يوسف عدنان
أستاذ باحث في الفلسفة
أمشي إذن أنا أفكر
-
تأملات واستبانات
ما دلالة فعل المشي؟ أول خطوة نخطّها في الطريق؟ أين نمشي وكيف نمشي ولماذا نمشي؟ هل المشي هو دعوى للجسد لكي يفكر ويتفلسف، أم هو مجرد فسحة يؤخذها الجسد لكي يتفرغ لنفسه؟ ما علاقة المشي باسترجاع مسارات تطور الكائن البشري؟ بأي معنى يتهاوى الكوجيطو الديكارتي “أفكر إذن أنا موجود” ويستبدل بآخر: أمشي إذن أنا أفكر ؟! ما هي فضائل المشي في زمن الآلة؟ كيف يحقق الجسد تناغم منقطع النظير مع النفس من خلال أخذ المسار؟ وكيف يعتبر المشي ثورة هادئة على الذات والآخر؟ وبأي حجة يتحول المشي أيضا ‘من منظور سياسي’ إلى سلاح للمقاومة والتعبير والمطالبة بالتغيير؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سنحاول رفعها إلى عتبة التفكير والتأمل الفلسفي رفقة مجموعة من الفلاسفة المشائين وكذا الكتاب والباحثين المهتمين بفلسفة المشي من قبيل : ميشال ماليربي Michel malherbe – فريديريك غروس Frédéric Gros – ميشال سير Michel serres – نانسي هوستن Nancy Huston – جون بول غوفمان jean Paul kauffmann (…) الخ، وقبلهم احتفظ تاريخ الفلسفة بأسماء فلاسفة لم يكتفوا باتخاذ المشْي كممارسة يستهلكها اليومي، وإنما جعلوه موضوعا نابضا لانشغالهم الفلسفي وبوؤه مكانة رفيعة في صلب تفكيرهم، كما دوّنت ذاكرة المكان “الحيز الجغرافي/ الفيزيقي” أسماء مشياتهم الخالدة المحفورة بحروف عريضة على وجه الأرض: آغورا سقراط، رواق الأرسطيين والرواقيين، تيه الكلبيين، طبيعة جون جاك روسو، ممرّ الفيلسوف كانط، زقاق نيتشه، دروب هايدغر، غرفة كارل ماركس، مسارات كريكغارد.
ولا ندّعي إطلاقا أن لنا السبق الفكري في إثارة هذا الموضوع الأثير بالاهتمام، مادام حضوره قد واكب تعرجات بعض الأقلام الفلسفية اليقظة والدراسات الوازنة، كما نال من البحث والتدقيق حدّ التخمة مع مؤلف فريدريك غروس «فلسفة للمشي» (فيرسو، لندن). لكن هذا لا يعني حصول انحباس فكري في التنظير والمساءلة الفلسفية لفعل المشي ومشتقاته، حيث أن لكلّ أسلوبه في التقاط الملاحظات واستجماع الأفكار السابقة، أي ربط السابق باللاحق والإبداع المطلوب ذي القيمة المضافة، المستجيب ذات الحين لقلق الذات وهمومها الوجودية كما تتنزّل عليها وتعيشها على المستوى الفردي / الذاتي. وبذكر الإبداع لا يسعنا إلا العطف على الختم السؤول الذي فضّل الفيلسوف سابق الذكر أن يمضي به على مؤلفه التحفة: من أين يأتي الإبداع؟ يجيب بكل بساطة: يأتي من تعامل منظور غير مألوف مع مادة مألوفة، ذلك أنّ «الإبداع المحض» أسطورة من أساطير أخرى. لقد قرأ فريديريك غرو المشي بمقولات: الحرية، الانتظام، الهوية، الرتابة، الإيقاع، السيطرة على الذات، ووحدة الإنسان والطبيعة.
إذا ما بدأنا باستقراء صورة المشاء انطلاقا من المخيال الشعبي، فسنجدها كثيرا ما تنسُج رباطا قويا بين الإنسان المشاء والإنسان المتأمل المُعمل لعقله والمكتشف لخبايا جسده المكتوب « corpus »، على خلفية اعتبار أن المتن والجسد كلاهما يسكُن الآخر. فالمشي يفترض عدم التنقل بواسطة أدوات أخرى غير الأقدام والانسلاخ عن كلّ التسهيلات التي منحها الطور الحضاري للإنسان حتى أصبح مغتربا عن حقيقته الأرضانية وخاضع لآلية شرسة “machination sauvages” تتآكل معها الذات ويذبُل الجسد، بعد التوقف عن تنضيج إمكاناته وانسداد رحابة آفاقه مع غياب مذاق الحقيقة.
إن المشي يجعلنا نشعر بامتدادنا، فكرا وجسدا، في الكون بأكمله، فنعود لنلتحم بالطبيعة من جديد، ونتفاعل معها ومع ذواتنا على نحو مغاير. عند المشي نشعر بحيويتنا، ونفسح المجال لحواسّنا كي تسترجع قدراتها على التفاعل مع الطبيعة، كما نفتح ذهننا على مختلف الأحاسيس حتى لا يبقى سجين أفكار مجردة باردة (1). ولهو عين المقصود بعودة الكائن إلى مسارات التطور البشري، بما هي عودة شكوكة « Retour des Douteux »، لا تسلّم هكذا -على نحو بديهي- بأفضلية العقلاني على الجسداني. وهو ما سنأتي على توضيحه في القادم من السطور، خاصة مع طريقة المشي الرُوسوّية.
ولعلّ ما ينبغي علينا الالتفاتة إليه حتى لا تطوقنا حبال الوعي في بعده المتغطرس أو المزيف/المقلوب، هو كوننا لا نعلم نهائيا إمكانات الجسم ومستطاعه، كما نادى بذلك إلاه الفلسفة سبينوزا وانكبّ بَعدهُ فيلسوف المعنى جيل دولوز على تفعيل متنه حتى غذى الجسد رهانا فلسفيا بامتياز (2)، بعد التخلّص وبشق الأنفس من إرث نظري فلسفي سفّل من قيمة الجسد وأثقل هوادته في منحدرات الغريزة والشبقية واللاعقل، حاملين أحجار هذا الإرث المشكوك فيه كلّ من سقراطيس وأفلاطون وديكارت وما دونهم (3).
