الرئيسية | فكر ونقد | العروضية غالية أبو ستة: شعرية قضايا متعددة داخل القضية الأم | احمد الشيخاوي
غالية أبو ستة

العروضية غالية أبو ستة: شعرية قضايا متعددة داخل القضية الأم | احمد الشيخاوي

احمد الشيخاوي

 

طالما جذبتني إليهاــ طائعا ــ  ولم تزل حدائق الأدب الفلسطيني المشهور والثري بتشعب قضاياه وتشوّكها وتشابكها داخل قضية أمّ لا مناص من اختلاق دروب إليها كمنبت نابض بأهلية الحقّ وسائر ما تذكيه شموع إنسانية تصبو إلى خاتمة الحرية والخلاص.

كأنها طقوس اقتراف كتابة تفسح وتتيح لانرسام القصيدة في ملامحها الثورية الرافضة لغوغائية الراهن، من منطلق أبنية ذاتية تروم اتجاهات تنير الهوامش وتعيد صياغة وإنتاج المعنى تبعا لإرهاصات المواقف والمواضيع.

ما بالك حين يجيء بنكهته العلقمية ليُدين العالم ويوبخه بلا هوادة،انحيازا إلى قصائد لا تهادن وازديانا بشعرية يدبّجها صوت نون النسوة المهجري الطنّان المستساغ.

معاضدة للرسالة البليغة والفحوى المنتصف للقضية بشتى ما تجود به الذات من حمولة تراكم وتدافع الهواجس المغذاة بحسّ الانتماء ،وتفضي به من جراحات تكاد تنطق بها صنعة تطويع لغة الضاد وطابع منح الرؤى  الأغلفة التخيلية الوثيرة و  التصوير الفني الأليق والدال على قدرة الذات وضلوعها في التقاط واحتواء الشارد من التفاصيل المفجّرة للصدى المطلوب.

كمرايا عاكسة للدّفين على نحو توصيفي تركيبي،عبر فعل إبداعي رصين ،ضاغط ومفض إلى مستويات استفزاز طبقات اللاوعي،كضرب من تحفيز للأسئلة المربكة والمقيمة في وجع المواطن العربي المقهور بين حقوقه المهضومة و واجباته المدموغة برواسب تاريخية تجترّ لحظة الخنوع والهوان والانكسار والاستعباد والاستبداد في شموليته وتعسّف مضامينه.

من هذه الخلفية تناضل شاعرتنا،دافعة بالمتلقي إلى اكتشاف عوالم يتدفق بوحها غضا نضرا برودا، ليفيض عن التجربة الشخصية ويتخطاها إلى معاناة إنسانية ممتدة ومولّدة لآفاق ذائبة مع طاقة استشراف المجهول لدمجه مع مخزون الذاكرة و إبرازه في حلته القزحية العالمية العابرة لجغرافيا اللون والعرق والعقيدة ، كممارسة حية وواقعية صاعقة بلسان الحالة الإنسانية إجمالا.

 وفي كشفنا المنكفئ على زخم اقتباسات من الرصيد العروضي لشاعرتنا، ما يزكي  الذي ذهبنا إليه.

“هُنّا وهَان القدسُ بين طوائف
بالحكم من جَورٍ يهيلُ رَيابا

بعروش حكم جورها- بلغ الزُّبى
سفحت دماءً بالنّفاقِ -تُحابى

يبكون سفاحاً ويسقونَ الخنا
تعوي الكرسي- تستحيلُ رَهَابــا

فبقدسهم عاثت شراذم عُصبة
قد فرَّطوا -والبـــــــــينُ سنَّ نيابــــا”

……………
“في أيك بان بميس هام في نغم
فأزهِرَ العودَ تفاحاً ورمانا
واليوم يبكي على أنغامها جزعاً
يعلو ويهبط بين النبض ولهانا
حمامة الأيكِ سام البين خاطرها
بين الرياض التي حنَّت لملقانا
ظمأى ترفُّ على الشطآن ساجحة
من حُرقة الشوقِ عاشَ القلب عطشانا
يا ساريَ البرق هل أبصرتَ لي قمراً
تاهت دروبٌ به أهدت منايانا
شاحت نجوم الليالي عن سوامرنا
والليل من وحشة التسهيد غطّانا”

…………..
“من شذا الريحان في حضن التّلاقي
رنّمَ القيثار شوقَ الزيزفــونِ
من سحاب في رهامٍ جاد يهمي
عذبَ هطلٍ عازِفاً بين السكونِ
في بساتين الجنى كم ضاعَ نفحُ
ذابلَ الأفنانِ أينعَ بالهتــونِ
يشتكي من لفحِ قسوٍ بجفافٍ
في قلوبٍ من بتول الياسمين”
……………….

