الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
يحظى التراث العربي منذ تدوينه بثقافة يعدها البعض استثنائية وهي ثقافة المسكوت عنه، وما بين العلم الأسود الذي ينتشي بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله و إشارة الأصابع الأربعة والمعروفة إعلامياً بشعار رابعة الذي يستخدمه المنتمون لجماعة الإخوان في الداخل والخارج مثل الهاربين بتركيا وماليزيا وقطر، والعرب مهووسون بثقافة الترميز والتشفير لكافة تفاصيلهم اليومية السياسية والاجتماعية، بل والعاطفية أيضاً من مثل رسم القلب باليدين تعبيرا عن المحبة والوله والغرام. وانتقلت ثقافة المسكوت عنه والترميز بالإشارة إلى ملاعب الرياضة وساحاتها فنرى اللاعب عقب إحرازه لهدف عشوائي يقفز في الهواء ويطير معلنا فرحته بإشارة ما ربما لا تحمل أية دلالة سوى أنه لم يصدق إحرازه للهدف.
والرمز قد يكون دينيا كالهلال والنجوم والفانوس لدى المسلمين والصليب عند الأقباط، والنجمة عند اليهود فضلا عن الشمعدان ، وفي الأغلب ما يكون الرمز والشعار سياسياً أو ذا مغزى أيديولوجياً يعبر عن طرح فكري أو ثقافة مرحلة أو توجه أفراد بعينهم، أو معبراً عن ردة فعل إزاء موقف سياسي معين. وربما أن الفرق الكلامية التي انتشرت بكثرة وقوة وسرعة لم تكترث كثيرا أو قليلا بثقافة الهمس الإشاري لاستخدمت الرموز أيضا للتعبير عن أفكارها وآرائها المضطرمة.
وهناك ثمة رموز أخرى تظل دلالتها اجتماعية ولا تتغير بتغير الزمن أو الموقف مثل رمز الأفعى الذي يشير إلى مهنة الصيدلة وصناعة الدواء، وكذلك الميزان الذي يعبر عن القضاء بجناحيه القضاة والمحامين، والقناع الخشبي أو البلاستيكي الذي يعبر عن المسرح وعالمه التمثيلي، ومن هنا يمكن اعتبار الشعار أو الرمز مفتاحاً للتواصل من جهة، وتعريفاً لفصيل أو قطاع مهني من جهة أخرى. باختصار شديد يمكننا القول بإن الشعار أو الرمز الفاعل يعبر أحياناً عن عقائد أممية، ومثل هذا ما أشار إليه شوقي رافع في دراسته المعنونة بعالم تحكمه الرموز، من أن السلطان عثمان الأول هو أول من قرر اتخاذ صورة الهلال رمزا لحكمه ودولته المتسعة الأركان، ويحكي نقلاً عن موسوعة جينيس العالمية أن سبب اتخاذه رمز الهلال جاء بعد أن شاهد في الحلم هلالا يمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، وهكذا بدأ في العام 1299 فتوحاته لتحقيق حلمه.
أما في عهد السلطان الاستثنائي محمد الفاتح وبعد أن نجح في فتح القسطنطينية عام 1453 تحول الهلال إلى رمز مزدوج لدى الإمبراطورية العثمانية كما لدى البيزنطيين وأضيفت إليه النجمة كدلالة على الاستقلال والسيادة. وأيضاً من الرموز الأممية النسر المصري، ونخلتي المملكة العربية السعودية، والصقر الأمريكي وغير ذلك من الرموز التصويرية التي تشير إلى دولة بعينها أو سيادة قومية. وأحياناً يعبر الشعار أو الرمز عن تيارات سياسية حزبية مثل شعار السيفين يتوسطهما مصحف وهو شعار جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، أو كنوع من أنواع ممارسة التأييد الصامت لموقف سياسي أو رفضه أيضاً.