بمعنى آخر وحتىّ لا نزيغ عن تيمة المقال فإن هذه المتلازمات بين المشي والتأمل واليقظة والتوحد وطلب الحرية {…} الخ، تدعو فعل التفلسف دعاّ. وهو الأمر الباعث لا محالة على التناغم الحاصل بين الجسد والروح: فعندما نمشي فإن وقع خطانا يتناغم طبيعيا مع المزاج والمونولوج الداخلي الغائر في سرائر النفس. كما أنه يمكننا تغيير سرعة هذه الأفكار أو حتى الخواطر عبر تغيير سرعة المشي، إذ الأمر يتوقف على حُسن ضبط الإيقاع تسريعا أو تبطيئا. فالجسد ليس آلة والمشّاء ملك والأرض مملكته. وبالتالي يُصبح فعل المشي ثمرة انسجام بين المفارق والمحايث بين النفس والجسد بين الروح والمادة بين العقل والحواس بين الصمت والحركة وأكثر من ذلك وذاك بين السعي الحثيث إلى استشعار نبض الحياة والقبول أيضا بالموت *، في ثنائية موسومة بالتجانس والتلاقح يشدّ فيها كل طرف الآخر ويصير وفقها المشي ضامنا لعدم انفصال هذين القطبين المتواشجين كما دأب على تكريس ذلك تاريخ الفلسفة الذي يشهد على إخفاق مجموعة من الفلاسفة في الجمع بينهما، نسبة إلى التفرقة القائمة – في اللاغوس الغربي – بين الجوهر والعرض بين العلة والمعلول وباقي التقابلات الضدية، التي قضت عنها استراتيجية مع نيتشه مرورا بهايدغر وانتهاء مع جاك دريدا، أو بالأحرى ما بعد البنيويين.
ففي المشي، تنكسر طائفة من الثنائيات المفتعلة وتتعايش تحت سقف واحد، يحتويها مسار الأقدام داخل حركة مترنّحة تدمج السالب بالموجب والموجب بالسالب لتكون الخاتمة المنطقية هي وحدة الهدف بدون أن يكون المقصود من القول تكليم ما للجدل الهيغلي. فالمشي يُعطينا فرصة مستقطعة من الزمن -الذي يلقى تضاعيفه في التفافه على ما هو أنطولوجي ونفساني ونوستالجي -لكي نعيش تجربة لقاء الأرضي بالسماوي، والتحام الجسدي بالروحي: وعيُ بالمحايثة والتعالي، وإدراك للمحدودية والانفتاح، لحظة تَفكّر ودرس في الأخلاق (4).
إن النفس لا يهذّبها فقط الركون إلى الصمت المتكلم والانصات إلى ذلك الخطاب القادم من هناك “ذلك المكان الذي يتّم فيه التفكير بدون معرفة”، ولكن أيضا بل قطعا وصالها المطلوب مع لغة الجسد وفهمها لأبجديته، حتىّ ينتصب الفكر بكل عفوية وانسيابية ويجد قنوات تتيح تصريفه، وهذا ما يرعاه أيضا فعل المشي الذي يُلهم الفلاسفة وفق أشكال متنوعة. ففي التّرحل بين المدن والقرى والبوادي والرمال والغابات والبحار {…} الخ، سيبدو لهم فعل المشي كتمرين توحّدي (ليس بالمعنى المرضي الانعزالي) وإنما منظور إليه كثيرا كدافع لا غنى عنه في تحفيز الفكر (5). فلكلّ إطار للمشي تجربته الفلسفية تبعا للفيلسوف فريديريك غرو، لكن عندما نقوم بالمشي وتحريك الأقدام، نصبح دائما في حوزة العالم، فاعلين في تجربة الحرية. مضيفا أن هناك أشكال من المشي تعود إلى الفلاسفة وإلى اقتراحات مختلفة للوجود. فالمشي مثلا في الغابة يختلف عن المشي في الصحراء أو الجبال أو رمال البحور، وإذا ما اقتصرنا على تجربة المشي في الغابة مع الأشجار وكثافة المشهد، نستشعر كما لو أننا في متاهة، يرتسم معها أفق نأمل معه العودة إلى أصولنا.
وقد كانت هذه العودة بالمناسبة متلازمة الفيلسوف جون جاك روسو الذي من أجل أن يكتب “أصل التفاوت بين البشر” قام بالتيهان في غابة “سان جرمان” بهدف العثور على النموذج الأول للإنسان، الذي لم يلطخ بعد بمساحيق الحضارة التي حولت الجسد إلى مجرد واجهة تعرض عليها رموز المجتمع الاستهلاكي ومثير تلتصق بجانبه البضاعة المرجو أن تكتسح الأسواق. بل إن روسو قد رفض مُباشرة المكتبات أو قراءة الكتب المتاحة: لقد بدى كما لو أنه يريد أن يحفظ الآثار التي عاشها الإنسان ما قبل الحضاري.
في نفس المنوال نشيد بالتجربة الخلاقة لديفيد هنري ثورو مع المشي، معتبرا إياه حالة تأملية خاصة، يقوم بها فرد لا يمكن استبداله بآخر. ولعلّ احتفاله بالتجوال في البراري والغابات «الرائعة» هو الذي جعله يرى في المشي «ثروة باذخة»، تنطوي على الجمال والفضول والمعرفة، بعيدا من صنف من البشر يرى الثروة في المال «وثقافة الامتلاك»، ويعتبر المشي إضاعة للوقت لا تنقصها البلادة. التصق ثورو كثيرا بالمشي، إلى درجة كان يمشي خمس ساعات في اليوم، واعتبره فعل معرفة وأداة للتعرّف إلى الواقع والذات. ولقد صل عشقه للطبيعة والتعرّف إليها إلى بناء كوخ قرب «بحيرة والدن»، وإلى وضع الدراسة الفلسفية الأولى عن المشي، ووضع كتاب عنوانه: «والدن» أو «الحياة بين الأشجار» نموذجي في مجاله. لا غرابة في أن يدعوه المؤلف «الرحّالة العظيم، و «المشّاء البطولي» الذي يكتشف ذاته ماشيا وهو يكتشف ذات الحين «الواقع» (6). كما كتب فريديريك غرو في فصل عنوانه: «مقاربة سنيكا»: «أن الحكماء اليونانيون الوحيدون الذين كانوا «مشّائين بجدارة» هم الكلبيون، الذين لازمتهم حركة دائبة، أشبه بمشردين يلوذون بالشوارع. كأنهم كلاب. يهرولون دائماً من مدينة إلى مدينة، ومن ساحة عامة إلى آخرى».
