الدُّكْتُور بَلِيْغ حَمْدِي إسْمَاعِيْل
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا
العلم من التسارع إلى التصارع:
هل يختلف العلماء حول حقيقة مطلقة وهي أن الحجج والإحداثيات الداعمة التي تستخدم في تأييد العلم لا تستند إلى التعصب؟ ورغم أن الإجابة التي تفيد بالنفي تأتي بأن هناك ثمة اختلافات بين أهل العلم كونه يمثل أحد منطلقات بناء الإنسان المعاصر، وهذه الاختلافات لا تأتي من باب ما يحدثه العلم في صناعة العقل البشري وتأسيسه لمواجهة التحديات المعاصرة، بل من حيث تعصب أهل التخصص الواحد. فعلى سبيل المثال نجد اتفاقا بارزا بين المتخصصين في الفيزياء على إطلاقها العام، لكن نرى في نفس الوقت التصارع وليس التسارع العلمي بين الفيزياء كأحد العلوم الأساسية وبين تدريسه في مدارسنا العربية وهذا الاختلاف لا ينشأ إلا في ظل حضارات في طريقها إلى التقويض وليس التشييد.
الحراك العلمي بين الشرق والغرب:
ولهذا، فإن المستقرئ لحركة التفكير العلمي في الوطن العربي يقر شهودا بغير إنكار بأن فقر التكامل والوحدة بين العلم كنظرية وإجراءات تنفيذه وتطبيقه ليصير سلوكا اعتيادا لا يفي بمتطلبات مواجهة عصر لا يمكن توصيفه إلا أنه عصر الشهود العلمي والابتكار من أجل الريادة، وليس كما تم تصدير الغرب لنا ثقافة التعلم للحياة والتربية المستدامة، إنما الغرب اليوم لا يفكر في سعيه العلمي سوى للوصول إلى الريادة والتكن وامتلاك المعرفة من أجل تطبيقها لتصبح مجموعة من المعاملات الإنسانية اليومية التي يمكن أن تتجسد في ثقافة المأكل والمشرب والنظافة وارتداء الملابس وعادات النوم واليقظة.
ويقر ابن خلدون في مقدمته الخالدة البديعة حقيقة تاريخية لا تقبل مجرد المراجعة والتعديل، هذه الحقيقة تقتضي بأن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب، وهذا ما يشهده الرائي رأي العين في الإعلان عن المؤتمرات العلمية في مصر تحديدا، وخلاصة اليقين لا الظن أن بعض هذه المؤتمرات لا تتجاوز حد الاستخدام الافتراضي ـ كشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية ـ هو خير شاهد ودليل على ما وصلنا إليه من زيف أكاديمي وترهل علمي بمنتهى الصدق والملازمة. ومثل هذه الظواهر لم تعد تثيرني بالاشمئزاز من أوضاعنا العلمية وهذا التباطؤ في الحراك العلمي الذي صار يمثل تسارعا محمودا في أوروبا وشرق القارة الأسيوية، لأننا باختصار وللعارفين فقط بأوضاع التعليم العلمي ندرك ما وصلنا إليه من مراتب متدنية جداً في سلم الجودة التعليمية والريادة العلمية بوصفها تفكيرا مميزا للعصر، رغم البيانات والتقارير الورقية التي باتت أشبه بالمتاحف الأثرية.
ومن باب الاعتراف بالجهل والتقصير المعرفي من جانبي، فبالرغم من تدعيم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحركة البحث العلمي التي لا تتمثل إلا في صورة منتج ابتكاري، ورعايته المستمرة لابتكارات الطلاب المصريين إلا أنني أغفل شهودا موازيا من جانب العلماء المصريين أنفسهم في تقديم ابتكارات علمية تحقق الريادة، اللهم إذا اعتبر هؤلاء ـ العلماء ـ أن ما يقدمونه من أبحاث ورقية تقدم للحصول على ترقية أو الصعود لوظيفة أكاديمية أعلى تحقق دخلا ماديا أو سلطة أو نفوذا وغير ذلك هو من باب الابتكار.
