للسينما علاقة مؤبدة بالأدب بكل تصنيفاته، وهي علاقة متينة ممتدة في الزمان والمكان، وضرورية لا يمكن بأي حال من الأحوال فك هذا الارتباط مهما حاول أحد أو بشر بالدعوة لاستقلالها عن الأدب، فهي مدينة له بالعديد من الروائع السينمائية الخالدة، حتى ولو ذهب بنا القول إلى أن السينما ظهرت في مراحلها الجنينية باستثمارها لعناصر بعيدة عن مؤسسة الأدب، إذ غالبا ما نقلت الكاميرات الأولى صورا ومشاهد طبيعية متحركة صامتة أو مصحوبة بموسيقى في أغلب الأحوال، وهكذا مع ذلك تظل بحاجة إلى الأدب بكل أجناسه من قصة ورواية وشعر.
كلنا نعلم ما أصبح للصورة من سلطة قوية التأثير أكثر بكثير طبعا من القراءة الورقية المتأنية التي تستغور مفاصل وتمفصلات الصور الشعرية المغرقة في الغموض أحيانا والرمزية واستكناه معانيها العميقة ثم استنباط مكامن الجمال فيها ! في حين أن الصورة السينمائية تصل مباشرة إلى الحواس، فتستحوذ على المشاهد، تبهره فيحصل الانفعال والانجذاب والتجاوب التلقائي ويتعمق الشعور بالرؤية الفنية والرؤى الإبداعية ككل، فيصبح عنصرا فاعلا مشاركا لا متلقيا سلبيا مستهلكا، إذ تطوح به اللقطة أو الصورة في كل منحى واتجاه خالقا لنفسه هو بدوره عوالم موازية لعالم الفيلم فيبدع هو أيضا عالما فنيا خاصا، وهذا ما يدخل كما في عالم الرواية أو السرديات في إطار نظرية التلقي عند ياوس ومدرسة كوسطانس الألمانية، التي جاءت بمفاهيم المتلقي الضمني، وذخيرة النص وفراغات النص، والتي تعتبر أن أي عمل إبداعي هو في المحصلة النهائية موجه وآيل للتلقي من طرف متلق مفترض فيه أنه مدجج بأواليات التمحيص والتفكيك والتأويل والرغبة في تدوير و”رسكلة” المعطى الآني لإنتاج إبداع جديد، كل وفق ثقافته وميوله، ونزوعه ومرجعياته ومستوى ثقافته، ويظهر ذلك جليا حينما ينغمس تعاطفا مع حدث أو شخصية، فيتدخل ذهنيا تارة مشجعا وتارة فرحا يتأمل ويفكر، يندمج يحلل، وبسلوك كهذا تجده يشارك في إعادة صياغة وتخصيب فيلم آخر جديد مواز للفيلم الأصلي، وهنا أيضا بل من هنا أيضا تكتسب الصورة الشعرية من خلال هذا التفاعل الإيجابي في التلقي قيمتها ودلالتها وشكلها ومعناها الصحيح.
للجاحظ مقوله يقول فيها: الشعر فن تصويري، فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير . والصورة الشعرية كما هو متعارف عليه هي عملية تفاعيل متبادل بين الشاعر والمتلقي للأفكار والحواس من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعرية تعتمد على التشبيه والمجاز والاستعارة والانزياح وتجويع اللفظ وإغناء المعنى، ولها قدرة هائلة على تكثيف الواقع. فالصورة الشعرية متخيلة وتستمد معناها من خلال العلاقة بين الكلمات وبواسطة الكلمات كذلك، بينما في السينما فهي محسوسة يعني تستمد معناها من خلال العلاقة بين اللقطات والحركة البصرية، أي لغة الكاميرا.
والنص الشعري أو القصيدة نص ذهني أو سلسلة من الصور التي تتخذ من الورقة المكتوبة رسولا للملتقي بخلاف الفيلم وتفنناته الصورية والصائتة المحسوسة والمتحركة والتي تكسب الصورة شحنة دلالية إضافية. وبالخروج من روتين الحكاية وبانتفاء الحدود الجمركية بين الأجناس، الأدبية، شعر، قصة، رواية، هايكو، بدأت تتحقق بينها سمات مشتركة وتعالقات خاصة على مستوى ماء الحكي الذي يسري في جسد كل الأجناس المومأ إليها أعلاه، وبفعل تقنية الهدم والتدمير والإنشاء الذي أضحى يطغى على العديد من الكتابات التجريبية بخاصة، صرنا نشعر بتواشج وتشابه في بنائها الجديد، بعيدا عن النشر المعهود، قريبة من الكولاج الشعري والسينمائي، فأضحت تبتعد في بعض مناحيها، كما قلنا، عن النثر والخط السردي والحبكة والتسلسل ككل، كما في القصة الجديدة مثلا، إذ أصبحت اللغة هدفا في حد ذاتها لا قناة موصلة، وفي السينما أصبحت الصورة واللقطة في الفيلم السينمائي هي ذريعة لقراءة المتواري وما تضمره أكثر مما تبديه، وتستفز المخيلة والوجدان لأننا ندرك جيدا أن اللعب على الوتر العاطفي للمتلقي بالكلمة العذبة والمشهد الانفعالي مؤثر إيجابا.
