رحال لحسيني
“الشيخ والبحر”، الرواية (أو القصة) الشهيرة للكاتب الأمريكي “أرنست همنجواي” (1) والتي كانت وراء فوزه بجائزة نوبل للآداب وبجوائز أخرى قبلها وبعدها، وتم تحويلها إلى عدة أفلام سينمائية (2) وتلفزيونية فضلا عن ترجمتها لعدد من اللغات منها العربية في أكثر من ترجمة… (3)؛
فرغم عدم استقرار الرأي حول ما إذا كان هذا العمل السردي الخالد رواية (قصيرة) أم قصة (طويلة) فقد ظلت “الشيخ والبحر” نصا إبداعيا عظيما يغوص في أعماق النفس البشرية مدا وجزرا ويسبر أغوارها انطلاقا من موضوعة صراع الإرادة والمواجهة المفتوحة ضد الاستسلام مهما تعددت العوائق والمثبطات وتوالت مكائد الزمن وطال أمد تحقيق المبتغى.
يقوم “أرنست همنجواي” في هذا العمل الإبداعي الخالد بنحث قيمة العزيمة في حياة الأفراد بتسليط الضوء على الصراع التاريخي للإنسان مع الطبيعة لتطويعها لفائدته.. وغير ذلك من القيم والمعاني والرسائل العميقة التي تبقى طازجة عند تتبع مسار وسيرة وأجواء وظروف عيش الشيخ، هذا البحار النحيف الذي لم يسعفه الحظ على صيد أية سمكة طيلة 84 يوما من نزوله المسترسل للصيد، حتى أنه أصبح عرضة للسخرية من طرف البعض، لكنه لم يفقد الأمل في تجاوز “حظه العاثر” إلى أن تحقق له ذلك حيث علقت “سمكة كبيرة وفاخرة” في صنارته..
ولأنها كانت ضخمة جدا استحقت منه المغامرة للفوز بها، فلم يتوانى عن مجاراتها في عرض البحر يومين متتالين، بليلهما ونهارهما، حتى تغلب عليها وأحكم ربطها إلى مركبه الشراعي الصغير..
لقد كانت عزيمته أقوى، ظلت متقدة تدفعه في اتجاه تحقيق حلمه، لم تخضع لتأثير الاختبارات السيئة، الصعبة والمتعبة التي تعرض لها، ولم تهزها الصورة السلبية التي حاول البعض نسجها حوله،.. فتمكن من اصطياد سمكة أكبر من أن يستطيع مركبه حملها.
***
يستطيع الإنسان العيش بدون جدوى حينما لا يعزز وجوده بالإرادة ولا يقويها بالإصرار وبالقدرة على الانتشاء بمواصلة الصراع مهما كان قاسيا ومزعجا، حينما يكون مجبرا على ذلك، لكنه يعيشها بدون متعة حقيقية حينما يركن للاستسلام، ولا يرفع من درجة تشبثه بالعزيمة التي تظل زاده الوحيد والمحفز الجوهري لوجوده، ليكون جديرا بالحياة في وجه إكراهات الزمن وكبواته وانكساراته حتى لو لم تتح له في فترة ما إمكانية المواجهة (المباشرة) معها أو ترفع عنها عندما لا تكون مؤدية إلى هدفه واضطر لمواجهتها بالصمت، مادامت أشكال المواجهة متنوعة!
***
في اليوم الخامس والثمانين؛ قال “سانتياغو” (الشيخ) كلمته، واستند على إرادته وتجاربه كصياد خبر البحر في صيد السمكة وفي ترويضها دون اهتمام بما يفكر به الآخرون اتجاهه، استحضر حنكته ورؤيته للأشياء عند مجاراته لجموحها..
وكذلك في مقارعته للقروش التي هاجمت صيده الثمين.
اعتمد الشيخ على طول نفسه، فالنصر قد يأتي متأخرا، أحيانا، وتبدو قيمته كأنها أصبحت متجاوزة، خصوصا حين يرتبط بخيبات غير منتظرة، لكنه انتصر، رغم ما كلفه ذلك من طاقة وجهد كبيرين في صراع محموم مع خصم لذوذ تحول إلى ما يشبه “الصديق” مع مرور الزمن.
