حنان الدرقاوي
حين كانت نادية تأتي إلى البيت زمن الثمانيات في ميسور، كانت أمي تحكم إغلاق باب الصالون وتأمرنا بالبقاء في غرفة الجلوس أو نخرج إلى الحديقة. كانت نادية تأتي في كامل زينتها بأحمر شفاه فاقع وخديّن حمراوين. كانت ترتدي “الطايور” أو الفساتين القصيرة. كانت مختلفة عن باقي صديقات أمي البدويات اللواتي يأتين في جلابيب فضفاضة وبلا أحمر شفاه. كانت نادية مخلوقة من نوع آخر. كانت كاتبة. كانت أمي تقول في حسرة وخوف من شيء ما “جاءت الكاتبة أخرجوا إلى الحديقة أو ابقوا في غرفة الجلوس”. كنتُ قد بدأت أيامها أتعرف على كاتبات مثل مي زيادة وكوليت ومادام دوستاييل لكن نادية لم تكن كاتبة من ذلك النوع. كانت تنتمي إلى مجرة الكاتبات في ميسور ويقصد بهن السكرتيرات في مكاتب الأطر مثل نادية التي تشتغل في مكتب أبي.
كانت المدينة تمنحهن قدرات خارقة في تفريق شمل العائلات والظفر بأزواج الأخريات إضافة إلى قدرات أخرى لم نكن حتى نبوح بها لأنفسنا: إنهن نساء يدخنّ ويجلسن في “مقهى المارشي” وفوق هذا وذاك يسافرن إلى فاس وحدهن بدون زوج أو أخ. ماذا يفعلن في فاس يا ترى؟
كنا نحن نسافر إلى فاس مرة كل ثلاث سنوات لتغيير النظارات الطبية وكانت رحلات يكشر فيها أبي عن كل أنياب الوحش الذي بداخله تماما كما يحدث دائما حين يضطر إلى الإنفاق علينا. كنت أتجول في دوار الجديد بفاس حيث نقيم عند قريبة لنا وأتساءل لماذا تسافر الكاتبات إلى هذا المكان القذر لكني حين رأيت وسط البلد في فاس و”حي لافياط” فهمت أنهن لا يأتين إلى دوار الجديد بل إلى المحلات الأنيقة التي في المركز، أين يبتن يا ترى؟
لم أكن بعد أعرف الفنادق. رأيت فندقا في ميدلت قبل ذلك بسنوات لكنه فندق ينام فيه الناس والرجال خصوصا مع دوابهم حين يكونون على سفر. لا أعرف أين تبيت الكاتبات ولا ماذا يفعلن في فاس وحدهن. ربما لهن أقرباء في أحياء أخرى، هل لهن أقرباء فعلا؟ كنت أعتقد أن كل النساء اللواتي يدخنّ ويجلسن في المقهى هن مقطوعات من شجرة إذ من سيتقبل ذلك من ابنته أو أخته أو ابنة خالته.
كنا نقضي اليوم في الدوار نتجول من بيت إلى بيت ونحادث بعضنا البعض. في الدوار كانت تحدث أشياء لها العجب قصص حب وهرب وإدمان كما في الأفلام. راضية ابنة جيران قريبتنا هربت من بيت زوجها. زوجوها لرجل في الأربعين وهي في الخامسة عشرة، زفت إليه وهربت في ثاني ليلة لها معه. هربت باتجاه طريق “صفرو” حيث أقامت مع حبيبها. اضطر زوجها إلى تطليقها بعد أن كبرت الإشاعة أنها لم تكن عذراء بل وكانت حبلى من العشيق. أم راضية صارت تطوف البيوت وفي يدها شهادة عزوبة ابنتها التي تمضي بها من بيت الى بيت. كانت تمسك الشهادة مقلوبة وتصرخ:
-
إنها عزباء كانت عزباء ليلة دخلتها وهي عند أقارب زوجها الآن أتوا وأخذوها معهم.
كانت المسكينة تكذب لكن كل الدوار عرف بالقصة الحقيقية. تطأطئ الأمهات رؤوسهن بالإيجاب وما أن تختفي “مي زهرة” حتى يتوجهن إلينا بالكلام:
-
راضية هربت وفضحت أهلها وسنتنهي نهاية سيئة أحرسن عاناتكن.
