ذ.الكبير الداديسي
على الرغم من كون الكويت من أقدم الدول العربية عهدا بالرواية إذا ما قورنت ببعض دول الجوار أو دول عربية أخرى- إذ ترجع بواكير روايتها إلى النصف الأول من القرن العشرين برواية (آلام صديق) لفرحان راشد الفرحان الصادرة سنة 1948- فقد ظل عدد الروائيين على امتداد عشرين سنة الأولى بعد ذلك التاريخ محسوبا على رؤوس الأصابع… ومنهم عبد الله خلف برواية “مدرِّسة من المرقاب” عام 1962، وإسماعيل فهد إسماعيل صاحب “كانت السماء زرقاء” سنة 1970 ، وخليل محمد الوادي برواية “إيه… أيتها الصغيرة” 1970… وإلى منتصف الثمانينيات لم يكن متداولا من الروائيين خارج الكويت عدا اسم إسماعيل فهد إسماعيل[1] الذي أصدر إلى حدود 1985 عشر روايات هي :
-
رواية (كانت السماء زرقاء ) 1970
-
رواية (المستنقعات الضوئية) 1971
-
رواية (الحبل ) 1972
-
رواية (الضفاف الأخرى ) 1973
-
رواية (ملف الحادثة 67 ) 1975
-
رواية (الشياح) 1975
-
رواية (الطيور والأصدقاء) 1979
-
رواية( خطوة في الحلم ) 1980
-
رواية (النيل يجري شمالا – البدايات ) 1983
-
رواية (النيل يجري شمالا – النواطير) 1984
وحتى إذا كانت المرأة الكويتية قد اقتحمت عباب الكتابة الروائية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وكان صدور أول رواية نسائية بالكويت (عبث الأقدار) لصبيحة المشاري عام 1960 قبل أن تعقبها تجارب أخرى من طينة رواية (وجوه في الزحام) لفاطمة العلي سنة 1971. وروايتا نورية السداني (الحرمان ) 1972 و (واحة العبور) سنة 1973 … فإن عدد الروائيات هو الآخر ظل محدودا ، ولم تشهد الكويت في الثمانينيات سوى خمس روايات نسائية هي: (عندما يفكر الرجال) لخولة القزويني، وروايتا (المرأة والقطة) و(وسيمة تخرج من البحر) لليلى العثمان إضافة إلى روايتي (مذكرات خادم ) و(الإنسان الباهت ) لطيبة الإبراهيمي.
هذا وقد ظلت الروائيات الكويتيات قبل اندلاع حرب الخليج الثانية مطلع تسعينيات القرن الماضي مرتبطات بما هو محلي، فوجدنا معظمهن يرصد تفاعلات كويت ما قبل تدفق النفط، سواء تعلق الأمر بالروائيات الأوليات، أو اللواتي دخلن غمار الكتابة الروائية في الثمانينيات كما تجلى في ما خطته أنامل ليلى العثمان في روايتها الأولى التي أطلت بها على القارئ العربي (المرأة والقطة)[2] عام 1985، مقدمة للقارئ العربي صورا عن ذلك المجتمع لا تختلف عما كان سائدا بالعالم العربي آنئذ حيث الكويت مجتمع مغلق يعيش على البحر، قائم على التسلط وبطش القوي، والمرأة فيه مهمشة مظلومة مغلوبة على أمرها أختا كانت ، ابنة ، زوجة أو حبيبة تعاني قهر وتسلــط الرجــل. قبل أن تؤكد ذاتها بروايتها الثانية (وسميـــة تخــرج مــن البحر)[3] سنة 1986، بالسير على نفس النهج ورصد مظاهر وظواهر المجتمع الكويتي قبل نفطي…
حتى إذا جاءت حرب الخليج الثانية – و الأدب ينتعش في الأزمات السياسية – كان لاجتياح القوات العراقية للكويت كبير الأثر في تفجير طاقات الكويتيات اللواتي لم يجدن جنسا أدبيا يحتوي ما ولَّده ذلك الاجتياح من إحساس بمضاضة طعنة وظلم ذوي القربى أحسن من جنس الرواية ، واعتباره الجنس الأنسب لحجم المعاناة، والوسيلة الأنجع للتعبير عما يختلج صدورهن؛ والرواية ملحمة العصر البورجوازي بتعبير جورج لوكاتش، والجنس الأدبي الأقدر على احتواء حروب هذا العصر…
وفي ظرف وجيز لمعت في سماء الرواية العربية بنون النسوة روائيات كويتيات راكمن تجربة قل نظيرها في الدول الأخرى فسطعت أسماء لروائيات أضحى في رصيد الواحدة منهن أكثر مما كتب في الكويت عبر سنوات كثيرة ، فألفينا كويتيات للواحدة منهن ما يزيد على خمس روايات في حوالي العقد من الزمن وتكفي الإشارة إلى:
-
⚝ – بثينة العيسى التي كتبت سبع روايات في مطلع الألفية الثالثة هي :
-
رواية (ارتطامٌ .. لم يسمع له دوي) دار المدى – سوريا 2004
-
رواية ( سعار ) المؤسسة العربية للدراسات و النشر – بيروت 2005
-
رواية (عروس المطر ) المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2006
-
رواية (تحت أقدام الأمهات ) الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2009
-
رواية ( عائشة تنزل إلى العالم السفلي) الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2012.
-
رواية (كبرتُ ونسيتُ أن أنسى) الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2013
-
رواية( خرائط التيه) الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت 2015
-
⚝ – فوزية شويش السالم التي خلفت خمس روايات بعد الاجتياح هي :
-
رواية (الشمس مذبوحة والليل محبوس) صدرت سنة 1997 دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع في 196 صفحة
-
رواية (مزون وردة الصحراء) كنوز للنشر والتوزيع 2000 في 334 صفحة
-
(حجر على حجر ) كنوز للنشر والتوزيع 2003 في 320 صفحة
-
( رجيم الكلام ) دار الأزمنة للنشر والتوزيع 2007
-
(سلالم النهار) دار العين للنشر 2012 في 240 صفحة
-
⚝ – وعلى نفس الهدي سارت خولة القزويني بخمس روايات هي :
-
رواية (عندما يفكر الرجل) تتحدث عن بطل مجاهد استشهد في سبيل مبدأ الالتزام بالدين
-
رواية (سيدات وآنسات)تتحدث عن نماذج نسائية في المجتمع، ومعاناة هؤلاء النساء من المشاكل الزوجية
-
رواية (جراحات في الزمن الرديء) تتحدث عن قصة المجتمع الكويتي، وعن فترة الغزو التي تعرضت لها الكويت
-
رواية (البيت الدافئ) و تقدم عرضا جريئا لنماذج مختلفة من النساء، وما يختلج في صدورهن من حب، شفافية، كره، حقد، ورغبة، والتعبير عن مكنونات داخلية تلامس أحاسيسالمرأة باستعراضها ستة نماذج مختلفة من النساء في محاولة لتجسيد الواقع من خلال تجارب شخصية.
