علي أوعبيشة
لماذا نرغب في ممارسة الحب (الجنس) ولماذا نتطلّع إلى الوصول لحالة الانتشاء القصوى؟ ما الذي يعوضنا عنه الجنس؟ وهل يمكن أن تكون ممارسة الحبّ تصوفا؟ هل نخشى الوقوع في الحب كما نخشى الموت ونريد ممارسته مثلما نود أن نكتشف تجربة الموت؟
يكون الحب إيروسيا أو لا يكون:
ما الذي يجعل من ممارسة الحب حبا؟ وما الشيء الذي يفصل الحب عن ممارسته؟ هل يكفينا قول فيكتور هيغو Victor hugo بأن “الحب اعتراف بجميل اللذة” لنقرّ بكون الحب يأتي لاحقا على ممارسته، أو أنه يسبق الجنس فيبقى بذلك مجرد مقدّمة له؟ وهل سؤالنا هذا سؤال يخص الزمن، زمن الحب في مقارنته بالجنس؟
تخفي هذه الأسئلة مسلّمة مخاتلة مفادها: إمكانية التمييز بين الحب والجنس أو ممارسة الحب، لكن كيف لنا أن نبحث عن “الحب” في نصوص جورج باطاي، والرجل لا يعترف بالحب إلاّ إن كان ممارسة له، أو بالأحرى إلاّ إن كان “لا حبا”، ف”اللا حبّ هو الحقيقة“[1]، أما “الحبّ فهو محاكاة ساخرة للا حبّ مثلما أن الحقيقة محاكاة ساخرة للكذب“[2] كما “لا يكون الحب حبا –حسبه- إلاّ إذا كان إيروسيا (شبقيا)”[3] ، بحيث أن لفظة الحب لديه تعادل الصفة المخفّفة لانتهاك الجسد المحاط بالقداسة، الحب بهذا المعنى شبيه بالأمل في نقض التحريم أو الانتهاك الخجول للقداسة من بعيد، إنه توتّر بين إرادتين، إرادة نقض التحريم وانتهاك القداسة من جهة وإرادة الخضوع والانصياع للقداسة والتحريم.
إن الجسد لا يتحرّر إلاّ إذا تحرّرنا من سلطة التحريم، بل إن التحريم نفسه وجد ليتجاوز كأفق لجرأة الرغبة، ف”فكرة الحدّ أو الحدود، التي تشكّل موضوع التحريم، لا فعالية لها على المستوى الانفعالي الذي يمثّل لبّ ظاهرة القداسة بما تثيره من توجّس ومخاوف وهلع وقلق، إلاّ ملازمةً لنقيضها، أي لمبدأ الانتهاك (Transgression) أو نقض التحريم“[4].
لقد كتب باطاي كثيرا عن الجسد، هذا الكيان الذي سحره وأذهله، معريا إياه من كل رمزية أو قداسة، ليظهره في كامل فظاعته ودناءته، الجسد لا يعني شيئا إلاّ إذا نظرنا إليه نظرة خاصة، نظرة إيروسية تمنح له وسم الجمال، يقول باطاي في مجموعته حكاية العين واصفا إحدى شخصياته:
“وقفـــت أمـام الباب منذهلة تعوزها جرأة الدخول. أنصتت إلى أغاني البنات وصيحات السكارى الآتية من الداخـل. أحست بأنها ترتعش، لكنها تلذذت بارتعاشها.
فكرت: «سأدخل، وسيرونني عـارية.» اتكأت على الجدار. فتحت معطفهـا ثم وضعت أصابعها الطويلة في الشـق. أنصتت وهي جامدة قلقا، شمت في أصابعها رائحة الفـرج الوسخ. كان الـزعيق يملأ الحانة، ومع ذلك أحست بأن الصمت يخيم. كان المطر يتساقط، ووسط عتمة كهفية كانت ريح فاتـرة تميل بالمطر. أنشد صوت إحدى البنات أغنية ريفية حزينـة. ومن ليل الخارج كان سماع الصوت الحاد المحجوب داخل الجدران يثير الإحسـاس بالتمزق. سكت الصوت. تلته تصفيقات وضربات أرجـل على الأرض، ثم منـاداة.
انتحبت ماري وسط الظـلام. بكت في غمرة عجزها وأسنـانها مسنـدة إلى أعلى يدهـا.[5]“
لماذا لا نحبّ الجسد إلاّ إذا كان عاريا(أو إذا تخيلناه عاريا) ؟ ما الشيء الذي يستهوينا فيه؟ هل هي أعضاؤه الحساسة؟ لكن لماذا تستهوينا فقط بعض الأعضاء وأخرى لا، هل هو العري ما يستهوينا؟ إذ كلما كانت الأعضاء الحساسة عارية زادت رغبتنا بممارسة الحب؟ هل هذا يعني أيضا أن سيادة العري وتعوّدنا عليه سيجعل رغبتنا تفتر وتنقص شيئا فشيئا حتى تنعدم، إن العري وحده لا يكفي، فالأعضاء العارية إن لم تكن حيّة تشعرنا لا محالة بالهلع والتقزز، فنحن لا نحب ممارسة الحب إلاّ مع الجسد الحيّ، ثمة شيء غريب يتجاوز الغريزة، شيء غامض، قد تكون معرفته شبه مستحيلة، وربما هو المستحيل في ذاته الذي بحث عنه باطاي، في التجربة الباطنية (تجربة العشق الشبقي).