ومنذ سنوات ليست بالبعيدة، كنت قد تناقشت مع أحد من يمكن توصيفهم بعلماء مصر بحكم التخصص الأكاديمي عن الحراك العلمي في مصر، فأخذ يسرد لي تاريخه العلمي الوظيفي وأبحاثه التي تملأ أرفف المكتبات الجامعية التي وصفها بالعريقة على حد توصيفه لها، ولكن حينما وجهت حديثه إلى تمكين نتائج هذه الأبحاث العظيمة من وجهة نظره إلى حيز سلوك الفرد اليومي قال لي إن المجتمع جاهل ولا يؤمن بالعلم، وهذه كارثة لأنه يذكرني بالصياد الذي يجلس طويلا ممسكا شبكة الصيد منتظرا التقاطها للأسماء ولم يعي أن يجلس قابعا وسط رمال صحراء جرداء.
ولا أظن أن ما طرحه العالم المصري العالمي الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء من باب العبث، حينما أكد أن مشكلة البحث العلمي في مصر لا يمكن حصرها في مسألة التمويل والماديات المرتبطة بحركة البحث العلمي، بل إن المشكلة الحقيقية هي الإخلاص. وهذه النصيحة الرائعة التي تجسد تجربة حياة عالم مصري متميز تعكس يقين الحراك العلمي الذي لا يتعد الحصول على ترقية وظيفية أو لقب أكاديمي لا أن يصبح البحث العلمي نواة حقيقية في سلوك المواطن المصري الذي يذهب لعمله.
التفكير العلمي.. من الأزمة إلى الأزمات:
وبعيدا عن توصيف المشهد التعليمي القائم حاليا ومنذ سنوات بعيدة في مصر على سبيل المثال والذي يمكن رصده بحالة الطالب المصري وما يتسم به من خصائص وخصال معرفية ومهارية، لابد من التنويه عن ضرورة الأخذ بالطريقة العلمية أو بالمنهج العلمي في التفكير، لاسيما وأن الطريقة العلمية أو ما يعرف بالتجريب هو أحد أبرز الوسائط الممكنة لحل الكثير من مشكلات الفرد والمجتمع في كافة المناشط اليومية الآنية والمستقبلية أيضا. وجدير بالذكر أن وقت الشروع في كتابة هذه السطور حول التفكير العلمي وأزمة الاهتمام به في مدارسنا المسكينة كنت أطالع كتابا رائعا ماتعا للرياضي والفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل المولود سنة 1872 والكتاب بعنوان النظرة العلمية، وسبب وصف الكتاب بالروعة والإمتاع جاء كون برتراند رسل أخذا في رحلة تاريخية عبر العصور المنصرمة لتأكيد المنحى العلمي والطريقة التجريبية في حياتنا.
فتحدث عن جاليلليو وكيف واجه منحة دوران الأرض وثبات الشمس حتى كتب وثيقة التخلي عن فكره بخط يده، وتنازل عما جاء في كتابه الاستثنائي ” محاورات تدور على نظامي كوبرنيق وبطليموس “، مرورا بإسحق نيوتن الذي وصفه أساتذته حينما كان طاليا في كلية ترنتي بكامبردج بأنه رجل ذو عبقرية لا تصدق، وداروين العالم جليل الخطر في تاريخ الثقافة كما ذكر برتراند رسل ونظرية الانتخاب الطبيعي، ثم بافلوف عالم النفس الشهير الذب بدأ حياته مختبرا سلوك الكلاب، وعلما آخرين سرد قصصهم العلمية في الكتاب الرائع.