-
رواية (هيفاء تعترف لكم) طرحت فيها الكاتبة أحوال امرأة مطلقة، كانت مبتلاة برجل فاقد الإحساس، وتحدثت فيها عن ظاهرة الإدمان وانتشارها في صفوف الشباب.
-
⚝ – وكان لميس خالد العثمان عدة مجموعات قصصية، ونصوص سردية إضافة إلى روايات كتبتها في السنوات العشرة الأخيرة منها:
-
رواية (غرفة السماء) 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.بيروت
-
رواية (عرائس الصوف) 2006 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.بيروت
-
رواية (عقيدة رقص) 2009 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت
-
رواية (لم يستدل عليه) 2011 عن دار العين . مصر
-
رواية (ثؤلول ) 2016 دار العين . مصر
هذه مجرد نماذج للروائيات الأكثر تأليفا دون الحديث عن روائيات أخريات لهن ثلاث أو أربع روايات…
ومن خلال الملاحظة الأولية للرواية النسائية بالكويت يبدو أن الروائيات المعاصرات[4] وإن تجاوزن ما هو محلي إلى معالجة القضايا الإنسانية العالمية، وقضايا القومية العربية … فقد ظل الكويتي المحلي يحظى بالحظ الأوفر في إبداعاتهن الروائية… فعالجن قضايا مثل العمالة ، سفر الكويتيين بحثا عن الحرية وتنفس هواء جديد عبرالسياحة أو الدراسة ، معاناة رجال ونساء (البدون) في وطنهم أو خارجه ، ويكفي تقديم مثالين من هذه المعاناة اشتركا في اختيار اسم ضاري بطلا لروايتيهما نقصد (ارتطام لم يسمع له دوي) لبثينة العيسى ورواية (سلالم النهار) لفوزية شويش السالم وإن جعلت الأولى ضاري من البدون يعاني في علاقته بفرح واحدة من ذوات الدم الصافي، فإن الثانية جعلت ضاري من ذوي الدماء النقية في علاقته بواحدة من البدون (فهدة): يقول ضاري في (ارتطام لم يسمع له دوي) ( البدون … وهذا يعني أن تعيش مجردا من أي أوراق رسمية تشير إلى وجودك … يعني أن ترى العالم ولا يراك … يعني ألا تنال أي وظيفة مهما بلغت من مراتب علمية ما دام شرط ” نسخة من الجنسية” مدرجا ضمن شروط التعيين … يعني أن تواري حضورك مثل عورة لأنك مقيم بصفة غير قانونية في مكان تفترض أنه وطنك … يعني أن يركولك إلى الشارع … يعني ألا تنال أي درجة فوق نطاق الثانوية العامة لأن الدراسة في الجامعة حكر على كويتي الجنسية…) مقابل ذلك كان ضاري في (سلالم النهار) يجرب في فهدة كل شذوذه ، ويفعل بها مايشاء كأنها شيء من ممتلكاته الخاصة ….
لكن تبقى القضية الكبرى التي شغلت بال كل الكويتيين والكويتيات، العامة منهم والخاصة، في العشرين سنة الأخيرة وجعلها معظم الروائيات موضوع كتاباتهن هي قضية غزو قوات صدام حسين للكويت وتأثير ذلك الغزو على الحضارة العالمية المعاصرة، وعلى الكويت خاصة جاعلات من قضيتهن قضية إنسانية، فنسجن حكايات لبعض ما ترتب عن ذلك الغزو، وتفاعل الكويتيون مع تداعيات الأحداث داخل الوطن كما في رواية (جراحات في الزمن الرديء) لخولة القزويني، أو في ديار الغربة كما في رواية (سعار) لبثينة العيسى التي أشارت لمعاناة الكويتيين والعرب عموما بالديار الأمريكية غداة تفجير برجي التجارة العالمي في أحداث 11 يناير كواحد من أهم الأحداث المترتبة على حرب الخليج الثانية، أو في رواية (ارتطام لم يسمع له دوي ) لبثينة العيسى حيث البطلين في السويد، ورغم الغربة والبعد تبقى البطلة مستعدة لتقديم نفسها فداء للوطن تقول ( أردت أن أثبت لك … بأن تمة حب يستحق أن نزهق أرواحنا من أجله وأن الكويت هي ذلك الحب )[5] … تعاتب وتنتقد كل من يقلل من بلدها أو تفتر فيه روح الوطنية من البدون، تقول فرح معاتبة ضاري في ( ارتطام لم يسمع له دوي) بعدما رأت أنه ينتهز أية فرصة ليسدد طعنة لقدسية الوطن الجريح: (ما تعرف أنت عن الكويت ؟ إنك لم تحبها. لم تهتف في ساحة العلم، وتتسلق الصارية لكي تعلق علما بأربعة ألوان وتصرخ بالدم نفديك يا كويت ! لم تحمل سلاحا لتقتتل مع جندي عربي مسلم جاء ليغتصب أرضك ويعيث فيها جورا تحت شعار (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق) وتحرير القدس ! لم تجرب أن تنام في سرداب تهددك أصوات المدافع و “الله أكبر ” تصدح من مآذن الكويت… ربما … كل ما كنت تفعله أن تلصق أذنيك بالراديو وتسترق بعض الأخبار… هل كنت تسمعها بالعربية أم بالسويدية)[6]
وحتى وإن وجدنا من الروائيات المعاصرات من حاولن الرجوع بالسرد إلى مراحل سابقة عن تاريخ الاجتياح كما في رواية (كاللولو)[7] لحياة الياقوت التي تحكي حياة بطلة تكتب يومياتها منذ دخولها الروضة مركزة على مرحلة ما قبل الغزو وقد أهدت روايتها (إلى جيل الثمانينيات إلى الذين نشأوا على مسحوق الكاكاو …)[8]، فإنها اضطرت في الفصل الخامس و الأخير من روايتها للوقوف على القضية واختارت لذلك الفصل عنوان (ريح السموم)، وإن بدا الفصل كقسم ملحق قسرا بالرواية فإن فيه إشارات لتأثير الغزو على الأسر الكويتية واضطرار بعضهم للهروب جنوبا نحو السعودية تقول الساردة ( كنت أظن أننا خرجنا وحدنا لكن الخروج كان على شكل قافلة تتقدمها سيارة أحد الخبراء في الطرق الصحراوية…)[9] ليلخص الفصل – من خلال أسرة الساردة – معاناة شعب منذ الاجتياح، وما كابده من مشقة في تخليص نفسه والنجاة بروحه في الطرق الصحراوية، وما عاشته الأسرة في السعودية في انتظار تحرير الكويت والعودة إلى أرض الوطن. لتنتهي الرواية بعبارة (… وأمضي في طريق الاستقلال والتحرر)[10]