هكذا لجأت السينما كما الشعر للصور الموحية لتحقيق العناصر الفنية الشعرية التي تتجلى في التكثيف والتشبيه والإيجاز والإشارة، (وهذا موضوع آخر يتعلق باستلهام شعر “الهايكو” ككولاج سينمائي لأنها ترصد بصرامة ودقة غاية في الإيجاز مشاهد حياتية كفيلة بخلق شعر وإنتاج شاعرية باذخة). لكن هناك فرق بين الشاعر الذي يبدع قصيدته بصورها الشعرية في خلوته بعيدا عن الآخر وأضوائه وضجيجه بخلاف المخرج السينمائي الذي يعتمد في حقل إنتاجه الفني على ترسانة معتبرة من المهندسين وفيلق آخر من التقنيين وفرق من المهتمين في الجماليات والتجميل. وهذا لا يمنع أيضا في اعتبار أن الشاعر له حضور واستحضار مكثف لما لا يعد ولا يحصى من الكتب والكتاب والشخصيات والقصائد والملاحم والعديد من تجارب الشعراء، حتى وهو يخلق ويبدع في محرابه وبالرغم من كونها فنا شعريا مستقلا غير أن القصيدة تتماهى مع السينما في اعتمادها على فن الصورة والموسيقى والإيقاع الموسيقي الذي يعتبر صفة مشتركة بين الفنون جميعها، لكنه يبدو واضحا في الموسيقى والشعر والرقص، هذا إضافة إلى الفنون المرئية ومنها الإيقاع البصري في السينما طبعا.
ولعمري فإن أجمل اللقطات السينمائية هي تلك المستمدة من قصيدة أو شذرة ألهمت وجدان مخرج. هناك قصائد مكتوبة بصرية أي بالصورة، فيها لقطات موازية للكلمات في القصيدة، تخاطب الذات المتلقية وتخترق الحواس، نعالجها بالعين اللاقطة والذائقة الراقية، فتحول كل هذه المشاهد المرئية إلى عوالم متخيل، بأبعاد لا متناهية، فرقصة زوربا مثلا في الفيلم العالمي “زوربا الإغريقي” تعتبر لوحة، بل مشهدا، بل قصيدة قائمة الذات، ضاجة ومفعمة بالانفعالات والأحاسيس المدهشة، حيث في نظري الشخصي تعبر عن حالة وجدانية، وصل لها البطل ألكسيك زوربا وسيده بعد أن استنفد حقه وحظوظه من النجاح والأمل في النجاح، فترك الحبل على الغارب، ورقص رقصته الأخيرة الشهيرة وموسيقاها الأشهر التي خلدها التاريخ السينمائي كإحدى اللقطات المشهدية الأكثر شهرة في العالم، كما خلدت المعلقات والملاحم الشعرية المكتوبة شعرا، وهذا نموذج من النماذج الحية والمعيارية التي تصبح فيها الصورة وحدة تعبيرية مرئية مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات.