إذن، ما المعنى الذي يؤخذه المشي؟ أو بالأحرى لماذا نحن مشاؤون؟ يعود السؤال ليكرر نفسه في حركة جدلية يختلف فيها معنى الاستعادة عن التكرار. يمكن اعتبار المشي حسب “jean Paul Kaufmann” طريق للحرية. “أن نحصل على قبضة من الهواء النقي وتجوال بلا كلفة تتوجهما: الحرية، حيث المتجوّل الطليق يختار الاتجاه الذي يريد، ويذهب ويرجع من دون أن يستشير أحداً، هذا هو معنى المشي، أو إنه: تجوال منعش متقشّف يحتاج الساقين لا غيرهما، يضع أمام السائر جمالاً لا يتوقعه، كما لو كان المشي تحرّراً لطيفاً تنتظره مكافأة” (7). فعندما نمشي تأتينا الصور والذكريات والأفكار مهرولة، آخذة بعدا قهريا (8).
يعدّ المشي أيضا طريق ملكي إلى مكاشفة النفس وسبر أغوارها، حتى أن كلّ اعتراف حميمي يصعب نطقه لِسنيا، ينزلق هكذا مع حركة الأقدام وتتفوه به لغة الجسد. ولهذا كان المشي وسيلة كتارسيسية لإفراغ ما في جعبة الروح أو العكس ملئها. نمشي من أجل النسيان أو التذكر، من أجل الهروب أو العودة، من أجل الشعور بالراحة أو تضعيف حالة القلق الإيجابي. فالمشاء عندما يمضي في الطريق ينسلخ الجسد عن رتابته ويلتحم ظهرا عن ظهر بالنفس.
عندما نمشي فنحن لا نتجول عبر الزقاق أو التلال أو الحقول أو الرمال فقط، وإنما نسير بين العلامات والتواريخ، بين الكلمات والأفكار، بين خيوط مفتولة بحبال الزمن في مداراته الثلاث-الماضي والحاضر والمستقبل-. بإيجاز أن تمشي هي أن تحس بنفسك حاضرا، متاح لنفسك والعالم الموجود. وفوق كل هذا، إنه يتعلق بأن تكون متاحا للحضور نفسه. فالمشي بلغة أخرى يضع/يقحم طيّة للحاضر (9). عند المشي نشعر بثقلنا وتقدّم أعمارنا، فنغدو متنبهين لذواتنا ولزمن حياتنا. وقد نستشفّ من خلال هذا القول، أن المشي يُبطن في ماهيته فلسفة ذاتية، لكأنه نمط من الاستبصار والتأمل والعودة إلى الأسئلة البدئية المتّصلة بالوجود وإمكانات الذات في ثناياه، وهو ما لا قد نحس بثقله إذا اقتصرنا على الحفر المعرفي في بطون الكتب مهملين الارتماء في مدارج الواقع ” إن الحقيقة تعاش ولا تحكى” {فريديريك نيتشه}.
انطلاقا من هذا البعد التفكيراني الجدّي في فضائل المشي يُطرح السؤال التالي: هل نتفلسف بالعقل وحده؟ هل كان رونيه ديكارت على صواب؟ أم أنّ الجسد وبواسطة أقدامه من يوفّر لنا اللياقة الروحية والذهنية حتى نتفلسف؟ جوابا على هذا السؤال، نعود لنقتطف مقولة المتمرّس في فنّ المشي جون جاك روسو التي لا تخلو من حكمة تضيء على مجمل السطور اللاحقة: «معلّمونا الأوّلون في الفلسفة، هم أعيننا، أيدينا، أقدامنا» (10). ولتأكيد سدادة هذا المنطوق، من الحرّي بنا العلم أن بداية التطور البشري لم تكن بالعقل ولكن عن طريق الأقدام ذاكرا “André le roi gourhan”. “أمشي إذن أنا موجود”، بهذا المعنى أصبحت رسوخ الأقدام في الأرض وأخذ الطريق وعدم القبول بالنهايات وفجائية الأفكار التي تصاحب كل خطوة، كلها من الممكنات التي يفتحها طريق المشي. خطوة خطوة، خطوة قدم، وخطوة فكرة. الوقع والإيقاع: الإنصات إلى ترانيم الجسد وإلى هسيس النفس (11). ومهما اختلفت الأسباب التي تدفعنا من إلى المشي فهي لا تكون تماما نفسها “فالطريق يجسّر ونحن نمشي” “Antonio Machado”.
حفاظا على النفس التساؤلي للمقال، المستجدية منه حُروفه قيمتها الفلسفية، نأتي على طرح التساؤل الموالي: لماذا نمشي؟ ربما المشي هو في حد ذاته إجابة، مادام الجواب يحتفظ به فعل المسير كما أشرنا سابقا. إن المشي دائما ما يتطلب مسارا وليس وجهة، بل إن الطريق يكاد يكون أول استعارة أقامها الإنسان: الطريق إلى البحر أو الجبل، الطريق إلى الجنة أو الجحيم، الطريق إلى القمة أو الهاوية {…}الخ. يقول في هذا الصدد هنري برغسون: “لا أرى سوى وسيلة لمعرفة إلى أي حدّ يمكننا أن نذهب: هي أن نشرع في السير وأن نمشي” (12). أما نيتشه فيقبر بأسلوبه الراديكالي المتأوه أي إمكانية لوجود طريق يمشي فيه الكلّ عندما يقول: “ها هو طريقي: وأنتم أين هو طريقكم؟ هذا جوابي على من يسألونني أو يطلبون مني الطريق. الطريق بالمناسبة لا يوجد” (13). {هكذا تكلم زاردتش، ص 101}. ” فمن منا يفكر في المشي وهو يمشي؟ لا أحد. زيادة على ذلك، كل واحد يمتطي المجد وهو يمشي معملا لتفكيره” (14).
-
جولة رفقة الفيلسوف المشاء
سقراط
كان يمارس سقراط فعل المشي ليحث الناس على فعل التفلسف، ولهذا السبب اتهم بإفساد عقول الشباب الأثيني. إذ يكمن القول أن مشياته كانت مشيات من أجل، أي لها هدف معين ومقصود. لكن هذا لا ينفي أنه كان أيضا يمشي وهو يخاطب المريدين المتحلقين من حوله، مثل أرسطو عندما كان يعطي دروسا للإسكندر الأكبر أو في لحظات مروياته عن قصة حياة هذا الأخير أو عند إلقاء دروسه. بل إن “ساحة الأغورا” لم يكن تصميمها على نحو دائري إلا من أجل فعل الجولان مثل الكرة الأرضية التي تكفّ عن الدوران، فالهندسة تعكس عالم الأفكار قبل أن تحاط بالإسمنت. فقد كان سقراط أيضا نافرا من السكون، يتكلّم متجولا طليق اللسان في الأسواق المحتشدة. وإذا كان المشّاؤون جعلوا من الصوت والمشي أداة لإيقاظ الأسئلة، فقد رأى سقراط في التوجّه المباشر إلى الجموع دربا إلى الحقيقة (15).