أما في رواية (رجيم الكلام) فترصد فوزية سالم شويش نتائج الغزو وتأثيره النفسي على الكويتي من خلال ما تحكيه الساردة نارنج عند دخولها مكتب الشهيد التابع للديوان الأميري، لتصف توثيق شهادات وحيوات شهداء الحرب التي انتهت في ملفات تنتظر من ينتشلها من صمت الأوراق النائمة على الرفوف وأسرار سكنتها ثلاثة عشر عاماً تقول فيها (تم تحرير البلاد ولم يتم تحريري منها…) وفي الرواية إشارة لمظاهر وآثار الغزو كالمقابر الجماعية لشهداء الكويت و سقوط بغداد. ومن أذيب جسده في الأحماض… و سؤال عائلات الشهداء والمفقودين عن ذويهم الذين اختفوا ولم يظهر لهم أثر. لتنتهي الرواية على إيقاع تمجيد الشهداء، واعتبارهم القدوة وزيت احتراق الشمعة، داعية إلى استحضارهم في البرامج الدراسية ليستفيد التلاميذ والطلاب من تجاربهم …
ولم تقتصر الكويتيات على تصوير تأثير الاجتياح على الكويتيين بل منهن من صورن تأثيره على الجاليات العربية بالكويت خاصة الجالية الفلسطينية كما كان في رواية (ورود ملونة) لعلياء الكاظمي. التي تحكي في جزئها الثاني قصة فتاة فلسطينية كانت تعيش حياة هانئة وسط أسرتها سعيدة في إحدى محافظات الكويت. حتى إذا ما جاء الغزو العراقي اضطرت إلى هجرة دراستها و الهجرة إلى كندا مع أسرتها… حيث تزوجت عدة زيجات لم يكتب لأي منها النجاح… ففقدت السعادة والأمان… لم يعد لها أصدقاء سوى الهموم والأحزان والدموع والآلام النفسية والانكسارات وخيبة الأمل… وظلت تنتقل من محطة تعيسة إلى محطة أخرى أكثر تعاسة وأشد ألما. ليكون الغزو و قرار هجرة الكويت سببا في تحطيم ماضيها ومعاناة في حاضرها وتهديد لمستقبلها…
ولعل من الروائيات اللواتي خصصن لعلاقة العراق بالكويت ما يقرب من نصف تأليفها الروائي، الرواية ميس خالد العثمان ؛ فإن كانت قد أشارت للقضية في معظم مؤلفاتها فإنها جعلت تيمة (العراق/ الكويت) الموضع الأساس لروايتين : فجعلت الأولى (عقيدة رقص) تدور أحداثها في عراق ما بعد حرب الخليج الأولى حيث البطلة تعاني من الاضطهاد ومن كثرة الحروب في بلادها فلم تجد من مخرج سوى الهرب جنوبا نحو الكويت… والثانية رواية (ثؤلول) التي تدور أحداثها في الكويت وفيها تعاني طفلة من الاغتصاب الذي تعرضت له من طرف جنود الغزو العراقي للكويت وهي الرواية التي سنركز عليها في هذا الجزء الثاني من هذه الدراسة…
وقبل الغوص في آخر أعمال هذه الروائية نضع بين يدي القارئ تلخيصا جد مركز لروايات ميس خالد العثمان الخمسة :
-
. رواية (غرفة السماء) أول رواية لميس العثمان صدرت سنة 2004 تحكي علاقة فتاة بشاب تكبره بسبع سنوات وهو بالكاد يكمل ربيعه التاسع عشر كان ينظر لها كأخته الكبرى التي يلجأ إليها في ضيقه وألمه وحين يشتد وجعه. كانت معه حين ودع مقاعد الدرس واستعد لأن يقرر أين يكمل مشواره العملي وكانت هي المستشار بالنسبة إليه، يأخذ برأيها الذي يعتزّ به.. هي صديقته، أخته أمه، لتكون رواية يتمازح فيها الحب بالعطف …
-
. رواية (عرائس الصوف)[11] عبر ستة فصول تحكي البطلة/ الساردة كيف ماتت أمها وتزوج أبوها الخادمة (عوجة) لتعيش مع (دليلة) ابنة عوجة عند الناس كشقيقتين تعرفان ب البيضة(الساردة) والسمراء (دليلة) وعبر الشباك يتبادلان الإشارات والتلميحات مع ابن عم البطلة ، انتهت تلك الإشارات بزواجه من دليلة، كما توطدت علاقته بالبطلة في السر وأنجبا طفلا مما أثر سلبا على علاقته بزوجته وفي أجواء الخوف من التقاليد تكتشف دليلة حب زوجها للبطلة وبعد استحالة العيش معه كزوج تقرر التضحية بسعادتها في سبيل سعادة زوجها و “شقيقتها” وابنهما
-
. رواية (لم يستدل عليه): وهي رواية من الحجم الصغير(91 صفحة من الحجم المتوسط) أقرب إلى القصة الطويلة منها إلى الرواية صدرت سنة 2011 عن دار العين المصرية للنشر، في طبعتها الأولى ، وإن تم إهداؤها للرجل الأب ورد في الإهداء إلى 🙁 (أبي) إذ علمني الكثير/ الجميل دون أن يقصد ربما) تبقى رواية نسائية بامتياز ذلك أن بطلتها وموضوعها المرأة، جاء على الغلاف الخلفي للرواية :(هل فكّر أحدهم كيف هي الأيام خلف هذه البوابات الكبيرة الموصدة بإحكام على تساؤلاتنا ؟ نحن النسوة الفقيرات إلى البسمة / النسمة والحرية تدور أحداثها حول البطلة هند في مصحة نفسية بعد )
تفتتح الرواية التي ترويها البطلة هند بتقرير عن الأجهزة الأمنية يقدم خبرا مقتضبا مفاده وفاة ضابط من وزارة الداخلية (وقد تعرض لطلق ناري في رأسه، وترجح التحريات وفاته منتحراً)، لتنطلق أحداث الرواية وقد صممت هند وحبيبها عزيز على الانتحار في نفس الساعة في يوم من أيام شهر آب 1998 وكان فشل هند في تنفيذ القرار/ الخلاص بالانتحار سببا في إصابتها ب (اضطرابات ما بعد الصدمة) لتجد نفسها في عنبر 1 ثم عنبر 2 للسيدات وفي هذه الرحلة تحكي هند تجربة ممتلئة بالتناقضات والمفاجئات برفقة المريضات والممرضات… وذكرياتها المؤلمة وتستغل وجودها في السجن/مستشفى الأمراض النفسية لتحكي عن واقع المرأة وكيف أجبر عدد منهن على دخول مستشفى الأمراض النفسية (السجن الأبدي)[12] وعن أمنيات المريضات/السجينات . وتنتهي الرواية ب (تقرير أولي ) من توقيع د.حميدة رأفت عن الطب النفسي بجامعة الكويت يقدم قرار (اجتماع اللجنة الطبية) حول الحالة النفسية والعصبية للمريضة (هند) التي (أتعبتها مفاجآت الحياة التي لامست خد طفولتها منذ فتحت قلبها للدنيا )[13]