والشعار في مصر تحول منذ ثورة الخامس والعشرين إلى رمز له بريق يخطف الأذهان مثلما يطيح بالأبصار من شدة تأثيره، وهو بحق وثيق الشبه بمصطلح المفكرين الأحرار، وهو المصطلح الذي أطلقه جيل دولوز في توصيفه لجان بول سارتر حينما رفض جائزة نوبل، من حيث إن كليهما (الشعار والمفكر الحر) لهما خاصيتان، الأولى نوع من التوحد الذي يلازمهما في كل حال، والثانية شئ من الاضطراب المنبعث من فوضى العالم الذي ينبجسان منه، فالشعار والكاتب الحر لا يتكلمان باسمهما الخاص لكنهما يعبران عن عالم خاص ورؤية متمايزة .
ومواطن ما بعد ربيع الثورات العربية أصبح مهتماً بامتلاك رمز شخصي أو شعار جمعي يعبر عن المرحلة التاريخية التي مر بها حتى وإن لم يشارك في إحداثياتها من باب أن حدثاً ما مهماً يمكن أن يضيف شيئاً إلى رصيده الحياتي، وربما هذا المواطن قد أدرك أن حضوره ليس بكافٍ، لذا فاستجدى شعاراً ما يكون بديلاً مماثلاً لحضوره. والشعار اليوم أصبح العنوان الذي يعبر عن مدلولات ساكنة أو ساكتة تبوح بمعان أو إشارات يمكن أن تكون عالمية كحرف f الدال على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك، و حرف t الذي يشير إلى شبكة تويتر التواصلي ، وفي أحيان أخرى يكون الصليب الملعق على الرقبة مدلولاً لهوية دينية وهكذا، ويكاد يكون الشعار السياسي وسيلة نشطة في تسهيل ونقل المعرفة والمعلومات.
والشعار قبل أن يكون الأكثر حضوراً في المشهد السياسي الراهن كان له حضور آخر في خمسينيات القرن الماضي، حيث نصت المادة التاسعة والعشرون فقرة 3 من قانون مباشرة الحقوق السياسية 73 لسنة 1956 على إلزام اقتران رمز أو لون محدد لكل مرشح ينتوي خوض العملية الانتخابية للفوز بعضوية البرلمان، والسبب في ذلك هو ارتفاع نسبة الأمية في مصر آنذاك، ويظل الرمز منذ ذلك اليوم معبراً عن الانتماء السياسي والحزبي.
وقد يأخذ الشعار أو الرمز دلالة لفظية غير الصورة، وعادة ما يكون هذا الاستخدام نابعاً من فورة الحراك السياسي واحتدام الصراعات السياسية بين التيارات والفصائل والجماعات المتناحرة بشأن قضية أو معركة حزبية أو لتقرير مصير إزاء ثورة ، فوجدنا شعارات لفظية تهبط على أرض مصر معلنة عن معان سياسية متباينة ، مثل كلمة تمرد التي أشارت حينئذ على تمرد الشعب على استمرار نظام الرئيس السابق محمد مرسي ، وواجهتها حملة تجرد التي تعد في ذاتها شعاراً مماثلاً في الاستخدام متبايناً ومتمايزاً في الدلالة .
وبعد الانتفاضة الشعبية التي حدثت في الثلاثين من يونيو والمعروفة بثورة الثلاثين من يونيوـ وهذا يدفعنا إلى التأكيد على افتقار الشعب المصري لإطلاق مسميات على أحداثه المهمة رغم أن العقل المصري بطبيعته مهووس بالمسميات والتصنيفات وإطلاق الأسماء والمعاني على الأشياءـ وفض اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة أصبح الشعار السياسي هو الأكثر حضوراً والأعلى تزامناً مع كافة ممارسات المشهد السياسي حتى وقتنا الآني. وصار التلميح دون التصريح هو سيد الموقف في الشارع المصري، ورغم أن المصريين بعهودهم السياسية والثقافية الضاربة في القدم حضارة وتميزاً وبريقاً، إلا أنهم قرروا أن يصنعوا عقلاً جمعياً يقوم على استخدام الرمز ، ولهذا أسباب وعوامل منها أنهم ربما فقدوا الثقة في الخطب الرنانة والشعارات اللفظية التي استهلكت بفضل الاستعمال غير الواعي مثل شعارات السقوط لحكم المرشد أو العسكر أو مبارك، ومنها أن استخدام الصورة السياسية كعلامة الأصابع الأربعة على سبيل المثال يعد اختزالاً مكثفاً لأحداث طويلة، كما أن رفع بعض الصور الشخصية للزعيم الراحل والخالد جمال عبد الناصر أو الفريق عبد الفتاح السيسي هو رمز اختزالي لبطل شعبي في مواجهة جماعة سياسية تريد استقطاب الوطن واستلابه بغير شريك لها.
