حنان الدرقاوي
ميسور بداية الثمانينات، كنت في طور الإعدادي وكنا نسكن الحي الإداري بقرب بيت مدير الإعدادية ونائب التعليم. كنتُ أيامها أشتغل لحساب تلاميذ الداخلية من أجل الحصول على أخبار في غاية من الأهمية: أخبار وصول المواد الغذائية إلى مقتصدية الداخلية. كنت أمدهم بالأخبار وهم يتكفلون بعدها بالتظاهر من أجل الحصول عليها. كانت مهمتي حيوية للغاية فبدون تلك الأخبار لم يكن من مقدور أبناء الداخلية أن يتحركوا ويناضلوا من أجل تحسين غذائهم.
الأمر يحدث ببساطة، كنت أطلب من أمي أن نذهب لشرب الشاي عند زوجة مدير الإعدادية. نذهب هناك وننتظر موعد التسوق. التسوق بالنسبة لزوجة المدير فوزية الجميلة هي اللحظة التي تعطي فيها القفة لابنتها حليمة وتقول لها:
-
خذي من كل شيء ما يكفي لشرب الشاي أما العشاء فسيحمله أبوك حين يعود.
كان الأمر طبيعيا للغاية. حليمة تذهب بالقفة إلى المقتصدية وتعود بالعجب العجاب: جبن ومربى وزبدة هولندية وخبز أبيض وبيض. حين تعود أعرف أن المواد الغذائية قد وصلت، أبقى عند فوزية إلى أن أنال حظي من الأكل فهي تضع أمامنا أشياءً لا نأكلها طيلة الوقت.
بعد الأكل أنصرف بسرعة وأذهب للقاء “الطيبي” ولد في الداخلية وأخبره بوصول الجبنة والمربى. حين يصل الخبر يتكثل أبناء الداخلية ويستعدون للمعركة. إضراب إلى أن تنزل الجبنة في أطباقهم. في تلك الفترة كنت أخبئ عواطفي تجاه “الطيبي” ولا أجعل شيئا يبدو عليّ تجاهه. أحادثه عن الجبنة ويحادثني عن الثورة والجماهير الشعبية. أنظر إلى عينيه الذابلتين وأحلم معه بسعادة لم أعرف طريقها بعد. كان يحادثني عن حبه للرياضيات وللمهدي بنبركة. كنت أحدثه عن اجتماعات النقابة في بيتنا وكيف أن شرف خدمتهم موكلة إلي. أدخل بأطباق مليئة وبكؤوس وقطع لذيذة من كبد الدجاج بصلصة الطماطم وأنتشي لرائحة الشراب القوية. كنت أحس أنني أساعد الثورة في القيام، في انتظار أن أقوم بثورتي الخاصة ضد النقابيين الذين حولوا بيتنا إلى غرزة حشيش وخمر. من حين لآخر كان الطيبي يسرق من الداخلية قطعة جبن “البقرة الضاحكة” ويعطيني إياها وهو مستغرب كيف أكون ابنة مسؤول محلي ولا آكل الجبنة كل يوم. كانت هناك أشياء كثيرة لانفهمها مثل سر الفوارق الطبقية. كنا نتسائل إذا كان هناك إله عادل؛ فلماذا يسمح بكل تلك الفوارق بين الناس، ما حِكمته في ذلك؟ لماذا يولد البعض في قصر والبعض الآخر في براكة مثل الطيبي. لم تكن حالتي سيئة فأبي يستفيد من سكن وظيفي أنيق في الحي الإداري. كان الطيبي يشعرني بالأهمية ويقول لي ضاحكا ” أنت ماتاهاري الداخلية” كنت سعيدة بمهمتي في التجسس على الجبنة وبالشاي عند الجيران وأكل الجبنة والبيض المقلي إلى أن اكتشف المدير أنني أنا التي أوصل أخبار الجبنة إلى تلامذة الداخلية. فرض حصارا علينا وصرنا لانتردد على بيته من أجل الشاي. اخترعت وسيلة أخرى لأعرف بوصول الجبنة. كنت أرافق ابنة نائب التعليم صديقتي في تسوقها هي الأخرى من المقتصدية وأشاهد بأم عيني أطنان الأكل المرصوف في مطبخ الداخلية وأستغرب إن كان كل هذا الأكل يأتي من جهات متعددة فلماذا يبيت أبناء الداخلية جائعين؟ لم أكن قد فهمت بعد أن الوطن ينهب من كل ناحية، وأن النظام ليحافظ على بقائه أطلق أياد المسؤولين مدنيين وعسكريين في قوت الفقراء ينهبونه. لا يهم أن تنهب، الأهم هو أن تذهب في عيد العرش لتقدم الولاء والطاعة وتركع مع الراكعين.
كنت فقط أمتلئ بالصراخ وأنضم إلى تظاهرات التلاميذ وأنا ساخطة على كل شيء ولاشيء يعجبني في الحياة بدءً من النهب حتى نحافتي الفظيعة والناموس الذي يزعج نومي. توطدت العلاقة بيني وبين “الطيبي” وصرنا صديقين. لم يكن الجنس قد دخل بعد ضمن اهتماماتنا وظل رابطنا طاهرا أخويا وكنا نتعاون على الدروس. أساعده في الفرنسية ويساعدني في الرياضيات وكان نابغة فيها ويتمنى أن يصير استاذ رياضيات وزعيما سياسيا مثل المهدي بنبركة. كنت أتخيله أستاذا وقائدا وطنيا إلى أن أتاني ذات يوم وهو باك:
-
أبي سقط من العمارة التي يبنيها وسط المدينة تهشم رأسه وعلي أن أعود إلى قريتي أنا أكبر إخوتي وعلي أن أشغل مكان أبي.
غاب الطيبي وغاب معه الشغب والتجسس على الجبنة وظل الصراخ في داخلي:
-
لماذا يا رب تحرم شابا نابغة مثل الطيبي من تحقيق أحلامه وتكسر حياته بهذا الشكل؟