“أيُّها الكون كفى ضخّ سّلاح
تحتفي بالموتَ تبخلُ بالطّعام
فانثر الأنوار من باهي نُّجوم
لا بفسفور المنايا للأنـــامِ”
………………..

“ما بيننا غشّى الرؤى
أشلاء أطفـالٍ مطر !
يا عيد تبكي من ومن
تلُّ الضحايا من بشـــر
في الشام في اليمن السعيد
وفي العراق – همى مطر
والقدس في غصب طغى
يا ويل قلبٍ ما انفطر”
………………..

“عن بنِّ صنعا لا تسل
تُبكِي فناجينَ السّمر
عن أيلِ قدسٍ نافرٍ
لا تسألنْ- بئس الخبر
أطيار قدسٍ في علٍ
تهدي هديلاً من مطر”

…………
“بين النجومِ تسامقوا
يُكَلّلُ العُــرسَ القمـر
في الليل والفجر الصهيل
والفقدُ والقاني غمــر
من مارجِ الغضبِ النبيل
وقد تفـــرّع وانهمـــر
خاطَ الضياءَ بشائراً
ضرمَ اللهيب بِنُصب شَرّْ”

……………..

“أمّي أبي وحش الضياع يعضّني
وجوارح الإخفاق تنهش مهجتي
بين السما والأرض ضاعت خطوتي
والرّعب يخطف من منامي هجعتي
أنا محض أشلاء وتصرخ في الفضا
بين الوحوش الضاريات ودمعتي
ماذا فعلتُ شُنقتُ وانفتقت عُرى
أمّي أبي هل تفلقاني ويـــلتي”
………………….
مغرومة بالحسنِ حثت خطوهــــا
بين المروج الخضر أو بين الــخزام
لمّاحة هدباء ترخي رمشهــــا
” والجيد لا يدنو لربـــــــقٍ – أو يُضــام
………………….

“يا حرَّ شكوانا وشكواك اعتلت / من غير ما نبس ببنت شــــــــــفاه

باعوا حمانا واستزادوا قسوة /في الرَّدم يشـــــــــــكو طفلنـــا لله

والنرد والكأس المعتّق ذلة / بين الدما وتنـــــــــــادم ٍ بِســـــِــفاه

فاصفق لهم يا عار كون ظالم /وارشــــــف دم السفّاح والأشباهِ”

إنه معجم ثري بإيحاءاته ،وإن صهل بمفرداته الموحشة أحيانا، فلكي يضرب للذائقة موعدا مع استلهام المتجاوب مع الحالة والمطوّق للظرفية والمندغم في اشتراطات وموجبات الهالة والقدسية المفترض أن تحاط به القضية الكبيرة انتهاء.

هكذا نلفي التناولات وإن تشعّبت بها زوايا المعالجة والطرح، بين العاطفي والملحمي والتنويري والكاريكاتيري ،تسبح مع تيار إشباع الفكر بالأحاسيس ،وفق الأسلوبية المائزة والرائقة التي تتلقفها الهمم و ترصدها النخوة الآيلة لردود فعل موقوتة.

مخطئ جدا و واهم من يزعم أن الممارسة العروضية تكبل المخيال أو تجهض المعنى.إنها كتابة الألق الشاهد على مضض بمنعطف حسم ولحظة ابتلاع القضية الأم، القضية الإنسانية الأولى،القضية الفلسطينية، مهما تفرّعت عن مأساتنا القضايا ،كأن لا قراءة لها في سوى الصفحات الدامية ، ولا معايشة لأنفاسها في غير دراما تاريخية تتكرر.

*شاعر وناقد مغربي

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.