الرئيسية |
فكر ونقد |
“الذاكرة الموشومة” للخطيبي بلغة شكسبير: رواية ما بعد كولونيالية
“الذاكرة الموشومة” للخطيبي بلغة شكسبير: رواية ما بعد كولونيالية
مراد الخطيبي
لطالما تمنّى المفكر والفيلسوف الفرنسي جاك دريدا أن تترجم أعمال صديقه المفكر والأديب عبد الكبير الخطيبي (11 فبراير 1938-16 مارس 2009) إلى اللغة الإنكليزية. يقول جاك دريدا في هذا الشأن:
“مثل كثيرين، أعتبرُ عبد الكبير الخطيبي كأحد أكبر كتّاب عصرنا وشعرائه ومفكّريه الناطقين باللغة الفرنسية، وآسف لأنّه لم ينل الدراسة التي يستحقها في البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية. يهمّني أن أشير إلى أنّ أعماله، المعترف بقيمتها بشكلٍ واسع في العالمين العربي والفرانكفوني، هي ابتكارٌ شعري هائل، وفي الوقت ذاته، تأمّلٌ نظري متين يرتبط، من بين موضوعات كثيرة، بإشكالية ازدواجية اللغة وازدواجية الثقافة. ما يصنعه الخطيبي باللغة الفرنسية، ما يمنحه إياها بترك بصمته فيها، يتعذّر فصله عما يحلله من هذه الحالة، في أبعادها اللغوية، طبعاً، ولكن أيضاً الثقافية، والدينية، والأنتروبولوجية، والسياسية”.
وأخيراً ترى الترجمة الإنكليزية لأول عمل إبداعي أصدره الأديب والمفكر عبد الكبير الخطيبي النور. صدرت “الذاكرة الموشـــــومة La mémoire tatouée “ باللغة الفرنسية سنة 1971 أي منذ 45 سنة من القرن الماضي.
ورأت الترجمة الإنكليزية النور في شهر يوليو/تموز الماضي تحت عنوان: « The Tattoed memory » عن دار النشر لارمتان بفرنسا. يقع الكتاب في 160 صفحة من الحجم المتوسط. أنجز الترجمة المترجم بيتر طومسون .Peter Thompson
“الذاكرة الموشومة” وسياقها
رغم كونها سيرة ذاتية أساساً إلا أن “الذاكرة الموشومة” تتوفر على مقومات فنية وإبداعية غاية في الشاعرية تجعل منها عملاً روائياً متفرداً. وهي تشكل اللبنة الأساسية للمشروع الفكري للمفكر والأديب عبد الكبير الخطيبي.
ومن المعلوم أن المغرب وكغيره من البلدان العربية تعرض لعدد كبير من أنواع الاستعمار ومنها الاستعمار الفرنسي الذي جثم على أرض المغرب تحت مسمى “الحماية الفرنسية” منذ سنة 1912 إلى غاية استقلال المغرب بتاريخ 2 مارس 1956. وبالتالي فـ “الذاكرة الموشومة” حاولت رصد بعض الأحداث التي عاشها كاتب الرواية خلال طفولته في مرحلة الاستعمار الفرنسي بشكل خاص والذي انتقد فيها في العديد من المرات بطش هذا الاستعمار وجبروته وعنفه. ومنها هذا المقطع:
” اقتحم مظلي الباب علينا فاكتشفنا أنا وإخوتي، فالأيادي مرفوعة والرشاشة في ظهرنا. وصول إلى عنبر ثم استجواب. ترددت في أن أشرح للشرطي سبب إهمالي حلاقة ذقني فصفعني وصرخ في: “اخفض رأسك حين أكلمك” وبقينا عدة ساعات منتصبين على ركبنا. لم يظفروا منا بأي خبر فخلوا سبيلنا، وأرسلوا الآخرين نحو خلاء.”.3
و”الذاكرة الموشومة” تؤرخ لفترات مهمة من حياة عبد الكبير الخطيبي ابتداء من مرحلة ولادته إبان الحرب العالمية الثانية ودلالة اسمه الشخصي وارتباطه بمناسبة دينية مهمة في حياة المسلمين إلى غاية ذهابه إلى فرنسا من أجل استكمال دراسته العليا بجامعة السوربون بباريس بفرنسا في شعبة علم الاجتماع. وتتخلل هذا المسار العام للعمل محطات عديدة تتحدد وفق أزمنة وأمكنة مختلفة.
ففي محطة مدينة الجديدة وهي المدينة التي ولد فيها عبد الكبير الخطيبي، يتم الحديث فيها عن بعض تفاصيل طفولته وأسرته وعن بعض الأحداث التي عاينها وهو طفل، ومن بينها بطش الاستعمار الفرنسي الذي كان جاثماً على أرض المغرب خلال تلك المرحلة. تكلم أيضاً عن وفاة الأب الفقيه وخريج جامعة القرويين العريقة وما خلفه الموت في نفسيته. ثم محطة مراكش المرتبطة أساساً بمرحلة مراهقته ومتابعة دراسته الثانوية حيث سيكتشف أسرار مادة الفلسفة ويكتب نصوصه الشعرية الأولى باللغة العربية، ويتعرف على كتابات بودلير والمتنبي وسارتر وجبران خليل جبران والمعري. ثم محطة الصويرة المرتبطة بالأساس بمكان الاستجمام والتمتع بالعطل الدراسية عند خالته أو أمه الثانية “السعدية” كما يعتبرها الخطيبي دائماً، وأخيراً محطة باريس وفترة دراسته الجامعية وحصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون.