جون جاك روسو
لقد وُجدت تجربة الغابات بالنسبة لجون جاك روسو من أجل إزالة أو تجاوز المسحوق الاجتماعي، أي من أجل العودة إلى تيه أصيل (16). «كان مجرد رؤية الكرسي أمرا كافياً لإشعاره بالمرض، فقد ظلّت الأفكار تأتيه مع المشي الطويل «بقدر» ما كانت الدروب توقظ خياله». (في فصل عنوانه: «مشي المتجوّل، أحلام -روسو»). كما كان يقول عن المشي أنه ” ينشط ويحيي أفكاره”، يؤخذ الطرق وتدبّ أقدامه فيها لكي يستمتع بالوحدة ويتماهى مع كائن الطبيعة، مولع بتأملات حرة في أماكن نباتية ظلت تستفز مداركه، ولديه اعتراف في هذا الباب، يبوح فيه بما يلي: ” لأننا لا نستطيع الكتابة وأن نفكر سوى تحت السماء، لم أحاول بالبتة تغيير هذه الطريقة، ولقد آمنت جيدا بأن غابة “montmorency” التي كانت بجوار باب منزلي، ستكون غرفة عملي. (Confessions)
يتحدّث ج. ج. روسو عن المشي باعتباره تجربة حرية. فوحده المشي من يُشعرنا بنوع من التحكّم في الزمن، وضبط إيقاعه. علاوة على ذلك، غالبا ما يقترن المشي بالابتعاد عن الصّخب، والبحث عن سكون الطبيعة وصمتها الذي يتيح لنا أن نستمع إلى ما لم نعتد الاستماع إليه. إنه طريق إلى السّكينة. (17) Sérénité وينظّم إلى روسو في تقاسم هذا الولع بالطبيعة واستجواب صمتها الحكيم الفيلسوف والشاعر غاستون باشلار، الذي ولد في البادية وفي شاعرية الماء التي تتغذى من تجربة هذا التدفق المنهمر للأفكار.
نيتشه
قبل أي حديث ممكن عن نيتشه وعلاقته الحميمة بالمشي، باعتباره الفيلسوف المشاء بامتياز، لا بد والمرور على بعض الإضاءات الخاصة بتصوراته العميقة وغير المسبوقة في تاريخ الفكر الفلسفي حيال تيمة الجسد. لعل جميع أهل التخصص يعلم مدى درجة اللهيب الموقد في فلسفة نيشه وكونها ” بوابة أتاحت للتفكير الفلسفي انطلاقة محفزة للتطلع إلى أفق جديد، ولذلك كان قوام مهمة نيتشه هو القضاء بصورة فعالة وهو يهوي بمطرقته على جميع الحقائق المصطنعة والمزيفة التي تنطق باسم مصدر متعال لم يزد الإنسانية إلا انحطاطا تلو انحطاط، حيث غرس في الانسان شوكة الايمان بعالم مفارق للعالم الأرضي، عالم متعال جعله يحتقر جسده المفكر ويكبح غرائزه المشروعة تحت اسم الفضيلة. هذا ما رفضه نيتشه، فانتفض وكله عزم على إعادة الاعتبار للحياة على الأرض، وللجسد لكونه عنوان انخراطنا في هذه الحياة (18).
فمن هفوات الفلسفات السابقة تلك النظرة الدونية والتحقيرية للجسد ” مرتكبة أبشع الجرائم في حق الجسد، حيث اعتبرته سجنا للروح ومرتعا للرغبات والنزوات (فلسفة سقراط كمثال)، بل والشهوات التي تنزل بالإنسان إلى مستوى الحيوانية وتفقده قيمته السامية، أعلنت ضده الحرب بغية كل براكينه الداخلية، وما خجلت قط من اعتبار الفكر المحدد الوحيد للوجود الإنساني (19). سيعلن نيتشه أنه قد آن الأوان الذي يجب أن نعيد فيه الاعتبار لهذا المُدان دون جريمة ارتكبها، ليصبح الجسد “الذهن الأكبر” بينما الروح “ذهنا صغيرا” تكمن وظيفته في كونه أداة طائعة في يد الجسد (20). إن الجسد النيتشي هو الحياة نفسها، بكل تجلياتها ومظاهرها القوية (21).
إن النقمة عن الحياة والأرض تتولد من ازدراء الجسد، وعليه تكشف الذات عن عجزها في خلق الأفضل. إن نيتشه يرى في الجسد تلك الأداة العظمى للتفكير، فلا يمكن البتة الحديث عن الفكر خارج الجسد .. فهو ومكا رآى فيه نيتشه تلك الأنا التي لا تتبجح بتلفظ كلمة “أنا” إذ إن فيه من العقل ما يفوق خير حكمة في الإنسان، ما هو إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد، إنه ساحة حرب وميدان سلام، إذ هو القطيع وهو الراعي في آن واحد (22).
وأنا أمشي، أتبيّن أنني بكليتي، وعلى حدّ تعبير نيتشه، «لست إلا جسدا ولا شيءَ آخر، فما النفس إلا كلمة تدلّ على جزء من هذا الجسد». وبما أن فعل المشي وليد حركة الجسد فلا شك أن يتخذه نيتشه مصفاة لأفكاره وترجمان لإرادته وأنيس لتأملاته، وفي هذا الصدد يقول:
” أنا لا أكتب باليد فقط
القدم تود أن تكتب معها دائما
راسخة، حرة، شجاعة تسري بي
تارة عبر الحقول
وتارة عبر الورق “.