ما الذي يجعل العري جزءً من المجون وسلوكا منبوذا؟، ولماذا تعادل غالبية الثقافات بين التعري بعد التكسي ومقدمات الجنس؟ فحتى أكثر الثقافات انفتاحا مثل الثقافة الفرنسية، لا تستطيع مقاومة هذا الإيحاء الغريب للجسد العاري. يتمم باطاي وصف تجربة ماري وهي تدخل الحانة بنوع من الاستهزاء من الجسد شبه-العاري.
” سـألت بصوت خفيض:
– هل الشـراب مباح؟
أجابت صاحبة الحانة من وراء الكونتـوار:
– أتريديـن كأس كالفـا؟
ثم وضعت كأسـا صغيرة فوق الكونتوار.
رفضت ماري الكأس قـائلة بصوتها الخفيض الذي لم يفقد صلابته:
– أريد زجاجة وكؤوسا كبيرة.
ثم أضافـت:
– سأشـرب معهـم.
وأدت ثمن الزجاجة.
قـال أحد فتيـان الضيعة ذوي الجزمات الترابية بصوت خجول:
– أ للمجـون أتيـت ؟
أجـابت ماري:
– نعـــم.
أرادت أن تبتسم، لكن الإبتسامة أضجرتها.
جلست إلى جانب الفتى، وألصقت ساقها بساقه، ثم أمسكت يده وجعلتها بين فخذيهـا.
مـا إن لمست يدا الخادم الشق حتى قال متحسرا:
– يا إلهـي!
صمـت الآخرون محتنقين.
قامت إحدى البنات، وعرت جانبا من معطف ماري، ثم حرضت الغـلام:
– عليك بها فهي عارية.
لـم تمانع ماري، وشربت كأس خمر بسرعة. قالت صاحبة الحانة:
– إنها تحب الحليب.
تجشأت ماري بمـرارة.”[6]
لكن، ثمة سؤال آخر يؤرق باطاي أكثر، لماذا الإغراء الجسدي منتوج ذكوري أي يصدر عن الأنثى أكثر مما يصدر عن الذكر(على الأقل كما نظن ذلك)؟ أيعني هذا أن الجسد الذكوري لا يغري، ما هو هذا الشيء الذي يميّز إذن جسد المرأة-الأنثى عن جسد الرجل-الذكر؟ وكلما افتقدت إليه أصبحت امرأة-ذكر، وليس أنثى. يتابع باطاي مسيرة ماري الماجنة في الحانة محاولا أن يكتشف سرّ الإغراء، هل الأعضاء الحساسة هي من يغرينا؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أنها ستغرينا على الدوام، لكنها قد تكون مصدر تقزز واشمئزاز، فالأعضاء المتسخة لا تجذب، كما أن إغراء أعضاء الذكر مرتبطة بهيجان الرغبة، بانتصاب العضو أساسا، فالعضو ما لم ينتصب، ليس حيا، أو على الأقل ليس عضوا.
” قــالت ماري بصوت حزين:
– لقد قضي الأمر.
التصقت خصلات شعرها الأسود المبلل بوجهها. حركت رأسها الجميل، ثم قامت وخلعت معطفها.
اتجه نحوها رجل فظ كان يشرب في القاعة، ثم تمايل مصفقا الهواء بيديه، وصاح:
– لنا النساء العاريات!
عنفته ربة الحانة قائلـة:
– سأجذبك من الأنـف…
جذبت أنفه، ثم لوته إلى أن صاح.
قالت ماري:
– لا أمسكيه من هنا أفضل.
ثم دنت من السكير، وفكت أزرار سرواله، وأخرجت ذيله وهو غير كامل الانتصاب.
أثار الذيل ضحكا كثيـرا.
شربت ماري كأسا ثانية دفعة واحدة بجسارة وحش.
بعينين متقدتين كمنارة لمست ربة الحانة مؤخرة ماري بهدوء حتى الشق، ثم قالت لها:
– سنـأكل منه.
ملأت ماري كأسهـا ثانية. نزل الكحول مقطقطـا.
تجرعت الكحول كما يتجرع المرء موته. سقط الكأس من يدها. كانت مؤخرتها جيدة الشق مسيخة، وكانت وداعتهـا تشع داخل القاعـة.”[7]
[1] جورج باطاي، القدسي وقصائد أخرى، ترجمة محمد بنيس، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2010 ص 32
[2] المرجع نفسه، ص: 32
[3] دومينيك غريزوني، الحب والموت عند جورج باطاي، ترجمة كمال فوزي الشرابي، مجلة المعرفة السورية، العدد 272، بتاريخ 01 أكتوبر 1984، ص: 83
[4] الجنون المتنقل بين الفلسفة والقداسة، مرجع سابق، ص : 40
[5] جورج باطاي، حكاية العين، قصص، ترجمة محمد أسليم، مدونة محمد أسليم http://aslimnet.free.fr/traductions/articles/j_bataille.htm وقد فضلت الاعتماد على ترجمة محمد أسليم لنص الميّت، عوضا == عن ترجمة راجع مردان: أنظر: جورج باطاي، حكاية العين، قصص،ترجمة راجع مردان، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا-ألمانيا2001، بالنظر إلى أن محمد أسليم في ترجمته ملمّ بالخلفية الفلسفية وراء نصوص باطاي عكس اللبناني مردان الذي أضفى على النصوص قاموسا أدبيا صرفا.
[6] جورج باطاي، حكاية العين، قصص، ترجمة محمد أسليم http://aslimnet.free.fr/traductions/articles/j_bataille.htm
[7] جورج باطاي، المرجع نفسه، http://aslimnet.free.fr/traductions/articles/j_bataille.htm