنها خربشات توجه صفعة للمجتمع لإعادة النظر في ميكانيزمات التفاعل السوسيوثقافي، وتوجه صفعة للسياسي من أجل إعادة بناء مقاربة إدماج فعالة تنم عن إرادة حقيقية في تبني الهامش والنهوض بالمهمش، وتوجه كذلك صفعة للحقوقي من أجل رد الاعتبار لإنسانية الانسان بعيدا عن الحسابات الضيقة والمزايدات العقيمة.
[1] Hal Markovits ; The art of Graffiti; ReferencePoint Press, Inc; Printed in the United States 2020; P10
[2] د. أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش و المنع والكتابة”، ط2009 ، ص70
[3] J.A. Baird and Claire Taylor ; “ Routledge Studies in Ancient History”; First published 2011, P165
[4] بريمي عبد الله “مطاردة العلامات، بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية”، دار كنوز المعرفة العلمية، ط2016، ص 229
[5] د. أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش و المنع والكتابة”، ط2009 ، ص70
[6] هايدجر مارتن؛ “أصل العمل الفني” ترجمة أبو العيد دودو؛ منشورات الجمل؛ كولونيا ألمانيا 2003؛ ص89
[7] Karsten Harries; Art Matters: A Critical Commentary on Heidegger’s “The Origin of the Work of Art”; New Haven, CT 06520-8306 USA. 2009. P95
لائحة المراجع والمصادر
بالعربية
- أحمد شراك “الكتابة على الجدران المدرسية: مقدمات في سوسيولوجيا الشباب والهامش والمنع والكتابة”، ط2009
- عبدالكبيرالخطيبي؛ “الفن العربي المعاصر” ترجمة فريد الزاهي، ط 2003
- بريمي عبد الله “مطاردة العلامات، بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية”، دار كنوز المعرفة العلمية، ط2016
- هايدجر مارتن؛ “أصل العمل الفني” ترجمة أبو العيد دودو؛ منشورات الجمل؛ كولونيا ألمانيا 2003؛
بالإنجليزية
- Hal Markovits ; The art of Graffiti; ReferencePoint Press, Inc; Printed in the United States 2020
- A. Baird and Claire Taylor ; “ Routledge Studies in Ancient History”; First published 2011,
- Karsten Harries; Art Matters: A Critical Commentary on Heidegger’s “The Origin of the Work of Art”; New Haven, CT 06520-8306 USA. 2009
- Martin Heidegger « THE ORIGIN OF THE WORK OF ART » Translated by Roger Berkowitz and Philippe Nonet.Draft, December 2006