تلك إذن هواجس نيتشه، التي لا تسمح للعقل بأن يستأثر بفعل التفكير وإنما تعلّمه كيف ينزل من برجه العاجي ويصغي لنداء الجسد، وها هو مرة أخرى يوجه سهام نقده السامة إلى “غوستاف فلوبير” الذي سبق أن سولت له نفسه القول: ” لا يمكن أن نفكر أو نكتب إلا جالسين “. فكان تعليق نيتشه كالتالي: ” تمكنت منك أيها العدمي! أن تكون ذا مؤخرة ثقيلة، فتلك بامتياز خطيئة في حق العقل. وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما (23). ومن هنا نتبين أسباب نزول قولته الشهيرة: ” الأفكار العظيمة تأتينا ونحن ماشون”. ففي إحدى نزهاته كان يبحث عن فكرة فترة طويلة، وعندما وجدها ركع على قدميه وهو يردد: لقد وجدتها، تماما مثل نيوتن عندما اكتشف قانون الجاذبية الأرضية.
لطالما سلّم نيتشه بدون قيد أو شرط بالقاعدة التي تقول: “نحن مشاؤون ولا نصبح كذلك”. فتعلّم المشي هو درب من البلادة يضاهي فكرة تعلم الفلسفة. إنها أشياء تسكننا، منحوتة في طبيعتنا، تنتظر فقط شرارة الانطلاق، وعليه ليس المطلوب منا سوى الانتباه إليها أو بمعنى آخر إيقاظها من السبات التي قد يطول العمر كله، طالما أن القدرة على الإنصات تأتي من الداخل وليس من الخارج. نيتشه لم يعرف سبيلا للتفكير إلاّ وهو يمشي، ولديه عدة أفوريمات “موجوز لغوي” يعظّم فيها قيمة المشي وفضائله، نعدّ منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يفيد في هذا الصدد: “إنّ المشي يجلب للشفاه نفحات من الشعر العفوي العذب وكلمات بسيطة مثل وقع الخطى على الطريق”.
وفي المحصلة يغدو المشي على غرار هؤلاء الكبار فعلا من طبيعة أخرى. بل ويذهب “فريدريك غرو” في مؤلفه سابق الذكر، إلى حدّ التساؤل: وماذا إذا كان يمكن للإنسان أن يفكّر بقدميه؟ وماذا تعني جملة فريديريك نيتشه: «إن أصابع القدم تنتصب كي تستمع». إن المؤلف يحاول بالتحديد أن يشرح مثل هذه المقولة. وله هدف معلن يعبّر عنه بكل وضوح وصراحة وهو أن “يعلّمنا كيف نمشي”.
كارل ماركس
لقد كان كارل ماركس مشاء هو أيضا لكن على طريقته، ونقتصر على الإدلاء بشهادة “بول لفارغ” في حقه: وهو في مختبره يكمن أن نجزم أنه كان يشتغل ماشيا، لا نجلس سوى لبرهة وجيزة، عندما ننتهي إلى كتابة ما اكتشفه عقله في ذهابه ورجوعه داخل الحجرة. حتى ونحن نتحاور، كان يفضل المشي، يتوقف من وقت لآخر عندما ينشط النقاش أو يأخذ الاستجواب أهمية (24).
ايمانويل كانط
كانت حياة كانط تخضع لتنظيم يومي صارم وقد وصفها “هينريش هين” بما يلي: قصة حياة كانط صعبة الوصف، فهي لم تكن حياة ولا حكاية. لقد عاش كانت وجودا منظما بشكل ميكانيكي، يكاد يكون مجردا، لم يتزوج أبدا، أقام في درب هادئ منزو بكونغسبيرغ، مدينة عتيقة عند الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا. لا أعتقد أن ساعة الكتدرائية الكبرى أكملت مهمتها بأقل حماس، وأقل انتظام من مواطنها ايمانويل كانط. الاستيقاظ، شرب القهوة، الكتابة، إلقاء المحاضرات، وجبات الطعام، المشي .. لكل توقيقته المحدد سلفا، حتى إن جيران كانط أصبحوا يتعرفون بدقة حلول الساعة الثالثة والنصف مساء بخروج كانط من منزله، وهو يرتدي معطفه الرمادي، ويمسك بعصاه الإسبانية (25).
وجد الفيلسوف الألماني كانط «مشياً خاصاً به»، له وقت لا يتغيّر ومسافة لا تتبدّل وانضباط لا يتحوّل، كما لو كان خلق من الرتابة والتكرار. إنه طقس غير قابل للتغيير في كل يوم حوالي الخامسة بعد الظهر، يخرج كانط للتنزه من أجل تهوية الجسد والروح، المسار لا يتغير: ينطلق من منزله، يمر عبر حدائق مدينته كونغسبيرغ مسقط رأسه، ينزل ثم يصعد في نفس الزقاق، والتي سيتم تغيير اسمها إكراما له واعترافا بقدره ومنزلته وتسميتها بالمقابل: ممر الفيلسوف. « l’allée du philosophe » تبعا للمروي، غيرّ المفكر ساعة خروجه اليومي، وقت ما وصلته أنباء عن الثورة الفرنسية التي انفجرت للتو في فرنسا،. وفي مناسبة أخرى، عندما قرأ كتاب إميل لجون جاك روسو الذي شغله إلى درجة نسيانه ارتداء حذائه. لكن ما عدى هذه المناسبات، الأمر واضح: انضباط مطلق (26).
كيركغارد
لا ريب في أن النشاطين الأكثر هيمنة على أيام الفيلسوف الدنماركي صورين كيركيغارد هما الكتابة والمشي، بشكل عامـ يكتب خلال ساعات الصباح، بينما ينطلق في جولة طويلة عبر كوبنهاغن عند منتصف النهار، ثم يعود للكتابة خلال ما تبقى من النهار، وحتى الساعات الأولى من الليل. تتفق تلك الجولات النهارية عن أفضل أفكاره، وفي بعض الأحيان يعود بسرعة فائقة إلى منزله لمي يتمكن من تدوينها وهو واقف على بنانه أمام المكتب، معتمرا قبعته، وممسكا بعصاه ومظلّته (27).
هايدغر
نرسم دروب الغابات ومسالكها حسب هايدغر بفعل ما تخُطه أقدامنا عليها. فهي تُخطّ بفعل السير ومن جرائه، وهي لا تتقدمه بحيث لا يكون عليه إلا أن «يأخذها». يعلّمنا السّير في الغابات أننا لا نتبيّن الطريق إلا بعد تيه وضلال، كما يعلّمنا البحث عن المسالك الملتوية les détours بلوغا لأهدافنا. إنه يلقننا درسا في اللامباشرة. قيمة دروب الغابات لا تكمن فيما تؤدي إليه، فهي بالتحديد «دروب لا تؤدي إلى غاية»، إنها الـ Holzwege الهايدغرية التي لا تؤدي إلاّ إلى الغابة.
