تقديم
يُعدّ الحب من التجارب الإنسانية الأكثر إمتاعا وسحرا وغموضا، لذلك فقد كانت تيمة الحب حاضرة في الشعر والأسطورة لما لها من قوة على اجتذاب أعلى الأحاسيس والانفعالات وتحريك مخيّلة الإنسان التي تنزع إلى ابتداع أشكال أخرى للحياة. الحب كحالة وجدانية إبداعية أو في أحيان أخرى صوفية، يختصّ بها الإنسان العاقل المُندهش أمام سحر وغموض الكون والطبيعة من حوله، الميّال إلى تذويب حالة الانفصال من خلال توق متأصّل في النفس لبلوغ نشوة الإتّحاد والتلاشي. هي تجربة إنسانية تفيض من منابع قصيّة عن كل إدراك عقلي لذلك فهي خصيصة الشعراء والمتصوّفة السابحين في أنهار الميثولوجيا الساحرة، المجهولة المنبع والمصبّ، الهائمين في الملكوت بحثا عن حقائق علوية تجاوز حدود العقل والمنطق البشري .
الخوض في موضوع العلاقة بين الحب والفلسفة قد يبدو مجازفة، خصوصا إذا ما استحضرنا الهوة السحيقة التي تفصل بين مفهومين ينتميان إلى دائرتين متباينتين، فالفلسفة معرفة منطقية تُعلي من قيمة العقل وتجعله مرتكزها وأساسها، وكل مسألة تستعصي مقاربتها ضمن نطاق العقل تُصبح في دائرة اللّامعقول، ولأنّ الحب شعور وجداني يصعب تعيينه وتشريحه بمبضع الفلسفة العقلاني، فإنّه يصير مضادا للعقل ومناقضا لقواعد التفكير المنطقي.
بذلك فإنّ مفهوم الحب لم يُثر اهتمام أغلب الفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة الطويل، فقد كان انشغالهم الفلسفي ينكب في دائرة المعقول من خلال أسئلة تتصل بالوجود الإنساني وسؤال الماهيات والإرادة والحرية والأخلاق وغيرها من الإشكالات التي شكّلت جوهر كل تفكير فلسفي رصين. غير أنّ الفلسفة لم تنفصل يوما عن الحب، فمنذ بداياتها الأولى درج الفلاسفة على تعريفها بأنّها حب الحكمة أو محبة الحكمة، فهذا الحب أو الشغف بالحكمة هو مايقود نحو التفلسف ،الحب إذا هو تلك القوّة السحرية التّي تُعبّد الطريق نحو الحكمة، وما الحكمة على هذا الأساس إلاّ شكل الحب وهو في حالة اكتماله وبلوغه مداه ومنتهاه.
تأتي الرغبة في مقاربة سؤال الحب فلسفيا، من محاولة الفيلسوف لعقلنة اللّامعقول وقد كان أفلاطون أوّل من سعى من الفلاسفة لتناول إشكالية الحب تناولا فلسفيا يضعها في عمق المعقول الفلسفي، ولعل محاولة أفلاطون هذه كانت في مرحلة تاريخية شكّلت بواكير التفكير الفلسفي، وهي مرحلة لم يتحرّر فيها اللوغوس بعد تحرّرا كاملا من سطوة الميثوس، هذا التغلغل والتمازج بين العقل واللّاعقل في هذه المرحلة هو ما أكسب مفهوم الحب هذا الحضور الأساسي والمتوهّج في فلسفة أفلاطون و في محاورة المأدبة تحديدا. أفلاطون ذاته صوّر الحب بأنّه ضرب من الجنون وهوس إلهي، أي أنّ الحب خبرة إنسانية يصعب تشكيلها في قوالب العقل والمنطق.
سيعود سؤال الحب، للتموقع في دائرة الإشكال الفلسفي ،مع الفلاسفة المعاصرين كآلان باديو ولوك فيري وأندري كونت سبونفيل ،وكأنّ العقل أكمل دورته حول ذاته واصطدم بحدوده ، فأدرك الفيلسوف أن الحب وإن استحالت مقاربته بشكل عقلاني ،فإنّه يظلّ هاجسا للإنسان ومُحدّدا لشرطه الوجودي.