والأجمل في الكتاب الذي يتناول نظرة الإنسان إلى العلم وطروحات العلمات أنفسهم، هو الأفكار الفلسفية التي تخللت ثنايا الكتاب، وهذه الأفكار لا تعد خروجا عن المألوف لقامة مثل برتراند رسل، إذ هو الفيلسوف عالم الرياضيات المنطقي الاستقرائي والكاتب الشعبي أيضا، ولعل سفره المستدام في شتى قارات العالم منحه رؤية وبصيرة أمكنته من رؤية صائبة للحقائق العلمية، ويقول برتراند رسل أن العلم دل أول الأمر على المعرفة ثم استحال بعد ذلك إلى كونه قوة للتحكم في الطبيعة، ويلخص رسل مهمة العلم في العصر الحديث في إيجاد صور جديدة للمجتمع البشري وإحداث تعديلات جذرية في حياة الأسرة.
التفكير العلمي رهين الكتاب وليس الشارع:
ولا أنكر وغيري كثيرون أن في مصر المعاصرة رجال علم كثيرين ومتفوقين ولديهم طاقات علمية استثنائية متميزة، فضلا عن كتابات علمية رصينة نقرؤها ولا نزال، وبالضرورة تدشن على أرض مصر مؤتمرات ومنتديات وندوات وورش عمل عن العلم واستخداماته وبيان أهميته في حياة الفرد والمجتمع على السواء، هذه أمور كلها بديهية لا تقبل الشك، وربما أول كلمة لمدير أي مدرسة في صباح اليوم الدراسي الأول تكون عن العلم وحتمية الأخذ بسير العلماء ومصاحبتهم أيضا، لكن الطريقة العلمية أو النظرة العلمية نفسها لإحداثيات الحياة غائبة تماما وتكفي نظرة واحدة لواقع تدريس التجارب الفيزيائية والكيميائية بمدارسنا لنكتشف الهوة والفجوة السحيقة بين ما ندعيه وما هو مشهود بالفعل.
وأزعم أني على يقين بأن ما يُخَط بالكتب المدرسية في مادة العلوم وما يقوله المعلم أيضا أشبه بسادية نصائح وأوامر وتعليمات الأطباء في عصور الكهوف أي أن المسطور والملفوظ باتا معا أكثر اقترابا بالنزعات السادية السلطوية وهذا كفيل بقتل مزية النظرة العلمية والتجريب لدى أبنائنا الطلاب. وزعمه تؤكده كتب العلوم المدرسية التي تشير إلى أن العلاقة بين المسافة والزمن هي علاقة تناسب طردي، وأن حساب سرعة حركة جسم يسير بصورة منتظمة يكون بحاصل قسمة المسافة على الزمن، وهكذا لا يعرف الطالب المسكين المكلوم في نظامه التعليمي مفاهيم ضرورية كالتناسب والعلاقة الطردية ولا عزاء للعلم.
والمشكلة التعليمية القائمة بالفعل في نظامنا التعليمي اللهم إذا كنت غائبا مسافرا عن مصر وأهلها وتعليمها هي الافتقار إلى التجريب أولا، ثم تقليص إعمال العقل ثانيا، فالتجريب عادة في معامل العلوم لا يخرج عن كونه ممارسة سلبية لطالب ينظر إلى المعلم وعليه ألا يتفوه بكلمة واحدة خوفا من احتراق المعمل بأكمله، أو لأنه جاهل أحمق لا يدرك أهمية القيم الفيزيائية التي يتم تقديمها على السبورة الإليكترونية الباهتة البلهاء. أما إعمال العقل فهو الهدف الذي سعى مبارك ونظامه إلى محاربته طيلة ثلاثين سنة مضت وجند أسلحته العلمية والتعليمية والتخريبية أيضا للقضاء على عقل يفكر وذهن يبدع فكانت النتيجة وجود جيل كامل لا يفكر في مشكلات الوطن إلى من خلال وسائل مستفزة إما الثورة ضد نظام سياسي بدعوى الثورة فحسب، أو عن طريق هجرة غير شرعية تكون نتائجها الغرق والموت والإصابة والقبض والحبس، أو من خلال الإحباط والاكتئاب ومن ثم التقاعس عن المشاركة في بناء الوطن.
