الرئيسية | فكر ونقد | الثقافة والنقد الثقافي | عبد الرزاق هيضراني

الثقافة والنقد الثقافي | عبد الرزاق هيضراني

عبد الرزاق هيضراني

 

ظهر مصطلح “الثقافة” في فرنسا بدلالة ومفهوم مغايرين، قبل أن ينتقل بواسطة الاقتراض اللساني إلى إنجلترا وألمانيا، بحيث يرجع مفهوم الثقافة إلى كلمة (cultura) اللاتينية الدالة، في أواخر القرن الثالث عشر، على العناية الموكولة للحقل وللماشية، وعلى فلاحة الأرض… ثم أصبحت كلمة (culture) ثقافة في اللغة الفرنسية تستخدم بمعنى الغرس والإنماء والمعالجة والمراقبة.. ومجازا بمعنى التربية والإنماء والتكميل والإغناء، وكذلك جملة المعارف المتحصلة من قبل الفكر. وأشهر تعريف لمفهوم الثقافة، تعريف عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد بارنات تايلور (1832-1917) الذي يعد واضع أول تعريف مفهومي للثقافة حيث يعرفها بأنها؛ ” الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع”[1]. ولن يتوقف الأمر عند مفهوم الثقافة بل إن الكثير من النقاد والمفكرين سيميزون بين مجالات الثقافة، وذلك آستنادا إلى آرتباطها بحقول معرفية مختلفة كالدين والسياسة والتاريخ والفلسفة، وهذا ما عبر عنه تيري إيغلتون بحيث يعتبر أن كلمة “ثقافة” نص تاريخي وفلسفي وهي كذلك محل صراع سياسي، وهذا ما يذهب إليه إدوارد سعيد أيضا، إذ يجد الثقافة مسرحا من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة وداخل كل ثقافة تولد ثقافة مغايرة ومضادة، وهو ما يطلق عليه “الثقافة المضادة”[2].

وبهذا المعنى فالثقافة تعنى بنشاط الإنسان ونتاجاته، إذ تستمد أصولها من الدين والسياسة والاقتصاد والتاريخ، وهي فوق ذلك قيم وأعراف وتقاليد وسلوكات تسود في مجتمع من المجتمعات. ولقد استثمر النقد الثقافي هذه المعطيات الثقافية في نحت بعض من مصطلحاته ومفاهيمه وفي توسيع مجالات آشتغاله خلافا لما كان رائجا في النقد الأكاديمي الأدبي؛ بحيث إن النقد الثقافي نقد واسع الاهتمام ميدانه النشاط الإنساني في المجتمعات كافة كيفما كانت بدائية أو متحضرة. وتبعا لذلك فهو لا يقف عند حدود النتاجات الإنسانية الفكرية بل يتعداها إلى نتاجاته المادية؛ بحيث إن موضوعه المقروء والمسموع والمشاهد، إذ يبحث في النصوص اللغوية كما يبحث في اللوحة والمنحوتات والموسيقى كاشفا عن الأنساق وآرتباطاتها التاريخية والسياسية والمجتمعية…لذلك فإن النقد الثقافي؛ “لا يرصد الظاهرة آنيا بل ينقب عن جذورها ويكشف عن آرتباطاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والتاريخية وما إلى ذلك ولا يقف عند حدود المعالجة أو النظرة السطحية التي تمس ظاهر الأشياء بل يوغل في تحليل الظاهرة وآستخراج كوامنها والكشف عن أنساقها الخفية..”[3]