-
. رواية (عقيدة رقص) صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات بيروت 2009 والنشر في 145 صفحة متوسطة الحجم وهي رواية عراقية فضاء، أحداثا، شخصيات ومشاعر. وإن كانت كاتبتها كويتية. تبدأ الرواية بعدد من المقدمات : “إضاءة” تنقل فيها الكاتبة عن قاموس المورد للدكتور روحي البعلبكي معنى “رقص”. بعده مقطع من رواية (زوربا) لليوناني نيكوس كازانتزاكي هو (لدي أشياء كثيرة أقولها لك لكن لساني قاصر عن ذلك. إذن سأرقصها لك)وتحت عنوان “ما قبل الإهداء – كلمات من اوشو” عن الموسيقى. ليأتي الإهداء مقطعا شعريا للشاعر الكويتي محمد هشام المغربي…. بعد هذه المقدمات لتبدأ أحداث الرواية بداية حالمة على ضفاف دجلة ليتوقف السرد في أيلول (سبتمبر) 1989 حيث الذاكرة أعطبتها الحروب والألم والخوف والسجن والهروب المتواصل، ليتعرف القارئ على البطلة وهي تقرر الهروب من العراق بعد نضال ودخول السجن. تركب سيارتها ويتجه بها السائق جنوبا. وفي حديثها مع السائق نتعرف سبب مغادرتها للعراق بعد انتهاء حرب الخليج الأولى حيث تراكم الآلام والمآسي الناتجة عن الحرب في العراق ولبنان وغيرهما
-
وختاما رواية ثؤلول: التي سنجعلها موضوع تحليل للقضية المطروحة في هذه الدراسة.
رواية (ثؤلول) إذن هي خامس رواية للكاتبة الكويتية ميس خالد العثمان ، وقد صدرت في طبعتها الأولى عن دار العين للنشر بالإسكندرية سنة 2016 في 217 صفحة من الحجم المتوسط موزعة على 28 مشهدا اختارت الساردة لكل مشهد عنوانا تحدد فيه الموسم والسنة ليمتد زمن القصة من قبيل دخول القوات العراقية إلى الكويت، حتى صيف 2014…
وإذا كانت ميس خالد العثمان في رواياتها قد جعلت تيمات الوطن، الحرب، الجنس، المعاناة، التسلط… موضوعها الأساس فإن رواية (ثؤلول) قد جمعت كل تلك التيمات لذلك اخترناها دون سواها موضوعا للمقاربة…
لعل أول ما يصدم المتعامل مع هذه الرواية هو تلك العتبات التي اختيرت فاتحة تستقبل القارئ : غلاف أسود يخترقه بشكل انحرافي حبل تتوسطه عقدة، كتابة بيضاء –تحاول عبثا تبديد سوداوية الفضاء- تحدد العنوان (ثؤلول)، الجنس (رواية) ، اسم المؤلفة (ميس خالد العثمان) وفي الأسفل المؤسسة الناشر للعمل( دار العين للنشر) …
وحرصا من الكاتبة في إضاءة عتبات الكتاب استهلت الرواية بتعريف الثؤلول في أول صفحة باقتباس تعريف من المعجم الوسيط: (الثؤلول بثر صغير صلب مستدير يظهر على الجلد كالحمصة أو دونها…(ج) ثآليل)[14] ، بعد ذلك تهدي الكاتبة روايتها (للأنثى، التي تولد وبين عينيها وسم مصيرها القادم، بلا معجزةٍ تغيّره)[15] وهو ما يبشر بأن الرواية قد تكون نسائية بامتياز ما دامت ( كاتبتها امرأة/ إهداء للأنثى/ ساردتها وبطلتها امرأة…)، ويجعل القارئ انطلاقا من تلك المؤشرات الخارجية يفترض أن النص قد يكون مثل مختلف الروايات التي تبنت قضايا المرأة المستهلكة والمتداولة، كرفض المرأة للقهر والتسلط، وسعيها لتغيير واقعها… لكن ما يكاد القارئ ينهي الصفحة الأولى من المتن الروائي حتى يجد نفسه أمام رواية من طينة خاصة يصدمه حادث مفجع : اغتصاب فتاة في عمر 13 سنة أمام أنظار أبويها وأخيها وجدتها. اغتصاب نتج عن حمل وإنجاب طفل اضطرت الأسرة نسبته لأم البطلة حفاظا على سمعة العائلة فشب وكبر لا يعرف شيئا عن حقيقته وقد حول الحدث الأم الحقيقية إلى كائن يتجاهله كل أفراد الأسرة، كائنا غير مرئي، يعيش على الهامش مثل (ثؤلول) (شق له مكانا على جلد عائلتي الصغيرة فالتصق بهم متطفلا واحتاروا كيف يدارون هذا التشوه البارز عن الآخرين دون ألم)[16]…
تعود تفاصيل الحكاية إلى سنة 1988 حيث كانت سلوى بالمدرسة مع زميلاتها ومعلمة الدين تعلمهن معنى الله والقدرة الإلهية وتأكيد المعلمة على أن يوم القيامة سيكون يوم جمعة وإحساس البطلة بالخوف كلما صلت فجر الجمعة، (لكن النفخ جاء مبكرا ولم تقم القيامة نهار الجمعة كما أخبرتنا معلمتنا بل فجر خميس 90) [17] لتضعنا الرواية منذ البداية في أجواء اجتياح القوات العراقية للكويت وما أصاب السكان من ذعر شديد، جعل عددا منهم يفضل الهروب خارج الكويت خوفا على أعراضهم وأسرهم، منهم أسرة صديقتها سحر، تقول الساردة ( سافرت سحر وأسرتها لأن والدها خشي عليها. وبقينا نحن نحرس هذا التراب ونجاهد لحماية قلوبنا، وما خاف أبي علي بل كان خوفه على الكويت أكبر)[18] وفي أجواء الاجتياح تتعرض سلوى ابنة 13 ربيعا لاغتصاب من طرف جندي عراقي هاجم غرفتها تقول (كسر عنوة باب غرفتي وسقطت اللوحة المعلقة عليه… ركن الجندي سلاحه على حائطي بهدوء وما استخدمه ضدي… دفعت غطاء سريري