الحب في مأدبة أفلاطون
تُعدّ مأدبة أفلاطون مرجعا أساسيا في فلسفة الحب ،رغم أنّ أفلاطون لم يتناول مفهوم الحب تناولا فلسفيا مجرّدا ،لكن استحضره باعتباره إلها ” إيروس” ، وقد كان للإغريق القدماء تصنيفات دقيقة المعنى لمفهوم الحب ،حيث أنّ الحب يتخذ ثلاثة أشكال من بينها حب الإيروس Eros، موضوع محاورة المأدبة ، وهو حب يتأسّس على الرغبة ، إيروس في الميثولوجيا اليونانية هو إله الحبّ والرغبة الجنسية ، وقد وظّفه أفلاطون في المأدبة باعتباره تجسيدا لتلك القوة الجبّارة التي تبث في نفس الإنسان بذور الرغبة الجامحة ، إيروس قوّة اشتهاء ونزوع نحو إشباع الرغبات.استعمل الإغريق أيضا مصطلح فيليا philia، وهو حب الصداقة أو الحب بين الأقارب الذي يخلو من كل اشتهاء جنسي ، أما لفظ Agapé فهو يشير إلى حب خال من المنفعة ، حب روحاني منزّه عن كل ما هو حسّي أو مادي .
درج التقليد الأثيني القديم على اعتبار التربية الجنسية غير منفصلة عن نظام التربية والتعليم، وهو ما كان يُعرف ب Pédérastie، وهو مفهوم لا علاقة له بتصوّر المجتمعات الحديثة لعلاقة المراهق بالبالغ والتي تُعرف بالبيدوفيليا . التأسيس لهذا الحب ذي الصبغة الذكورية المحضة كان يندرج ضمن نظام تربوي تعليمي، من خلاله، تنشأ علاقة ايروسية بين المعلّم، الذي يكون رجلا ناضجا وفي الغالب متزوجا وله أطفال ، وبين مريده أو تلميذه المراهق المتلهّف لتشرّب خبرة ومعارف أستاذه ،ضمن هذه العلاقة الحسّية الإيروسية يقوم المُربّي بتمرير القيم الإغريقية في إطار تكوين بيداغوجي يؤهّل المتعلِّم، المراهق، لتحمّل مسؤولياته المستقبلية- في دولة المدينة-، كمحارب ومواطن أثيني.
إنّ هذه العلاقة أشبه بتقليد باطني يتأسّس على فكرة السر أو المعرفة الباطنية غير المتاحة لعامّة الناس ، ولعلّ هذا الوجه الإيروسي الذي تتخذه العلاقة أقرب ما يكون إلى طقس مرور Rite du passage ، يتم من خلاله تلقين المراهق معارف وأسرار معلّمه، إنّها أشبه بعملية تمرير المعرفة من الوعاء الممتلئ ( المعلّم) إلى الوعاء الفارغ ( المُريد) . ولعلّ هذا الأمر كان مقبولا في مجتمع ذكوري لم تكن للمرأة فيه مكانة فكرية ولا إنسانية بارزة، بل كانت كائنا هامشيا وظيفتها الوحيدة المساهمة في إنتاج نسل جديد ،فالرجل مؤهّل أكثر من المرأة للخوض في ماهية الحب التي لم تكن منفصلة عن المعرفة والتعليم.
يرى أفلاطون أن إيروس ينشأ عن إحساس بالفقدان واشتهاء لما لا نملك ، إيروس رغبة محمومة تقودنا نحو امتلاك موضوع خارجي، موضوع نفتقده ونشتهيه. لقد قدّم- المؤلف المسرحي – أرستوفان في المأدبة، تمثيلا أسطوريا بديعا عن طبيعة إيروس، من خلال نسجه لأسطورة الإنسان الخنثى. إذ أنّ الإنسان، حسب الأسطورة، كان في البدء مزدوج الجنس، ولما تعاظم سلطانه أراد أن ينافس الآلهة ، فما كان من الإله زيوس إلاّ أن عاقبه بشقّه إلى نصفين، نصف ذكري ونصف أنثوى ، ومنذ ذلك الحين أصبح كل نصف يحّن ويشتاق إلى نصفه المفقود ، ومن هنا نشأ إيروس من هذا الفقدان والحنين .