كنا بالفعل نفكر في العانة طيلة الوقت ونعد الزغيبات القليلة المتناثرة حولها. كان عالم الجنس قد بدئ يغرينا وصارت أثداؤنا تنتصب حين يمر الأولاد. كان الدوار مقسما: عالم البنات من جهة منشغلات بالأشغال المنزلية والدوران بين البيوت قتلا للملل. وعالم الأولاد من جهة أخرى واقفين على رأس الدرب يدخنون السجائر ويشاع أنهم يدخنون الحشيش ويذهبون إلى المركز حيث يشربون النبيذ هناك. ذات عام تركتني أمي عند القريبة وكان موعد احتفالات رأس السنة. خرج ابن قريبتي وابن خالة له للسهر. كنا سبع نساء في البيت ومعنا أطفال. عند منتصف الليل سمعنا ضجة كبيرة في السقف وارتعبنا. توالت الضجة وخرجت “القريبة” ورأت شباب الحي يلقون بقوارير زجاجية فارغة على السطح وهم يصيحون “وهاذي للقحبة” يرمون ثم يصيحون “وهاذي لمنتوفة الشعر وللتي تعطي أستها للكلاب” لم أفهم لماذا يفعلون ذلك. كنا خائفات من أولاد الحي السكارى ومن “القريبة” التي سخنت قضيبا حديديا وصارت تهدد بناتها وتسأل “من منكن أعطت استها” كن يبكين ويحلفن أنهن لم يفعلن شيئا لكن القريبة تزداد تهديدا وتصرخ “سأشوه وجوهكن الجميلة التي تتباهين بها في الحي، سأخرجكن من المدارس وأزوجكن لأول خاطب يطرق الباب” كنا نرتعد وهي تقترب بالعمود الذي صار أحمرا من التسخين.
دخلت غرفة بناتها الستة وفتشت في كل درج وفي كل زوايا الغرفة. أتت بحزمة أوراق، أجلستني قربها وحلفتني أن أقرأها لها. كانت تشك أن تلك الاوراق رسائل حب تتلقاها بنت من بناتها. حلفتني أن أقرأ لها مضمون الرسائل. كنت مرتعدة خاصة أن كل الأوراق كانت رسائل حب وكل بناتها يتلقين اعترافات بالجملة والدوار كله لا شغل له غير قصص الحب. بدأت أقرأ وأتعرف على أحبة بنات القريبة: فخديجة تلقت رسالة من البقال يقول فيها أنه ما زال يتذكر طعم قبلتها وملمس نهديها وأنه يريدها زوجة على سنة الله ورسوله حين يشتري المحل الذي يشتغل فيه. وسامية تلقت جوابا من العسكري المجند في الصحراء يخبرها بلوعته واحتراقه من الشوق يعدها أنه سيصلح كل شيء ويفك نفسه من خطبة ابنة خالته وسيأتي ليتقدم إليها، أما عيشة فقد تلقت قصيدة شعر من طالب جماعي قصيدة يقول إنها هي الوطن والثورة ولن يتخلى عنها. نعيمة متورطة مع طالب جامعي آخر وهو يسألها إن أتت دورتها الشهرية أم لا. كنت أقول للقريبة أشياء أخرى غير التي في الرسائل وأخبرها أن كل هاته الأوراق دروس وأوراق المدرسة. تنفست القريبة الصعداء ورمت بالعود بعيدا. اعتقدنا أنها هدأت لكنها عادت وشدت شريفة ابنتها من شعرها وهي تتوعد:
-إذا وجدت رسالة حب فسأخرجكن من المدارس، لن أبعثكن للمدارس لتتعلمن كتابة الرسائل.
كنت أتسائل كيف ستعرف أنها رسائل حب ما دامت لاتقرأ. نظرت إلي البنات نظرة امتنان لأنني أنقذتهن من حبل المشنقة. عدنا بعدها إلى الإنكماش في السرير وأصوات انكسار القوارير تنهال على رؤوسنا. كانوا يصرخون ويضحكون ونحن نرتجف خوفا. كنا بيت قحاب ويجوز علينا حد السكارى. لو كانوا غير ذلك لربما قبلنا الحد لكنهم سكارى ويفوقوننا فجورا. استمر تفجير القوارير حتى الرابعة صباحا لم ننم دقيقة واحدة. ظللنا منكمشات في السرير إلى أن عاد عبد الإله ابن القريبة وعاد الأمان للحظات. أخبرناه بما حدث فأخذ عمودا حديديا وهو يتوعد أخواته ويصيح:
-
ماذا فعلتن يا فاجرات ليتحد ضدنا سكارى الحي؟ أمسك شريفة من شعرها وصاح.
-
أنت أجملهن ولاشك أن الفضيحة ستأتي منك أولا، سأقص شعرك الفضي هذا.