متأهبة لأفهم ما ينوي بينما نزع هو لباسه التحتي بسرعة وأوجع أنوثتي جدا … غبت بعدها في حلم شاذ وحين صحوت كنت محاطة بوجوه أعرفها ولا تحمل التفسير…)[19] وظل كابوس اغتصابها يطاردها طيلة فترة حملها ( كان مشهد الجندي بلباسه الأخضر وهو يهرس أنوثتي يتكرر في أحلامي فأصحو منزعجة)[20]… طيلة فترة الحمل لزمت سلوى البيت لا تبارحه ترصد التحولات التي طرأت على جسدها وعلى الكويت التي تحولت من دولة ذات سيادة إلى المقاطعة رقم 19 التابعة للعراق وما أصاب المجتمع من تفكك ونقص حاد في المؤن والغذاء تتجاذبها أحاسيس الخوف على الجنين والخوف من المستقبل الذي ينتظرهما هي وجنينها (أخاف من جنيني وأخاف عليه ، فأي ارتباك هذا) خاصة بعد أن طالبتها الأسرة بالتستر على الحمل وتظاهر أمها به… وعند اقتراب الوضع سافرت بها أسرتها إلى مصر حيث ولد المولود وقيد على أنه ابن أمها وأبيها (النتيجة التي أفرزت جابر وأحالتني إلى ثؤلول غير محبوب)[21]، وتكون تلك النتيجة معاناة سلوى وتصدعها بين الأم الطبيعية، والأخت في الوثائق الرسمية، دون أن تفارقها غريزة الأمومة، تقول (سأحيـى أنا وأنت متلازمين / متلاصقين كطالع الجوزاء، دوما أحد اثنين أو كلاهما ابني / أخي)[22]… اختير للمولود اسم جابر، تربى وترعرع في أحضان الأسرة ، ترعاه سلوى وتجيبه على استفساراته على أنها أمه/ أخته ، وعلى أنه أبنها/ أخيها، مما أصابها باضطرابات نفسية ، لكنها رفضت الاستسلام، و قررت مواجهة الواقع بالتردد على طبيب نفسي ، ويعيش القارئ من خلال جلساتها مع الطبيب (يوسف) تفاصيل حياة سلوى وما كان يجول بين جوانحها من كوابيس وأفكار، ساعدتها تلك الجلسات على تجاوز أزمتها والالتحاق بالجامعة، والعمل في إحدى المكتبات بعد التخرج، كما كان الطبيب يدعمها ويترك لها حرية اتخاذ القرار في الأمور التي كانت تعترض سبيل حياتها، يشاركها أفراحها وكل ما يشغل بالها … وتدريجيا يتحول الطبيب إلى صديق فحبيب لتنتهي الرواية على إيقاع الارتباط بين سلوى ويوسف من خلال أساليب إنشائية تعكس انفعالاتهما وتفاعلهما منها قوله: ( لا تقولي شيئا، لنشرب قهوة فرحتنا المشتركة)[23]، وقولها: (ما ذا لو رقصت ستائر غرفتنا وتناثرت علينا زهورها الحمراء المطرزة؟؟)[24]…
يبدو من خلال أحداث رواية (ثؤلول) إذن أنها تعكس أكبر أزمة سياسية عرفها العالم العربي المعاصر ذلك أن ما يعيشه العرب اليوم من تطاحن وتخريب يرجع في نسبة كبيرة منه لاجتياح القوات العراقية للكويت، لكن ما ميز (ثؤلول) جعل الأزمة ذاتية فردية، الجنس أكبر قوة فاعلة في أحداثها، فعملية جنسية على عجل استغرقت دقائق معدودة تناسلت منها أزمات و أحداث مأساوية أثرت سلبا على حاضر ومستقبل أسرة بكاملها، فالرواية لم تركز على عملية الاغتصاب واكتفت بإشارة صغيرة لها في الصفحة 18 ، ولا على تأثيرها النفسي والجسدي على الفتاة (سلوى) ذات الثلاثة عشر ربيعا فلا إشارة لرد فعلها، ورد فعل أهلها قبيل وأثناء وبعد الاغتصاب، وباستثناء تلك الإشارات إلى الكوابيس التي تراود سلوى في أحلامها سلطت الرواية أضواءها على ما ترتب عن تلك الواقعة… مما جعل من الفتاة وطنا بأكمله، والاغتصاب معادل للاجتياح فكان ما وقع لسلوى، وما وقع للكويت وجهان لعملة واحدة:
تعرضت سلوى للاغتصاب كما اغتصب الوطن، دام الاحتلال سبعة أشهر وهي نفس المدة التي قضاها الجنين في بطن أمه تقول الساردة (خرجت مستعجلا قبل أن تكمل شهرك الثامن)[25] ولنوضح بعض أوجه ذلك التشابه بين سلوى والكويت نقترح هذا الجدول التوضيحي:
سلوى |
الكويت |
– سلوى فتاةصغيرة– تعرضت للاغتصاب من طرف عسكري عراقي أمام صمت أهلها– كان الاغتصاب سريعا– الاغتصاب زلزل كيان الأسرة الصغيرة– الاغتصاب حول سلوى( مدللة الأسرة) إلى ثؤلول يشوه جلد الأسرة،– الاغتصاب جعل سلوى أما تقبل لعب دور الأخت المنبوذة داخل أسرتها– حمل دام سبعة أشهر– تم وضع الجنين في بلد أجنبي– خلال مرحلة الحمل عاشت سلوى على أمل الخلاص– استطاعت سلوى تجاوز أزمتها ومواجهة مصيرها |
– الكويت بلد صغير– تعرضت لاجتياح القوات العراقية أمام صمت الأشقاء العرب– كان الاجتياح سريعا– الاجتياح زلزل الأسرة الكبيرة– الاجتياح حول الكويت (أغنى بلد عربي) إلى مقاطعة تابع للعراق– الاجتياح جعل الكويت تكسب تعاطف دول كثيرة في العالم– احتلال دام سبعة أشهر– تم دحر القوات العراقية بمساعدة دول أجنبية– على نفس الشعور والتطلع عاشت الكويت خلال الاجتياح– تمكنت الكويت من استرجاع عافيتها وسيادتها |
هذا التماهي بين المرأة والوطن كان مدروسا من طرف الكاتبة، وإلا ما السر في دفع الجندي العراقي إلى اغتصاب الفتاة سلوى، فإذا كان الهدف هو إشباع الرغبة الجنسية، و إذلال الأسرة كان اغتصاب الزوجة أمام زوجها وأبنائها أكثر تحقيقا للهدف، لكن الروائية اختارت العزف على وتر براءة الأطفال، وتكريس فكرة وجود أزمة الجنس في الفكر الذكوري العربي، أزمة تجعل من الرجل العربي في علاقته بالمرأة ميالا للاغتصاب، بيدوفيل مغرم بانتهاك الطفولة، واعتبار المرأة المسؤولة عن كل ما ينتج عن أي علاقة جنسية. هكذا رغم اغتصاب سلوى أمام أعينهم وجدنا أسرتها تحملها مسؤولية إثم لم ترتكبه، ولم تع كيف وقع ولا لماذا وقع، بل لم تدر سبب صمت الأسرة ووقوفها عاجزة عن الدفاع على ابنتهم الوحيدة وحمايتها…