وفي تعالق كهذا بين الشعر والسينما، عمل الشعراء على تنويع طرائق بناء نصوصهم الشعرية مستفيدين في ذلك مما أتاحته مستجدات العصر من تكنولوجيا وفنون في تجديد الأبنية الشعرية كنظام اللقطة وزاوية النظر والمونتاج والكولاج، كما مثلا، في كتابات سعدي يوسف وما استدعاه في قصائده من تكنيك بصري ايجابي (الكولاج) في قصيدته “صلاة الوثني” كمثال، فمن خلال لقطات صامتة أقول صور صامتة (اللقطة هنا كما يعرفها النقاد السينمائيون هي أساس الفيلم أما الصورة فهي عنصر من عناصر اللقطة) صامتة أقول يمكن أن تستثير في المتلقي مالا يمكن أن تقوله الكلمات والتعابير المكتوبة، وفي هذا الصدد يقول “باستركيتون” “الصمت من شيم الآلهة والثرثرة للقرود”، لنتخيل مثلا لقطات مصورة لأسرى حرب أو يتامى حروب نازحين أو مهجرين جراء مجاعات، أو شجرة عزلاء عارية وسط غابة كثيفة وقس على ذلك من مشاهد نلفيها ضاجة بالقول وموغلة في العمق والمعنى والدلالات، لهذا، فمن الممكن جدا أن يتحول النص الشعري، إلى صور بصرية كما يمكن للصورة البصرية المتحركة أن تتحول إلى نص شعري، والأمثلة متعددة وعديدة جدا حيث في شعرنا العربي القديم والحديث وصف وصور فيها حركية بائنة لا يجد المخرج غضاضة في تحويلها إلى صور متحركة، وأنا أستحضر هنا امرأ القيس وابن الرومي هذا علاوة على الملاحم الشعرية الأولى المبنية كلها على الحبكة والتسلسل الحكائي، وأسوق هنا قولة للمرحوم البشير قمري، الذي يقول “إن ما نسميه الشعر، ما نسميه شعريا ليس مقصورا على الكتابة الشعرية وحدها بمعناها المؤسسي الجاف والثابت الذي لا يقهر، فالشعر يقيم بيننا ويقتحم حياتنا وفضاءاتنا في اللغة والخطاب والتلفظ في الدعاء الذهني وفي تلاوة النص القرآني والأمداح النبوية، في الأغنية والإشهار والإعلان في بكاء الميت ورثاء المفقودين”، وأضيف لما قاله المرحوم سطرين وأقول وحتى في الترانيم الجنائزية وأهازيج الحصادين وأغاني الرعاة والنادبات المعددات ودندنات السابلة الجوالين في الخلاءات وأصوات استعطافات المتسولات في الأزقة والحارات ..
هكذا، إذن نلفي أن الشعر يتمظهر في كل مناحي الحياة اليومية، لأن نمط الحياة شعري أصلا كما يقال، وكل شيء في الكون يحمل في ذاته إيقاعا وشاعرية مفتوحة على الواقع المتخيل والواقع المأمول وجوده وتحققه، وبما أن الشعر والسينما كلاهما تعبير من هذا الواقع يعني يشتركان في فن التعبير لا يحتاج الأمر لإنتاج فيلم جيد سوى رغبة جمالية عارمة. في ذات المخرج طاقة انفعالية حتى يفجرها إبداعا، إضافة إلى قراءة استغوارية واستيعابية للصور الشعرية واستلهامها لما تخيلها الشاعر، هذا إضافة الى تمكنه بعد ذلك من استغلال كل التقنيات السينمائية المتاحة له على أحسن وجه، فأكيد ستحصل المعادلة الفنية بين الصورتين الشعرية والسينمائية خاصة مع مخرج عالي الذائقة الفنية ويمتلك جنسا جماليا مع فلسفة ورؤية للعالم وللحياة ويحمل مشروعا ويصطف في حساسية جمالية معينة فأكيد سينجح في أن يرسم بكاميراته ملامح الصور وتعددها وما يرغب في أن يحملها إياه من معان ودلالات (واردة طبعا في صور شعرية في قصيدة ما). على أنه في نظري الخاص الذي يلزمني أن السينما وحدها دون سواها في الأجناس الأدبية القادرة والتي بوسعها الجمالي والفني التأثير وإحداث الرجة والتساؤل والقلق المفضي إلى الحيرة والارتباك تم التساؤل لدى المتلقي وهذا هو الجوهر الشعري في السينما لأنها توقظ الحواس( البصر السمع والتخيل مباشرة بينما ميزة الشعر هو جعل المتلقي يشكل في مخياله ما استطاعت قدراته الثقافية والفنية من عدد هائل من الصور والتصور، فانزاح كذلك المخرجون السينمائيون عن المألوف وصار بالإمكان الحديث عن الزواج بين الشعر والسينما والتوليف بينهما كلّ وأدواته الفنية لإنتاج أفلام ضاجة باللقطات الشعرية على شكل صور فنية اندمجت فيها عناصر الصورة الشعرية في انزياح وتشبيه واستعارة بفنية عالية الصبيب الإبداعي.
هذا علاوة على تمكن المخرجين المرموقين من استغلال مواهبهم الشعرية والأدبية عموما التي برعوا فيها على الورق قبل استغلالها على الشاشة كما هو الحال عند المخرج العالمي والكاتب الفذ بازوليني، الذي مارس الكتابة الشعرية والأدبية إضافة إلى اهتمامه وبراعته في كتابة الأفلام وإخراجها خاصة إذا كانت هذه الكتابات الشعرية والأدبية مكتظة مثلا بالصور الطبيعية الفاتنة فتستطيع كل المؤثرات الفنية والتقنية في السينما أن تجعل منها فيلما باذخ الجمال بصوره. وأسوق هنا قصيدة فيكتور هوجو “غدا عند مطلع الفجر” التي فيها من الصور والأبعاد والتكثيف الشعري ما يجعلها قصيدة خصبة ثرية للمخرجين هذا علاوة على اعتبارها أغنية استأثرت بجنون وحب المطربين السينمائيين.