-
مقتطفات من حوارات حول فلسفة المشي
الحوار1: ميشال ماليربي » في معنى المشي «
ما الذي يدفعنا لوضع قدم أمام أخرى؟ تتنوع كثيرا الحوافز مؤكدا على ذلك الفيلسوف m. malherbe، ونُعرّج في هذا الصدد على مقتطف من حوار له، تحت عنوان: “في معنى المشي”، بعد السؤال الذي طرح عليه: لماذا نحن مشاؤون؟ وما هي القيمة الفلسفية للمشي في زمن عوضت فيه الآلة حركة الجسد؟
كجواب، يعتبر ماليربي المشي مسألة نفس وسيقان، مكان وأفق، وفلسفة من وقت لآخر. صحيح أن سؤال نهاية المشي ذو طبيعة فلسفية، ما دامت أنها تصرّ على التفكير في علاقة الحركة بنهايتها. مشينا ليس “بمشي من أجل « des marches pour ». يمكنني غير ذلك أن أقرّر المشي من أجل أن ألاقي ذاتي، لكي أهرب من مشاكلي، لكي أتملص من تناقضاتي، من أجل أن ألتقي بالرب، من أجل أن أحب مشهدا، من أجل تدارك موعد القطار، لكي أبقى في صحة جيدة {…}الخ، في كل مرّة هناك مشي من أجل. كل هذا ينهض بصنفين محتملين للحركة يسري تمييزهم من قبل أرسطو: هناك الحركة التي نفعلها من أجل حركة أخرى وهي على مرمى من نهاية خارجة عنها، ولكن هناك صنف آخر: وهي المتعلقة بالحركات التي يتم فعلها من أجل ذاتها. وقد قدم أرسطو مثالين لإيضاح قوله: فنحن نحي من أجل العيش وليس من أجل شيء آخر وهو ما له صلة بالسؤال المطروح حول معنى الحياة ولا معناها. والمثال الثاني: هو أننا نُفكّر من أجل أن نفكر، وبالتالي يطرح سؤال نفعية الفلسفة وبالضبط إعادة اكتشاف المعنى. مضيفا “ماليربي” مثالا تكميليا ثالثا، فقد نشكّ في أن المرء يمشي من أجل أن يمشي. بحيث لا يوجد هناك هدف من المشي. أو بتعبير آخر: أعتقد أن المشاء حين يبدأ بإعطاء نهاية لسيره ينتهي بنسيانها. فعندما يؤخذ l’allure الإيقاع الجيد للمشي، النفس المتوازن، لن تعُد الوجهة ذات أهمية (28).
.. وبالرغم من تسطير هدف من وراء المشي، فهذا الهدف يُمحى وعندما نمشي فنحن نمشي ولا يوجد هناك سبب للتوقف (فالهدف يتطلب تحديد الزمان والمكان من المشي). عندما نمشي ينبغي أن نؤخذ بعين الاعتبار عُنصرين: الأرض والسماء، الأقدام التي تشدّنا إلى الأرض والأعين المنتصبة نحو الأفق، ولكن هذا الأفق يبقى ذي حدود. عندما نتقدم في المشي تتقلص هذه الحدود وتصبح مجردة، ففي كل خطوة يزداد رحاب الأفق اتساعا، ليس إلاّ إذا ما أردنا إعطاء تحديد للمشي، يقف الأفق عن الامتداد ويتقلص وأيضا يجد الهدف قيمته. ينبغي للمشي أن تكون له علاقة بالأرض والسماء، ينبغي لهما أن يتضمّنان على نحو خاص. ولكن في انتظار هذه اللحظة الفريدة على أمل يحكُمها شيء ما، ينسى المشي هدفه (29).
الحوار 2: ميشال سير “أمشي إذن أفكر”
الأفكار لا تأتي بالضرورة من خلال المشي، إنها تأتي وقتما تشاء. ولكن تأتي من عالم آخر، الذي يمكننا الدخول في تواصل معه بواسطة المشي. فتنة مغرية، لحن حزين وأنيق للخطوات، إيقاع يسمح للأشباح الساكنة فينا بحظ البروز من القبر. لا أذهب بتاتا إلى المشي بدون ورقة وقلم، لأن في بعض الأحيان يمكن أن تباغتنا بعض الأشباح التي تترآى بشكل متوالي ولا أريد أن يمحي الأخير منها السابق.
-
كيف يقودنا المشي إلى عالم آخر؟
يقولون عن الموسيقار الشهير بيتهوفن أنه يتنزµه ويجلب من مشياته ألحانه، يلج به المشي عالم الإلهام، الخاص بالأفكار، بالموسيقى، هذا العالم الذي هو بنفس حقيقة المثاليات الرياضية، المفهومية. إن الحياة الحقيقية هي البقاء survie. وبالتالي فوظيفتي باختصار، هي الذهاب والبحث عن عالم آخر. وأحيانا أجده في المشي الذي هو لحظة نخلُق فيها رابط بين الجسد ومكان آخر، وهو ما لا يمكننا بلوغه سوى من خلال دائرة قصيرة بين النشاط الجسداني وأماكنه التي ليست بجسدية. إن جسد من يبقى جالسا أمام حاسوبه يبدأ في الزوال ويصبح غائبا. ولكن عندما ينهض ويمشي، يشغّل جسده، لذلك كان المشي نصف مهنتي (30).
عندما نمشي نغنّي أيضا، سواء بصوت مرتفع أو بشكل صامت. ولكن ليس نحن من نغني أثناء المشي، إن الجسد برمته هو من يغني. فالمشاء يدخل في إيقاع موسيقي عندما يمشي. إنها مسألة سيكولوجية. فالجسد هو مجموع ايقاعي ensemble rythmé، الذي يسمح بتحليل الموسيقى في البداية، ثم الكلمة بعدها (31). “المشي بدون غناء لا قيمة له، والكتابة بدون مشي تبدو مستحيلة. إننا نكتب بأقدامنا” إذ تمت رابط ما بين إيقاع الجسد وايقاع الكتابة يدركه جميع الكتاب(32).
الحوار 3: دافييد لوبريتون “نمشي ضد الحياة الهاربة” ص 58/59/60.