ومثل مختلف الروايات النسائية لم تخرج (ثؤلول) عن تلك الثنائية المستهلكة في روايات النساء المتمثلة في تقديم الرجال في صورة سالبة، والنساء في صورة إيجابية: فمقابل صمت الأب وهروب الأخ وجعلهما شخصيات ثانوية لا دور لهما في تطور الأحداث، وجودهما مثل عدمه ، قدمت الرواية البطلة طفلة صغيرة في السن ناضجة في السلوك، لم تستسلم ولم تنهار بل ظلت متفائلة بالمستقبل، لم تر يوما في الجنين عارا ما دامت غير مسؤولة عما وقع، ولم تذكر مغتصبها بسوء… وبقرار انفرادي توجهت للطبيب النفساني، تصارحه بكل ما يختلج صدرها وتقول له ما لم تستطع قوله لأسرتها وابنها مما مكنها من كسب وده وبناء الثقة بينهما…
الرواية إذن تنتصر للمرأة المناضلة المقاومة الأبية الرافضة للاستسلام والصمت والهروب ويتضح ذلك جليا من خلال المقارنة بين سلوى التي بقيت في الكويت لتواجه مصيرها ، وبين سحر التي (هربت رفقة أسرتها أهلها الذين خافوا عليها / على أنوثتها من الانتهاك) [26] ولم تعد للوطن إلا بعد دحر القوات العراقية. الانتصار تجلى في المظهر الذي ظهرت به كل شخصية، والمستقبل الذي رسمته الكاتبة لكل واحدة منهما، فإذا كانت سحر قد عادت للكويت مغلفة بالسواد (بإطلالة جديدة لم تعجبني… تغطت بالسواد وبلكنة “تسعودت ” كثيرا لهجة لا تشبهنا …)[27] متزوجة برجل (بلحية كثة صعبة بحرارة الصيف، ووجه لا يتذكر الابتسامة …)[28] فإن سلوى رغم تعرضها للاغتصاب، وتجاهلها من طرف أسرتها… انتهت امرأة مثقفة حاصلة على شهادة عليا، وعمل محترم وظفرت بولد ناجح وارتبطت بدكتور نفساني مما يبشر بحياة تتمناها كل فتاة عربية…
وفي الوقت الذي كانت سلوى تصارح طبيبها/ حبيبها بكل شيء يبدو أن سحر لم تكن تصارح زوجها بما يضرها ويشغل بالها، ولم تكن تجد سوى سلوى لتستمع لها، فعندما سألت سحر سلوى (أنت ليش ما تتزوجين؟؟) كان جواب سلوى ( لن أتزوج كي لا اذوي كما تفعل بك العلاقة مع زوجك وحتى لا أضطر لفضح خيبتي في حضن صديقتي فيحزنها تعبي…)[29]
وعلى الرغم من مقاربة الرواية لموضوع حساس بالنسبة للكويتيين، تمتزج فيه الذات بالموضوع فقد تمكنت من حكي قصة، متجردة من الذاتية، و بعيدة عن الانفعال فلم تصدر أي حكم سالب ضد مغتصبها، ولا ضد بلده، وهيأت الكاتبة كل الظروف لجابر (ابن سلوى) ليتعلق بفتاة عراقية ويجد أمه التي اغتصبها عراقي أكثر المدافعين والمؤيدين لزواجه بها… فقد كتبت له رسالة منتقدة تدخل الأسرة في اختيارات الأبناء تقول فيها: ( اتركونا نختار هذه المرة ، أنا الأم / الأخت الآن وأنا سأختار لولدي / أخي)[30]وجالست عشيقة ولدها / أخيها العراقية وشجعتهما على الاستمرار في علاقتهما (باركوا هذا الاختيار ولا تحقنوا في أوردتي المزيد من الأمصال المرة)[31]. واقفة في وجه أمها التي اقترحت تزويج جابر من عائلة في المستوى (من باكر أدور لك على بنت من مواخيذنا)[32] فلم يكن من سلوى إلا الاستهزاء من أمها والدعوة إلى ترك المعنيين بالأمر يختارون حياتهم (يا أم نجية ما مناسبة استخدامك ل من مواخيذنا؟.. أظن يكفينا كذبا على أنفسنا … أرجوكم دعونا نحترم ما تبقى من علاقاتنا التي هتكتها الحرب والخشية منها دعونا، هو وأنا نقرر أن نعيش )[33]
رواية (ثؤلول) بنيت في الأساس على الأزمة التي تخلخل الكيان العربي، أزمة هيكلية تمس كل البنيات والهياكل المكونة للمجتمع العربي، لكن الكاتبة أبت إلا أن تركز على أزمة الجنس وأزمة العقلية الذكورية؛ فلم تولِ كبير اهتمام للاقتصاد والسياسة وإنما وجهت سياط نقدها لطريقة التفكير الذكوري الذي يدعي الفحولة والأنفة لكنه سرعان ما يفضل الهروب والانسحاب عند أول امتحان يواجهه. فقد انزوى الأب للخلف وترك الجندي يفعل ما يريد بابنته الوحيدة، وهرب الأخ وترك أخته الوحيدة تعرق وقد كان بإمكانه أن يمد لها يد النجاة، أو يواسيها في أزمتها وذلك أضعف الإيمان، بل لقد ترك الجمل بما حمل وتزوج فتاة أمريكية حتى يقطع صلته بالكويت وما يأتي من الكويت… دون أن ينال ذلك من صلابة وقوة شخصية سلوى التي صمدت رغم أزمتها، وبطريقة الحكماء كانت عندما تشتد بها الأزمة وتضطر للتراجع تهرب للكتب لتنهل وتستفيد منها تقول مقارِنة بين هروبها إلى الكتب ، وهروب أخيها من الكويت :
(أهرب منكم جميعا نحو الكتب، نحو حكايات الناس وتاريخهم، ولأتعرّف بمن هم أكثر شقاءً مني أقرأ تاريخا محتشدا بالأعاجيب التي أصدقها وحدي، وأعيد تشكيل وقائعها أحيانا بالمقلوب، لأنني ألوذ بالمكتبة كلما تعثّرَتْ خطاي نحو الخارج، وأدّعي بأن هناك بحثا عميقا ينتظرني لأنهيه! أجمع كل العناوين التي تصب في لُبّ “البحث المتخيّل” وأتنقّل بين المعارف وأغيبُ في عوالم ما كنتُ أعرفها،أعيد سَرْد التفاصيل لجابر الصغير حين يتعذّر عليه النوم،فيخلد للراحة ممتلئا بالقصص،فهل أحلى من الكتب؟ على الأقل، هربي حميد ويمتّعْني. أما هربك يا سالم، فلا معنى له إلاّ التّواري).