تعدّ مرافعة أرستوفان عن ماهية إيروس ، واحدة من مداخلات عدّة تمت حول مأدبة عشاء كان موضوعها الأساسي هو الثناء على الإله إيروس ، وقد افتتحت هذه المأدبة بمرافعة لفايدروس، الشاب الارستقراطي، يشير فيها إلى قِدم وعظمة هذا الإله : “الحب هو أكبر الآلهة سنّا وأنبلهم وأقواهم ، وهو المُوجد الرئيسي لكلّ الأشياء ،وواهب الفضيلة والسعادة والحياة بعد الموت “[1] .غير أنّ بوسانياس يرى أنّ تصوّر فايدروس عن الحب يفتقر للدّقة ، ذلك أنّه اكتفى بتناول جانب من جوانب الحب ،و أغفل طبيعته المزدوجة ، ولأنّ الحب غير منفصل عن الإلهة أفروديت ، فالحب إذن حبّان ، حب مرتبط بالإلهة أفروديت العّامة أو المبتذلة ،” وهو حبّ مشاع بالضرورة ، ويحرِّك النوع الأحقر من الرجال فيتخطّى حبهم حب النساء إلى حب الشباب ، ويُغرمون بالجسد بدل الرّوح ، وهم يقومون بفعل الخير والشر بدون أيّ تمييز .” [2]، أمّا أفروديت السماوية فإنّ نسلها لم يولد من الأنثى بل من الذكر ، لذلك فإنّ هذا الحبّ المرتبط بها، يستميل قلوب العاشقين للذكاء الفطري والتوهّج والبسالة ، وهي صفات مرتبطة حصرا بالرجال في مجتمع أثيني ذكوري.
سيُقدّم الطبيب أريكسيماخوس بدوره قراءة علمية عن الحب ، إذ يصف الطب بالفنّ الذي يُعنى بمعرفة حب ورغبات الجسد وكيفية التعامل معها سواء بإرضائها أو قمعها وكبح جماحها ، ويدعو أريكسيماخوس إلى الحب المعتدل المتولّد عن التآلف والصحة والوفرة ، ويرى أنّ أفضل الأطباء هو من يقدر على أن يفصل بين الحب الجميل والحب الكريه وذلك بزرع بذور المحبّة واستئصال الكراهية المدمّرة .
كانت مداخلة الشاعر أغاثون باذخة الجمال والشاعرية ، فقد صوّر الحب كإله فتِّي وبأنّه الإله الأكثر قداسة وجمالا ، أغاثون يختلف هنا مع رأي فايدروس، الذي اعتبر إيروس من أقدم الآلهة وأكبرها سنّا. يؤكد أغاثون على فتوة الحب فهو الممتلئ شبابا ، وعظمته تتجلّى في أنّه مُلهم الشعراء بل هو شاعر في ذاته ، والحب خيِّر وجميل ومصدر للرّقة والترف والنعمومة والرشاقة . غير أنّ سقراط الحكيم ، المُندهش والمعجب بجمالية وشاعرية مديح الشاعر أغاثون للحب ، لن يستسلم لعذوبة وجمالية هذه الخطبة ، بل سيقوم كعادته باستدعاء إيروس من فضاء الشعر ، ليستنبث جذوره في تربة العقل والمنطق ، سيُجرّد سقراط إيروس من صفة الألوهية والقداسة ، ليجعل منه كائنا وسطا ، يتراوح وجوده بين الإلهي والإنساني ، فالحب حسب سقراط لا هو بالجميل ولابالخيّر لأنّه متعطّش ومفتقر للجمال والخير . غير أنّ سقراط سيعود مجدّدا للأسطورة في كلامه عن الحب ، وذلك من خلال استعراض كلام ” ديوتيما “، المرأة الحكيمة ومعلّمته فنّ الحب .
لكن أليس من الغريب أن يعهد أفلاطون أهمّ مداخلة في المحاورة لامرأة ؟ ما سرُّ هذا الحضور الأنثوي المتواري، الخافت والقوّي في آن واحد ، في موضوع استأثر اهتمام النخبة الأثينية من الرجال ؟ لماذا اكتفى سقراط فقط بسرد محادثته مع ديوتيما عن الحب ؟ هل كان سقراط متشكّكا في قدرته على تناول موضوع كهذا رغم حكمته المعهودة ورجاحة عقله وموهبته في فن توليد الأفكار ؟ هل المرأة أعلم بفن الحب من الرجل ؟
سقراط متحدّثا بلسان دوتيما
إنّ جوهر الحب في محاورة المأدبة يرتكز على فكرة الولادة ، فالحب ولادة في الجمال ، وكل البشر مؤهّلون لفعل الولادة ، سواء كانت ولادة جسدية أو فكرية ، بهذا المعنى فإنّ استدعاء ديوتيما الحكيمة وجعلها حاملة لباب فلسفة أفلاطون في الحب ، لم يكن اعتباطيا ، فالمرأة هي أعلم البشر بفعل الولادة . لقد ارتأى سقراط أن يعهد بمداخلته في الحب لديوتيما ، فهي أعلم الناس بفن الحب بما هو فعل ولادة وخلق. ومما لاشك فيه أنّ سقراط نفسه اعتمد في محاوراته على منهج التوليد للوصول إلى الحقيقة والمعرفة وهو من أكّد أنّه يقوم بتوليد الأفكار كما كانت أمه القابلة تولّد النساء.