“الذاكرة الموشومة” ونظراً لانتقادها الواضح للمستعمر وغطرسته فإن صاحبها لم يسلم من النقد خاصة من الفرنسيين، نقد يستند إلى منظور إيديولوجي أساساً. كما أن “الذاكرة الموشومة” واجهت انتقادات أيضاً من المغاربة والعرب المحافظين خاصة في اقتحامها لبعض التابوهات مثل الجنس عن طريق سرد الكاتب لبعض قصصه الجنسية بشكل مختصر جداً. واجهت الرواية أيضاً بعض اللوم لانتقادها الطريقة التي كان يتم التلقين بها في الكتاتيب القرآنية خلال تلك الفترة والتي كانت مبنية على الحفظ ليس إلا.
“الذاكرة الموشومة” باعتبارها أدباً مابعد كولونيالي:
يقول الباحث والمترجم عبد السلام بنعبد العالي عن أهمية الترجمة:
“فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة في الوقت ذاته. فإذا كان في الإمكان ترجمة نص ما ترجمة نهائية، فإنه يموت، يموت كنص وكتابة”.4
وبالتالي، فالترجمة الإنكليزية الصادرة مؤخراً جاءت لتسليط الضوء على هذه الرواية التي لم تنل حقها كثيراً خاصة من منظور أنها رواية مابعد كولونيالية لأنها كتبت ربما باللغة الفرنسية ولم تترجم إلى اللغة الإنكليزية من قبل. هذه الفرضية تجد ربما أرضيتها في نيل بعض الروايات التي صدرت بعدها شهرة أكبر ومنها رواية الكاتب سلمان رشدي:
“أطفال منتصف الليل Midnight’s children“5 التي صدرت سنة 1981 ولكن تم تناولها باعتبارها عملاً روائياً مابعد كولونيالي وهي تؤرخ للمرحلة الانتقالية التي عاشتها الهند بين رزوحها تحت وطأة الاستعمار الإنكليزي إلى غاية حصولها على الاستقلال. وقد حصلت الرواية وكاتبها على جوائز عالمية مهمة.
وبالتالي، فإن اللغة الإنكليزية ستحيي من جديد “الذاكرة الموشومة” لأن اللغة الإنكليزية لها قيمة أكبر على مستوى التواصل وعلى مستوى مراكز البحث الأكاديمي ولأنها تطرح بقوة إشكاليات الهوية من خلال الدراسات ما بعد- الكولونيالية التي يعتبر: إدوارد سعيد وهومي بابا وكاياتاري سبيفاك وفرانز فانون وألبير ميمي من أهم رموزها.
لهذا، يمكن اعتبارها من أهم الروايات المنتمية لمرحلة مابعد الكولونيالية. ففيها يطلع القارئ على تمظهرات “الأنا” و”الآخر”. من خلال هذه الرواية يقف القارئ على تصور الخطيبي للذات العربية والإسلامية بحمولاتها الثقافية والدينية والآخر انطلاقاً من مفهوم أساسي سيبتكره الخطيبي في ما بعد ألا وهو: “النقد المزدوج”. وهو منهج يتأسس حول مهمتين أساسيتين: أولاهما تفكيك الميتافيزيقا العربية والإسلامية وثانيهما نقد الميتافيزيقا والفكر الغربيين.
“الذاكرة الموشومة” تؤكد على أن “الأنا” و”الآخر” يحملان سمات وخصائص البعض منها إيجابي والآخر سلبي. وهذا يجعل الكاتب يقترح “فكراً مغايراً” لا هو فكر يعبد بطريقة متحجرة وغير منطقية “الأنا” ممثلة في الفكر العربي والإسلامي، ولا هو فكر يرتمي في أحضان الميتافيزيقا الغربية بشكل غير مدروس بطريقة علمية. “الفكر المغاير” الذي يقترحه الخطيبي فكر لا يرفض أيضاً “الأنا” بصفة كلية ولا يلغي”الآخر” بطريقة متعصبة كما نادى بذلك فرانز فانون6 لأن هذا “الآخر” “يوجد فينا” كما يؤكد على ذلك الخطيبي.7
على العكس من ذلك هذا “الفكر المغاير” الذي ينادي به عبد الكبير الخطيبي يهدف إلى خلق حوار عقلاني ونقدي مع “الأنا” و”الآخر”.
” النقد المزدوج” مفهوم مارسه الخطيبي في “الذاكرة الموشومة” على الذات وعلى الآخر في الآن نفسه ولو لم يشر إليه إلا في ما بعد أي في مؤلفاته النقدية اللاحقة. ويقول عبد السلام بنعبد العالي عن “النقد المزدوج” بأنه:
“يقوض أسس السيادة ويعيد النظر في أصولها وأسسها. لا تعني الازدواجية هنا أن النقد ينصب على الميتافيزيقا الغربية ثم على نظيرتها الإسلامية. إنه، على العكس من ذلك يتخذ طريقه بين هذه وتلك، وهو، كما يقول صاحبه “مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية”.
*باحث ومترجم من المغرب
الخطيبي جاك دريدا عبد الكبير الخطيبي لخطيبي مراد الخطيبي 2017-01-03