على الرغم من كل تلك الطاقة الإيجابية التي وهبتها الكاتبة للبطلة وجعلتها تتفوق على كل ما يعترضها وتكسب كل رهان تركبه ، فإنها لم تؤسطر البطلة ، ولم تمنحها قوى خارقة وإنما ظلت البطلة واقعية، يحس كل قارئ كويتي أنه يعرف مثلها في حيه أو مدينته، بل تمكنت من أن تجعلها شخصية نمطية يمكن أن توجد في أي مكان من المعمور، فكثير هن النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب وتنكر لهن الأهالي والمقربون وتمكن من مواصلة حياتهن وتخطي خيباتهن. وزاد من تنميط الشخصية تعويم وتعميم المكان ، ذلك أن الرواية اكتفت بالإشارة إلى أن الأحداث تدور في الكويت دون أن تؤثث هذا المكان العام بأمكنة خاصة كذكر أسماء الأحياء والأزقة عدا إشارات محتشمة لأحياء كالأحمدي ، الجابرية، كيفان… بل حتى البيت الذي قضت فيه كل حياتها لم ترسم أبعاده ،ولم تدقق في وصف مرافقه وعدد غرفه…
ولتصوير عمق الأزمة اختارت الكاتبة لغة مناسبة لحالة سلوى/ الكويت، لغة مأزومة في صورها، عباراتها وتركيبها، ولعل من أكثر الظواهر اللغوية إثارة لفضول القارئ إكثار الكاتبة من إدخال (ال) على الفعل، لدرجة قد تبدو الظاهرة صادمة للقارئ، لكن الملاحظ أن الروائية قرنت هذه الظاهرة اللغوية باجتياح الكويت واغتصاب سلوى، فحضرت في المقدمة عند قولها (ويوم شعرت بعجزي عن العود إلى الوراء … أعود سلوى ابنة أبيها المدللة … المجنونة بأسئلتها الكبيرة عليها ال أشعلها الفضول للوصول لمعنى معقول للحياة)[34] لتغيب طيلة الصفحات الموالية حيث سلوى في المدرسة قبيل الاجتياح ويكون ثاني حضور لفعل مقترن بال في الصفحة 17 ليلة الاغتصاب/ الاجتياح في قول الساردة (اكتفينا كأسرة تضم جدة وأما و أبا وأخا بتكوين معجمنا الخاص الممتلئ بالحرب والخوف والخشية والدعاء والمقاومة والدم والخبز والمعلبات وأكياس القمامة ومنع التجوال والمنشورات والرصاص و”يقولون ” وال لا أدري )[35] وتطرد الظاهرة بعد ذلك مقترنة بفعل المضارع أكثر من اقترانها بأفعال الماضي ولتقريب الصورة نقدم بعض الأمثلة التي اقترنت فيها ال بالفعل:
⚝ – ال قبل الماضي:
-
مواقيتنا ال كنا نضربها ص 28
-
فأم نهار السيدة الداية ال كف بصرها ص 41
-
السنة ال ضاعت في مهب الحرب ص76
-
غاب الصوت ال كان ساطعا ص 202
⚝ – ال قبل المضارع
-
عينيه ال تخبئان مستقبلا مغبشا ص 32
-
صوت … الكويت ال تبثها السعودية ص 38
-
غضب الدنيا ال يسكنني ص 40
-
للعيون ال تتفقد آخر الخسائر ص 44
-
الحزن هو الطاقة ال تسترني ص 45
-
صوت الشاطئ ال يمشط أذني بصفيره ص57
-
وتربك جابري ال تختلط فيها المشاعر ص190
-
بين شتلات أبي ال تنتظر الغرس ص 191
-
هذا الهدوء الاستثنائي ال يسكن الشوارع ص76
-
الأيام محشوة بالدقائق ال تنساب.. ص 77
-
الوطن ال يتنصل من محبة أبنائه ص 101
يبدو من خلال هذه الأمثلة أن اقتران (ال ) بالفعل لم يرد له ذكر لما كانت سلوى بالمدرسة، وأن أول حالة سجلت ليلة الاجتياح، وفي نفس الصفحة الذي ذكر فيها اغتصاب سلوى… كما يلاحظ أن معظم الأفعال التي سبقتها (ال) جاءت مشحونة بدلالة سالبة مما يدل على أن ذلك لم يكن عفويا واعتباطيا وإنما لغاية في نفس الكاتبة، ولهدف تريد الكاتبة إبلاغه للقارئ… اعتقدت في البداية أنه خطأ مطبعي أو زلة لم تنتبه لها الكاتبة، لكن ما أن توغلت في الصفحات حتى أمطرتني الرواية بعشرات الأفعال المسبوقة ب(ال) فتيقنت أن العملية مقصودة مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما حتم علينا العودة للنبش في الحالات التي تدخل فيها (ال) على الفعل…
لقد كان في الذهن حالات قليلة من الشعر القديم أدخل فيها الشعراء (ال) على الفعل، نقدمها تلقائيا كلما دقت الضرورة لطلابنا كقول الفرزدق:
وما أنت بالحكم الترضى حكومته ⚝⚝⚝ ولا الأصيل ولا ذي الرأي الجدل
لكن أثناء البحث وقفنا على نماذج كثيرة من الشعر تناولها علماء اللغة العرب القدامى وجعلوا منها موضوع نقاش، وإن ربطوها بالضرورة الشعرية فإن أغلبهم يجيز دخول أل على الفعل المضارع دون غيره من الأفعال مع الإجماع على أن (ال) من علامات الاسم وإدخالها على الفعل ضرورة قبيحة ومستهجنة…