طلب مقصا من أمه، وأحضرته بسرعة وهي تصرخ:
-
أجل أجل قص شعر الفاجرة، فضحتنا باهتزاز جسدها.
عدلنا من جلستنا في السرير وانتظرنا ماذا سيفعلان. صرخت شريفة أنها بريئة ولم تفعل شيئا وكل يوم تذهب إلى المدرسة فقط أو تقوم بلفة على البيوت. كانت تبكي وتصيح لكن أخاها أمسك بالمقص وأعمله في شعرها. كنا نبكي ونحن ننظر إلى خصلات شعر شريفة وهي تتهاوى على الأرض. حلق أخوها شعرها قصيرا وصارت تبدو كولد. قصة معوجة بدت فيها كأنها مسجونة أو نزيلة مستشفى أمراض عقلية. كانت الأم تصيح بابتهاج .
-
ارتحنا من شعرك وفرجك والآن قص شعرهن جميعهن. لا تذر خصلة شعر فاجرة إلا ورميت بها على الأرض.
خافت الباقيات أن ينلن نفس المصير. اندفعن دفعة واحدة نحو غرفتهن وتبعتهن. أغلقنا باب الغرفة بإحكام وظل عبد الإله يطرق الباب ويهدد بخلعه. كان صوته مترنحا من الشرب لكن تبدو عليه قوة أربعين رجلا. انكمشنا مرة أخرى في السرير ونحن نبكي. ما هذا القدر يا رب يخيفنا أبناء الحي ونحن الذين نعاقب. هذا ظلم.. ظلم.
قضيت ليلة مؤرقة وفي الصباح طلبت من قريبتي أن تأخذني إلى الحافلة لأعود إلى بيتنا بميسور. رافقتني إلى الحافلة. ركبت دون أن أسلم عليها. لم أكن أريد أن أسلم على تلك الحقيرة التي تفرح لقص شعر ابنتها. في الحافلة فكرت أنه علي يوما ما أن أكتب قصة تلك الليلة الرهيبة في دوار الجديد.
وصلت إلى ميسور وأنا أفكر أنني أريد أن أصبح كاتبة لأدين هذا العالم القاتل للنساء. كنت أعرف أن في البيت امرأة أخرى مستعبدة وتفرح لاستعباد بناتها ولا تحلم بإمكانية عالم أفضل لهن. كنت أيضا أفكر في الكاتبات الجميلات وفي جمالهن وحريتهن.
وصلت إلى البيت مساء، لم يكن أحد في انتظاري رغم أنني أعلمتهم بوصولي عبر الهاتف. قطعت الطريق بين محطة الحافلات وبيتنا في الحي الإداري وأنا أعدو من الخوف إذ كان الظلام قد حل. في البيت استقبلتني أمي ببرودتها المعتادة فيما ظل أبي مستلقيا أمام التلفاز. مضيت إلى غرفة الأطفال، هناك سئلت أختي عن نادية وإن كانت قد أتت خلال غيابي، قهقهت أختي واعتقدت أنها ستحكي لي نكتة أو آخر حكاية للكاتبات قالت بتهكم :
-
لن تصدقي ما حدث للكاتبات خلال غيابك
-
ماذا حدث؟
-
تصوري يا عزيزتي أنهن الثلاثة ذهبن للسهر في بيت مدير الفلاحة وكان معه مهندسان. أسكروا الكاتبات وعرينهن وأخرجوهن بالتبابين فوق الرؤوس ووضعوهن أمام الشرطة والشرطة قامت بسجنهن بتهمة العري والسكر العلني وهن موقوفات عن العمل الآن.
لم أصدق أختي لمعرفتي بحقدها على الكاتبات لأن لهن ملابس ومجوهرات وماكياج وهي لا تملك إلا سروالها الجينز المثقوب مثلي. سرت الأخبار عن مصير الكاتبات سريعا في المدينة ويبدو أن ما قالته أختي كان حقا. حبسن وفصلن عن عملهن ككاتبات.
بعد شهور، دق جرس الباب وفتحت، كانت نادية ترتدي جلبابا مهلهلا وتضع خرقة على رأسها. ناديت أمي وأخبرتها أن نادية الكاتبة بالباب، انتفضت أمي من مكانها وهي تصرخ كأنما عضتها عقرب:
-
هل تريدين أن يطلقني أبوك الطلقة الثالثة أنا لا أعرف أية كاتبة لا أعرف أية كاتبة وإياك إياك أن اسمعك تقولين أنك تريدين أن تصبحي كاتبة.