نبدأ بالمشي لكسر مسار الحياة العادية عندما يهدّدنا خطر انهيار الحواس. لدينا إذن فرص للوصول إلى كثافة أكبر من الوجود. المشي هو تجربة ميتافيزيقية أكثر منها نفسية. “ففي نهاية الطريق، هناك شيء ما ينتظرنا، والذي كان مقدّرا فقط لنا”.نحن نعيش في زمن إنسانية جالسة humanité assise، بالمعنى الذي يكون فيه جسدنا غير مستخدم في الحياة اليومية. فالمشي هو شكل من الثورة ضدّ هذا الاتجاه الذي باتت تقعّده الحياة الحضرية. فالمشي يعلّمنا الصبر، أن لا نتسرع وأن نتأقلم مع الظروف. المشاء هو فنان الفرص. فالمشي يسمح بترك الخلافات بسرعة وراء ظهورنا والتي تستحوذ علينا في بعض الأحيان. المشي أيضا هو شكل من الاختفاء السعيد داخل المجتمع، طريقة للانزلاق في مصفوفة من المسارات (33).
-
في المشي، هل يتعلق الأمر بالخروج من الجسد، أم بإعادة مُلاقاته؟ الثنائية التقليدية بين الجسد والنفس تُشحذ أم تسقط في هذا النشاط؟
فكرة التعارض بين الجسد والنفس لا معنى لها في إعتقادي. إنني أنتمي إلى فينومينولوجيا اجتماعية، في أعيني هناك ذكاء جسداني في الوقت الذي هناك تجسيد للنفس. ومن المستحيل أن نجد حدود فاصلة بينهما. هذا المعطى يدّل على أن المشاء يعيش حالة من الإمتلاء الوجودي الذي يعطيه إحساس بأن روحه حرة أخيرا، كما يمكنه أن يحسّ بأنه منسجم مع جسده على نحو رائع. ولتجنب هذه الثنائية المتكلسة في الوعي الفرنسي، أقول أن المشي هو فن الحواس “l’art des sens”.
يمكننا أن نتحدث عن عودة إلى الكون، بالمعنى الذي يجد فيه المشاء نفسه تابعا لإيقاع الطبيعة والعالم، منغمسا في دولابه. فيحس مجددا بأنه كائن مبدع. المشي بهذا المعنى هو عودة إلى البدئي/ الأولي l’élémentaire، إلى عراء مواردنا الحميمية رجالا ونساء، وتملّك بالمقابل بعدا ميتافيزقيا، طريقة للانفلات من الوضعية المدنسة وإيجاد المقدس .. بمعنى أن يتبلور لديك وعي بأنك في “زمن منفصل”، في “عالم منفصل”، وكذلك استشعار كثافة الوجود الواسعة. المشاء أثناء مساره يعيد سحر العالم. إنه وقت استثنائي متروك له الأمر فيه للتجديد أو الحفاظ على أطول فترة ممكنة (34).
-
من بين العلامات التي نجدها في مسار المشي، تلك الآثار التي تركها من أخذوه قبلنا؟
نعم، إن الأمر لا يتعلق بنفايات متروكة من قبل السلف. فالطريق كيفما كان يربط خطاّ لا حصره من الأجيال، إنه ذاكرة مسجلّة ومدرجة على الأرض. ذاكرة أجساد الأشخاص (رجالا ونساء) اللذين مرّوا من المكان. المشاء يفترض دوما أن يقتفي خطوات سابقيه. الطريق هو نوع من التواصل ليس فقط في المكان ولكن أيضا في الزمان. إنه يمتلك ظلالهم. يكفي اتخاذ الطريق لرؤيتها تظهر وتنكشف. ولكن إحضار أيضا تلك الظلال الخاصة بنا. المشي في بعض الأحيان صلاة طويلة لغيابنا. إنه محادثة دون انقطاع مع من لم يعودوا هنا ولكن مازالوا بصحبتنا و نحن بصحبتهم عبر الأجيال، بالرغم من اختفاءهم لكن استمرارهم في الوجود لا زال قائما (35).
الحوار4: باسكال بروكنير “مغامرات الحلزون”
بين السرعة والاحتواء نأخذ بالطريق الثالث. وهو المتعلق بالمشي، الذي يعرض عن الجسد لحظة من الحرية المشروطة. إن حقبتنا الحاضرة تحبّ أن توصف كحقبة السرعة تقود الإنسانية إلى مناظر مجهولة. على الطرف النقيض التجربة اليومية للمواطن هي تلك المتعلقة بالاحتواء: ميترو – حافلة – سيارة – طائرة {…} الخ، نقضي جزءا كبيرا من أيامنا في عُلب متحركة. مصقولين، مقوّمين، منحازين في مقاعدنا، ونحن نرى الجسد ابتُلِع من ناحية الوظائف العضوية.
قبل أن يذهب بنا المشي إلى مكان معين، فهذا النشاط الإنساني، يتظاهر ضد الإقامة الجبرية، ونحن نمدّ سيقاننا من أجل الهروب من وجود نمطي، تابت، وغير مُرتحل. الذي ننتقل فيه من الفراش إلى السيارة، من السيارة إلى المكتب، من المكتب إلى الطاولة والعودة على نفس النمط. الإنسان المعاصر هو مماثل للملكة الحمراء لآليس التي ينبغي أن تهرول دائما لكي تبقى في قمة المشهد. إنها تتحرك كثيرا من أجل البقاء في مكانها. “السرعة تعكس الوجه الحالي للانسداد/الانحباس، دعونا نمشي ببطء لكي نعثر على سرعة معينة” (36).
الحوار5: أليكسيس لفيس “التأمل طريق نحو المعرفة”
عند البوذيين المشي من بين الأشكال التأملية التي تمسح بالوصول إلى اليقظة. فالبوذية تقترح تفكيرا حقيقيا في هذا الموضوع. الرهبان اللذين يلقبون بالمناسبة “bhikshu” هذا اللفظ السنسكريتي (السنسكريتية هي لغة هندو-أوربية) الذي يُمكن ترجمته ب: va-nu-pieds. ينبغي عليهم أن يمشوا دائما بالأقدام بما أن القانون الرهباني يمنع استعمال وسائل أخرى للتنقل. المشي هو أيضا يعتبر كشكل من الأشكال التأملية الذي يسمح بالوصول إلى يقظة تامة، تفتح الطريق للولوج إلى”Samadhi” وهي حالة تأمل لن تعد فيها الروح متغيرة بينما تبقى منفتحة وبلا انتظار. المشي يجعل من الجسد أكثر وضوحا وانتباها، أكثر انفتاح بحكم استمرارية الحركات غير قابلة للتغيير والتي تمس مجموع الجسد: المشي هو عدم توازن مشدود بحراسة تشكل سندا مهما للانتباه اليقظ (37).