لكننا نرى الظاهرة في هذه الرواية جرأة لغوية وتحديثا يضفي حركية على السرد، خاصة وأن معظم الأفعال المسبوقة ب(ال) يمكن تعويضها باسم فاعل أو اسم مفعول ، وهذين الاسمين من الأسماء المشتقة الدالة على الاستمرارية ،الاستقرار ، الديممومة والثبات، وهي صفات لا علاقة لها بمقصدية الكاتبة ولا بحال سلوى/ الكويت التي كانت متقلبة متذبذبة كل يوم هي في شأن، مع توالي النكبات والمصائب وما يعتصر في أحشائها من غليان وانفعال، لذلك كان الفعل المسبوق بال أدق تعبيرا من الاسم المشتق، وبذلك يكون اقتران الفعل ب(ال) قد أدى وظيفة دلالية لها علاقة بالرسالة المراد تبليغها، وتعبيرا عن عمق الأزمة التي استشرت في كل أوصال جسد سلوى/ الكويت وتكسيرا للبنية التركيبية التقليدية، يوافق تكسير الرواية للاعتقاد السائد، فإذا كان طبيعيا أن ما وقع لسلوى/ الكويت لن ينتج إلا الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام … فإن الرواية كسرت كل ما كان متوقعا وقدمت سلوى بطلة في قمة التسامح والتمرد، أصرت على تزويج ابنها/ أخيها من امرأة عراقية داعية للحب والتسامح رافضة أن يبقى المجتمع الكويتي، الخليجي والعربي عامة مجتمعا (ٌيضم المخادعين ويقربهم للفوز بالمتع كلها، تمامًا كغيره من المجتمعات التي تستمرئ فعل البشاعات في الخفاء وتهوى التواري وراء شمّاعات الظروف وتنتشي بشنيع فعلها المعفّر بألف رغبةٍ كاذبةٍ في الطهر) لـتكون الرواية صرخة نسائية تعلن بصوتٍ عالٍ رفضها لكل التصرفات اللاسويّة .. وللتناقض والخداع المعشش في العقول التي ترى فيه سبب كل مصائبنا وأزماتنا … وكما كان مضمون الرواية متمردا، اختارت الكاتبة لغة متمردة وكان من تجليات ذلك التمرد إدخال (ال) على الفعل ماضيا ومضارعا.
يستنتج إذن أن رواية (ثؤلول) تعتبر بمثابة استخلاص لأكبر أزمة هزت أركان العالم العربي المعاصر، لكن الكاتبة ابتعدت عن المقاربة السياسية ، التاريخية … فلم تقدم رواية تسجيلية أو تاريخية ، وإنما خلعت على المأساة بعدا فنيا جماليا، من خلال بطلة أصابتها شظايا الأزمة فسقطت من ضمن الضحايا ، لتجد نفسها مع عمق أزمتها ضحية عصية على التصنيف (فالشهيد مات وكرم، والأسير غاب واستذكر، فماذا عني أنا تحت أي التصنيفات يمكن أن أدس/ أُداسُ بتجربتي / كارثتي وأذاي) [36] وعمق الأزمة عنفها وقوتها العميقة حول الفتاة سلوى إلى (امرأة نسيت كل مباهجها)[37] تقول( نسيت تاريخ ميلادي تغبشت ذكرياتي مع الحياة نسيت البكاء كطفلة/ والغناء كشابة فقد تفلت قلبي من كل هذا وذاك)[38] ، فهي أزمة يشيخ لها الوِلدان جعلت سلوى (طفلة لبست ثياب السيدات على عجل بل… على حين سقطة)[39] ، وما ثؤلول إلا نموذج للرواية بنون النسوة في الكويت التي حاولت رصد بعد تجليات أزمة الغزو العراقي للكويت ، وما ترتب عنه من مآسي مست الأفراد، الأسر، الدول مما جعلها تتربع على عرش أكبر أزمة عرفها العالم المعاصر لا زالت تبعاتها تتناسل ولا أحد قادر على التنبؤ بنتائج كل ما يتفاعل في رحم هذه الأزمة وخارج رحمها بعد تدويلها .
الروايات المعتمدة في هذه الدراسة :
-
رواية (سميحة تخرج من البحر) ليلى العثمان . شركة الربيعان للنشر والتوزيع . ط1. الكويت 1986.
-
رواية (كاللولو ) حياة الياقوت . ط1. عام 2012 بالكويت ، دون الإشارة إلى دار النشر .
-
رواية (جراحات في الزمن الرديء) . حولة الفزويني . ط1 . دار الصفوة 2002
-
رواية (ارتطامٌ .. لم يسمع له دوي) بثينة العيسى . دار المدى. ط1 . سوريا2004.
-
رواية ( سعار ) بثنية العيسى . المؤسسة العربية للدراسات و النشر . ط1 . بيروت 2005.
-
رواية (الشمس مذبوحة والليل محبو) فوزية شويش السالم . دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع. ط1 .دمشق 1997.
-
رواية (المرأة والقطة) ليلى العثمان . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط1. بيروت 1985 .
-
رواية ( رجيم الكلام ) فوزية شويش السالم . دار الأزمنة للنشر والتوزيع ط1 . 2007 .
-
رواية (سلالم النهار) فوزية شويش السالم . دار العين للنشر. ط1 . 2012 .
-
رواية (غرفة السماء) المؤسسة العربية للدراسات والنشر.بيروت.
-
رواية (عقيدة رقص) المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت 2009.
-
رواية (عرائس الصوف) المؤسسة العربية للدراسات والنشر.بيروت 2006.
-
رواية (لم يستدل عليه) دار العين. مصر2011.
-
رواية (ثؤلول ) دار العين . الإسكندرية 2016 .