إلى جانب ذلك، يمكن القول أن توظيف أفلاطون لشخصية ديوتيما كان بهدف إبراز الحضور المركزي للآخر في تجربة الحب ، فديوتيما ترمز للآخر المختلف عن ذواتنا والذي لايمكن الولوج إلى عوالم الحب من دونه . وقد مثّلت شخصية المرأة في هذه المحاورة تجلّيا لهذا الآخر الغريب في جلسة عشاء كانت حكرا على الرجال . ولعلّ هذا الحضور الافتراضي لشخصية الحكيمة ديوتيما ينطوي على رغبة أفلاطون في عرض تصوّر جديد عن الحب ، تصوّر ينزع إلى تفعيل دور المرأة من خلال رمزية الولادة في الجمال ،كما أنّ المرأة هنا ترمز للمختلف والعصيّ على الإمساك ، ولمّا كان إيروس ينشأ عن إحساس بالنقص واشتهاء لما نملك، فإنّ هذا الحضور المُحتجب للحكيمة ديوتيما ،كان خير تمثيل لهذا الإيروس الذي يتغذّى على النقص والغياب.
لقد كان صوت ديوتيما في محاورة المأدبة مُعبّرا عن لب فلسفة أفلاطون في الحب ، فالحب كما أشرنا سابقا ، لاهو بالإلهي ولا بالإنساني ، بل هو وسيط يعبر الإنسان من خلاله إلى الجمال في ذاته والخير في ذاته .إنّ الإيروس الأفلاطوني هو مُحرّك الجدل الصاعد وهو الوسيط الأنطولوجي والمعرفي الذي يُساهم في عملية الارتقاء من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات أو عالم المُثل .
بناء على هذا التصوّر الأفلاطوني للحب، والذي يضع تجربة الحب في صلب سؤال الوجود والمعرفة ،يمكن القول أنّ التجربة الإيروسية تمثّل تحدّيا معرفيا وانطولوجيا لكل إنسان لمس إيروس قلبه ، ذلك أنّها تستدعي في المُحبِّ الكثير من الشجاعة والمسؤولية لكي يكون مؤهّلا لتبنّي خيار ايطيقي يُمكّنه من إستكناه جوهر الحب والقبض على ماهيته المُفارقة لعالم المحسوسات ، فالحب لا يقود إلى الجمال والخلود إلاّ النفوس المتعطّشة لملامسة الجمال المطلق والإبحار في عوالم الأبدية والخلود، أما النفوس الخاملة فلا يُقذف فيها هوس الحب لأنّها لم تبلغ بعد درجة الفيلسوف، المُمتلئة نفسه جمالا وفضيلة.
الهوامش
[1] أفلاطون :المحاورات الكاملة ،محاورة سمبوزيوم -المائدة ،ترجمة :شوقي داوود تمراز،الأهلية للنشر والتوزيع ،بيروت ، 1994، ص: 110
[2] المصدر نفسه ، ص : 111
المراجع
- أفلاطون : المحاورات الكاملة ، ترجمة : شوقي داوود تمراز ، الأهلية للنشر والتوزيع ، بيروت ، 1994
- أفلاطون : محاورة ” المأدبة” ، ترجمة :علي سامي النشار، دار الكتب الجامعية ، 1970
- ماري لومونييه وأود لانسون :” الفلاسفة والحب ” من سقراط إلى جان بول سارتر ، ترجمة :دينا مندور ، دار التنوير للطباعة والنشر ، القاهرة ، ط1 ،2015
- زكريا إبراهيم: ” مشكلة الحب ” ، دار مصر للطباعة
Platon :Le Banquet,Présentation et traduction par Luc Brisson ,Edition Flammarion 2007