.. هناك اتجاه حالي يعتبر الإثارة هي لحظة ينعدم فيها التفكير، بينما ينبغي أن نعطي للجسد إمكانية التفكير. على النقيض من ذلك، فمصطلح sentement – وهو قديم في اللغة الفرنسية- يصف جيدا حقيقة هذا التناغم بين الإثارة والإحساس والذي يسمح لنا بالنظر إلى فكرة الجسد المفكر التي رآها البوذيين جيدا. الجسد المفكر هو الذي يفهم نفسه أثناء التأمل وهو يمشي. ففي أثناء التأمل، نمشي، نرى أنه لا ينبغي علينا الاستقرار، لأننا قد نتشنج، ولكن بدلا من ذلك أن نعيش عدم التباث (38).
نجد تأملات حول المشي في الثقافة الصينية وكذلك عند البوذيين المشي هو من الأشكال التأملية التي تسمح للذات التمتع باليقظة. فبالنسبة للبوذيين المشي يقحم فكرة “الجسد المفكر” corps pensant بحيث ننفتح على اتفاق حساس للذات مع الجسد، إنه يسهل العبور إلى حضور مغامر يُثري معه فعل التأمل (39).
كلمة ختم
للمشي مقدرة فريدة على ايقاظ شرارة التفكير الفلسفي الكامنة في كلّ ذات، إذ عندما أمشي فإن جسدي يحسّ وينضوي ويفكر. يقول مونتيني: «ترقد أفكاري إذا أقعدتها. ولا يعمل ذهني ما لم تحرّكه الساقان». كما يتمّم الشّاعر نفس المعنى بقوله: «عندما أمشي، يغمرني الانطباع بأن جسدي يتكلم». عن طريق المشي، نشعر بالأرض تحت أقدامنا، وندرك انجذابنا نحوها، فنتبين حدودنا. ففي الحركة حياة وفي السكون تلاشي واندثار خاتمته النهائية الموت، بكل الشحنة المجازية التي قد ينفتح عليها اللفظ، أي قتل كل ما هو حي ويتحرك وينبض في معترك الجسد المفكر “Le corps pensant”.
إن المشي يُثري الوشاج الدائم بين ثنائية الحضور والغياب، ونضرب مثلا لهذا التقابل بالإلتباس القائم بين الظلام والنور. ولكي نخلق تناصا مع الفلسفة النفسانية في الأنفاس الأخيرة من هذا المقال في جزئه الأول، ننتهي بطرح التساؤل أدناه: فهل هناك فرق بأن نمشي في الظلام أو على هدى الأضواء / الطريق المستضيء؟ كجواب: أكيد هناك اختلاف، فعندما نمشي في الليل دون أن تكون الطريق مضاءة بسراج الأنوار الاصطناعية، نعود إلى هُدى القمر والنجوم وهكذا نكون قد أعدنا بعث بصيغة أو بأخرى إنسان الطبيعة في كوامن أنفسنا المجبولة على الأصالة قبل المصطنع أو الطارئ.
إن مسالة فقدان المعنى في العالم حاليا تجد جوابها أكيد في “أطروحة موت الانسان” ووصوله إلى نزعه الأخير، ولن نمار في هذه الحقيقة المفجعة، لكن السؤال المفترض طرحه: ما هي هذه المقومات التي ماتت في الانسان المعاصر؟ لعل من ضمنها، مخالفته لطبيعته وعلى رأسها كونه كائن مشاء، لقد أصبح شبيه بالألة المتقنة الصنع، زيادة عن انشداده بحبال العالم الرقمي والسجل الافتراضي الذي يكنُس الجسد، ويحوله إلى مجرد وعاء توضع فيه أو تزيينه علامات وملصقات تزيد من حدة الاغتراب والتفاهة والعدمية …
يتبع
هوامش:
- ttp://www.alittihad.ae/details.php?id=32952&y=2016&article=full
- راجع مقال: الجسم باعتباره رهانا فلسفيا عند سبينوزا، مجلة كتابات فلسفية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية -الرباط-دار أبي رقراق للطباعة والنشر، العدد الأول، 2014، ص 77.
- نفس المرجع، ص 2 إلى ص 26.
- http://www.alittihad.ae/details.php?id=32952&y=2016&article=full
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p 16.
- http://www.alhayat.com/Articles/10771999/%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%88–%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9–%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%8A—–%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%8A
- http://www.alittihad.ae/details.php?id=32952&y=2016&article=full.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p 12.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p27.
- Jean-Jacques rousseau, Émile ou de l’éducation (1762), livre 2, in œuvres complètes, t.2, houssiaux,1853,p.464.
- http://www.alittihad.ae/details.php?id=32952&y=2016&article=full.
- Henry Bergson « la conscience et la vie », conférence du 29 mai 1911, in l’énergie spirituelle. Essais et conférences, p.8.
- Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra(1883) ,Aubier-Flammarion, 1969,p.101.
- Honoré de Balzac, théorie de la démarche, éd. Eugène didier,1833, p55.
- http://www.alhayat.com/Articles/10771999/%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%88–%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9–%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%8A—–%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%8A
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p 26.
- http://www.alittihad.ae/details.php?id=32952&y=2016&article=full
- فريديريك نيتشه، شيطان الفلسفة الأكبر، مجدي كامل، دار الكتاب العربي –دمشق القاهرة-2011، ط1، ص 185.
- نفس المرجع، ص 185.
- نفس المرجع، ص – ص 185، 186.
- نفس المرجع، ص 186.
- نفس المرجع، ص 186.
- فريديريك نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة حسان بوريقة ومحمد الناجي، افريقيا الشرق، ط1، 1996، ص 32.
- Paul Lafargue, souvenirs personnels sur Karl max(1890), chap.1} marxists.org.
- مجلة الدوحة، العدد 120، أكتوبر 2017، ص 85.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p16.
- مجلة الدوحة، العدد 120، أكتوبر 2017، ص 78.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p80-81.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p82.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.51-52.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.53.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.52.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.58.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.59.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.60.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.67.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.101-102.
- Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.103.
- 39. Philosophie magazine hors-série, marcheur avec les philosophes, n°34, p.100.
مقال مرصع بالجواهر الفلسفة القيمة ، كل الشكر والتقدير لك أستاذنا الفاضل