لقد شكلت الدراسات الثقافية، في هذا السياق، ذاكرة لمصطلحات النقد الثقافي؛ بحيث يعد كتابا (استعمالات القراءة والكتابة 1957) و(الثقافة والمجتمع 1958) لكل من هوغارت وويليامز المرجعين الأساسين اللذين نقلا الاهتمام بالثقافة من الاستخدام الشائع الذي يشير إلى الآداب والفنون فقط، إلى أفق آخر تتعين فيه الممارسات الثقافية، مثل القراءة، متجذرة في شبكة من الممارسات الأخرى كالشغل والحياة الجنسية والأسرية[4].. وترجع الدراسات الثقافية إلى ستينيات القرن الماضي بحيث أسس ريتشارد هوغارت مركز برمنغهام للدراسات الثقافية عام 1964، بحيث توسعت الدراسات إلى أنشطة ثقافية مجتمعية مركبة بوضعها في سياقها الثقافي. وبهذا المعنى فإن الثقافة لم تعد منفصله عن المجتمع بل أصبحت دراستها مرتبطة به من خلال مجموع الأنشطة التي يقوم بها الأفراد، من رسم وموسيقى وسينما وغيرها.. ولقد ساهم في الدراسات الثقافية نقاد ومفكرون قادمون من تخصصات مختلفة نذكر منهم مشيل فوكو وستراوس ودريدا وإدوارد سعيد وغيرهم. لهذا اتسعت الدراسات إلى خارج الأدب بدراسة الإعلام والقضايا النسوية والثقافة الشعبية ووسائل الاتصال والثقافات الدنياsubculture، والمسائل الأيديولوجية idéological matters، والجنوسة gender related issues، والحياة اليوميةevery day life، وغيرها من الأنشطة المجتمعية الأخرى، نقدا للمناهج الأدبية التي انغلقت على الأدب بسكها لقواعد جاهزة لا تراعي مشترطات المرحلة الأمريكية والأروبية وما يعرفانه من تغيرات على الصعيدين المجتمعي والسياسي[5]. وقد كانت الدراسات الثقافية تركز على جدلية الخطاب والسلطة، الثقافة والسياسة، بمعنى أنها تقيم علاقة بين ما ينتج داخل المجتمع وما يفكر في العقل السياسي.

بهذا المعنى سيتحول النص في الدراسات الثقافية ولاحقا في النقد الثقافي إلى وسيلة وأداة، مادة خام يستخدم لاكتشاف أنماط معينة من مثل الأنظمة السردية والإشكاليات الأيديولوجية وأنساق التمثيل[6]، وستقارب الدراسات الثقافية إنتاج النصوص وتحولها مستثمرة نظرية الهمينة التي تقدم بها غرامشي، غير أنها ستوسع إمكانياتها ومجالات آشتغالها، إذ لا تقف كما سبقت الإشارة عند النص بل تنتقد العرق والجنس ومختلف النشاطات الإنسانية. والدراسات الثقافية ترى في الثقافة أنها فعل تعبير عن الناس كما أنها أداة للسلطة، للهيمنة، التحكم والسيطرة. وآستنادا إلى كل ذلك فإن الثقافة تضمر، في الغالب، مرجعية أيديولوجية تشتغل وفقها وتضمرها بالبلاغة والصورة والجسد وغيرها من أنماط التعبير الإنساني المضللة في كثير من الأحيان.

ولقد أعادت الدراسات الثقافية والنقد الثقافي النظر في أفعال وإحساسات إنسانية يعتبرها الأفراد بريئة وعفوية، ومثال ذلك المتعة والاستهلاك والتأثر والقراءة والفعل ورد الفعل وغيرها، فعمدت إلى قراءة هذه الأفعال قراءة فلسفية تاريخية تربطها بشرطها المجتمعي وبخلفيات الخطابات الأيديولوجية[7]، مستفيدة بذلك من مجالات وحقول معرفية متعددة سواء أكانت نفسية، تاريخية أو آجتماعية..لدراسة المجتمع دراسة ثقافية يسلط فيها الضوء على ثقافة/ سياسة/ آقتصاد المركز والهامش.. وما يعرفانه من صراع وإقصاء.

 

المراجع

 [1]  سيرورة النقد الثقافي عند الغرب، عبد الله حبيب التميمي، سحر كاظم حمزة الشجيري، مجلة جامعة بابل/ العلوم الإنسانية/المجلد 22/ العدد1؛ 2014، ص 160

[2]  مصطلح أطلق حديثا ويقصد به كل ثقافة تحل محل الثقافة السائدة، إذ إنها رد فعل طبيعي للمهمشين ضد الإلغاء والاحتواء والإبعاد..

[3]  سيرورة النقد الثقافي عند الغرب، ص 162

[4]  ادريس الخضراوي، السرد موضوعا للدراسات الثقافية، مجلة تبين، ع 7، 2014، ص 8

[5]  آرثر أيزا برجر، النقد الثقافي تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة، ت وفاء إبراهيم، رمضان بسطاويس، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ط 1، ص 32

[6]  عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، ص 18

[7]  لمزيد من التفصيل حول الدراسات الثقافية (أنظر النقد الثقافي صص 16-17-18…)، وكتاب

Cultural Criticisme ;Aprimer of Concepts ;Arthur Asa Barget ;1995 ;pb SAGE

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.