التفكير العلمي والنظام التعليمي:
ويبدو أن نظامنا التعليمي على إصراره القديم وسمته التي لا يريد أن يتخلى عنها ألا وهي المبالاة أو ( التطنيش ) خصوصا وأنا أطالع ما كتبه الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في كتابه النظرة العلمية، حينما يؤكد على أن حياتنا عبارة عن حقائق وفرضيات ومعارف وعلينا أن نفكر في هذه المنظومة ثلاثية الأبعاد، وهذا التطنيش أرجعني كرها وليس طوعا إلى أطروحتي لدكتوراه الفلسفة في التربية منذ ثمانية أعوام وكانت عن استراتيجيات ما وراء المعرفة التي تعني التفكير في التفكير وكيف تصل بالعقل إلى أقصى درجات عملياته ومهاراته الذهنية، ويبدو أنني كنت أعاني مرض الكاتب المصري الجميل الأستاذ توفيق الحكيم الذي كان متهما بأنه يكتب من البرج العاجي، لأنني في هذا الوقت كنت أحاول التفكير خارج الصندوق وغيري أيضا حاول ولا يزال، لكن واقعنا التعليمي يفجعنا بحقائق مثل مقروئية تلميذ المرحلة الابتدائية بنتيجتها المتردية، وبثقافة الطلاب التي لا تخرج عن روايات لم تقرأ بل تمت مشاهدتها عبر الشاشة فقط.
وباستقراء المشهد العلمي الثقافي في مصر نكتشف عدة مظاهر تصيبنا جميعا بنوبات إحباط مزمنة، فهيئات تقيم ورش عمل لكتابة الرواية رغم أن عميد الرواية العربية العالمي نجيب محفوظ لا نشهد له حضورا وشهودا واحدا لمثل هذه الافتكاسات الخائبة، مع الاعتذار كلمة الافتكاسات العامية لكنها جديرة بهذا التمثيل الثقافي الكاذب، ومشهد آخر يؤكد حالتنا الثقافية لا سيما العلمية، فبدلا من البحث عن حلول لمشكلات الطاقة، أو معالجة حاسمة وسريعة لمشكلة وجود فطر الأرجوت بالقمح المستورد من روسيا العزيزة، راح الشيخ السلفي أو الشاب الشيخ أمام مشيخة الأزهر ليقوم بحرق نسخة من كتاب البخاري لأنه متعرض على ما جاء فيه، فحوكم بالسجن بتهمة ازدراء الأديان.
وهذا المشهد يؤكد أن فقر الواقع الذهني دفعنا دفعنا لمناقشة قضايا الماضي بل الارتكاس إلى حالات جدلية لا يمكن الفكاك من شركها ( بفتح الشين ). بل وصارت عقولنا آلة تصوير تلتقط فقط الصور الفوتوغرافية بغير قراءة واعية لها أو تأويل اجتهادي، هذا الفقر هو الذي جعلنا نكرر ضرورة تجديد الخطاب الديني مرة، وحتمية الأخذ بالمنهج العلمي مرات كثيرة.
والحقيقة إن المشهد العلمي في مصر يقوم على المنطق القياسي الذي يهتم بالقاعدة العامة أو الحكم العلمي المطلق أو القاعدة الفقهية الأكثر عمومية ومن بعدها تأتي الشواهد والأمثلة الفرعية وهذا يجعل الفرد يأخذ القاعدة بصورة قمعية لا يتجرأ أن يفكر في تفاصيلها، لكن الغرب الذي تقدم اليوم، وبالمناسبة تقدم بفضل جهودنا العلمية وتاريخنا العلمي الضارب في القدم، أخذ ولا يزال يهتم بالمنهج أو الطريقة الاستقرائية في التفكير، وهي البدء بالشواهد والأدلة والأمثلة الجزئية والتحقق من فرضياتها وصولا إلى قاعدة عامة، وهذا المنهج يعد ضروريا حيث إنه يسمح بالشك في صحة الاستقراء.