***
بعد رحلة صيد شاقة، لم يتمكن الشيخ من الوصول إلى اليابسة بسمكته كاملة، لكنه لم يخضع للقروش ولم يتركها لها أو يرمي بهيكلها العظمي لإبعادهم، ظل متشبثا بمجابهة كل الأخطار التي حدقت به إلى آخر الرحلة.
ورغم أن نتيجة جهده لم تمنحه في المحصلة أي عائد مالي فعلي، إلا أنها لن تحرمه قيمة انتصاره أو انتصاراته المتعددة على حظه العاثر والسمكة والقروش وعلى نفسه أيضا.. فأبقى باب الأمل في قدرته على الصيد مشرعا.
***
رغم صراعه المرير مع القروش دفاعا عن سمكته، التي لم تستسلم له بسهولة، أوحى نادل مقهى الشرفة بالميناء لسائحة بأن “العمود الفقري الأبيض وفي آخره ذيل ضخم كان يرتفع ويتأرجح مع المد” (4) المتخلى عنه وسط الأسماك الميتة وعلب الجعة الفارغة خارج مدخل الميناء، هيكل عظمي لقرش وليس لتلك السمكة التي قاومت بجدارة وانهزمت بشرف أمام عزيمة بحار صارعها بشهامة، وقاتل بشراسة للاحتفاظ بها وحمل ما تبقى منها معه؛
فحظي القرش بعبارات الثناء من السائحة التي أعجبت بالعمود الفقري والأذناب الوسيمة للسمكة الجميلة، اعتقادا منها أنها لأحد القروش في حين الأخيرة دمرت رونقها.. ثم نالت الثناء بدلا منها، والذي لم ينله حتى الشيخ الذي عارك السمكة بشرف ومنحها الوقت الكافي لتستنفذ شموخها ويظفر بها على مهل.. وعشقها في عز صراعه معها.
فربما يعود الأمر إلى صمت “سانتياغو” وعدم اكتراثه بسرد قصصه ومغامراته، إلا ما رشح منها للصبي “مانيلو” الذي لم تهتز ثقته بقائده ومعلمه، رغم انتقاله مجبرا للعمل في قارب آخر، إثر عدم اصطياد “سانتياغو” ولو سمكة واحدة، بعد مرور الأربعين يوما الأولى حين تواجده معه..
فهناك دوما من تحملهم صدف معينة لمكان أصحاب القضايا الحقيقيين الذين يتم تغيبهم ونسب حكاياتهم أو تضحياتهم ومآسيهم حتى… لغيرهم؛
غير ذلك لم يمس بقيمة ما جسده الشيخ من إرادة وعزيمة وإصرار.. وانتصار ظلت تشع به عينينه الفرحتين اللتين لم تخترقهما الهزيمة رغم العوائق والظروف المعاكسة والتعب الذي تسرب أحيانا إلى دواخله وهو يتطلع إلى باستمرار البحر!
الجديدة، 17 غشت 2017
1 “الشيخ والبحر”: رواية (قصة) من تأليف “أرنست همنجواي” (1899/1961) نشرت سنة 1952؛
– ترجمة الدكتور علي القاسمي، كاتب عراقي مقيم في المغرب؛
– منشورات الزمن (روايات الزمن 2008).
2 يشير المترجم في تصديره للكتاب لأسماء بعض الأفلام المنجزة حول “الشيخ والبحر” بدءا سنة 1958 من إنتاج هوليود، وكذلك لأبرز من جسد شخصية البحار العجوز في السينما (الممثل العالمي أنطوني كوين)
3 يضم الكتاب دراسة بعنوان “في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة” يقارن فيها المترجم (د. القاسمي) ترجمته لـ”الشيخ والبحر” وترجمتين صدرتا قبلها.
4 الصفحة 110 من الكتاب.