وفي مصر تحديدا عقب العزل الشعبي لمندوب جماعة الإخوان في مصر محمد مرسي استغل المؤيدون لفكر هذه الجماعة يوم الجمعة لإقامة تظاهرات منها ما كان سلميا ومنها ما اتسم بالتطرف والعنف وإحداث التخريب والتشويه، وتم ترميز كل مظاهرة باسم يختلف عن الأخرى مثل جمعة الحجاب وجمة الثأر وجمعة النقاب وهكذا تم تشفير المظاهرة بثقافة لفظية تعبر عن دلالتها المقصودة .
وإذا كان الشعار والرمز في بعض الأحيان كلاماً مسكوتاً عنه أو همساً سياسياً مثل الإشارة التي أشار بها جورج بوش في حربه غير المقدسة ضد الرئيس العراقي صدام حسين حينما وضع الإبهام فوق الأنف وتعني السخرية من الآخرين واصفاً بها طريقة تعامل صدام حسين مع العالم، أو علامة النصر وهي رفع السبابة والوسطى مع تباعدهما رغم أنها تستخدم أيضاً كنوع من الإهانة أيضاً حينما يكون الكف في مواجهة الناس، فإن الشعار السياسي اليوم لم يعد همساً أو نطقاً مكتوماً لا صوت له. بل يمكننا التأكيد على أن الرمز دخل معركة بغير استئذان مع الكلام السياسي المعتاد وصار الحصان الأسود في كافة مشاهد الحراك السياسي في هذه الآونة.
واليوم بات كل فصيل يستخدم شعاراً أو رمزاً سياسياً يخدم قضيته أو يعبر عن حالاته السياسية يبحث عن أوجه تدعيم من الداخل والخارج لخدمة أهدافه، فوجدنا على سبيل المثال أنصار جماعة الإخوان المسلمين والفصائل المتحالفة معها يفتشون في كل بقاع الأرض عن أية صورة لفنان أو لاعب كرة أو زعيم سياسي أو عارضة أزياء أو حتى صبية من البنغال أو كمبوديا يرفعون أصابعهم في إشارة إلى رمزهم المقصود به ذكرى اعتصام رابعة العدوية، وهم لا يدركون أن هذا الاستجداء قد يضعف قضيتهم بل هو عامل أساسي وركيزة رئيسة في إضعاف موقفهم في الوقت الذي هم بحاجة ماسة إلى التصالح والمواءمة مع رغبات القطاع العريض من الشعب المصري ، وخصوصاً أن بعض الصور التي تتناقلها الخلايا الإلكترونية الإخوانية لمن يقوم بهذه الإشارة لا ترتبط بالأساس بالشأن المصري ، أو بالمعركة الدائرة على المشهد السياسي الداخلي، بجانب أن المواطن المصري يتميز بقدرة فائقة في التفتيش والتنقيب وسبر أغوار المجهول ، فنكتشف أن هذه صورة لفنان أجنبي من دعاة زواج المثليين، وهذا لاعب كرة لاديني ، وتلك عارضة أزياء متهمة بازدراء الأديان و كراهية العرب ، وهكذا تلعب الصور التي يستعين بها هؤلاء دوراً مضاداً وتستحيل نيراناً صديقة.
ورغم ما للشعار من مزايا وما عليه مثالب ، فإن السياسة والشعار الرمزي وجهان لعملة واحدة ، ويبدو أن السياسيين بمساعدة علماء الاجتماع وجدوا أن خطاباتهم لا تكفي ، ولا تفي بجموح العواطف والمشاعر السياسية المحتدمة لدى مواطنيهم ، وأن عصراً كهذا الذي نحياه يتسم بالسرعة الاستثنائية المقرونة بزيادة معدلات إصابة المواطن بالملل وهروبه المستدام من الرتابة والروتين اليومي ، كفيل بجعل الشعار أو الرمز هو الراعي الرسمي للهمس السياسي.
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا