التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد | محمد وقيدي
– 1 –
من حيث إن الإنسان كائن زمني، فإن التفكير في التاريخ جزء من انشغالاته. لكن تفكير الإنسان في التاريخ لا يكون من حيث هو زمن تملأه أحداث ذات علاقة خارجية وموضوعية به فحسب، بل إن الإنسان يفكر في التاريخ بوصفه سيرورة في الزمن لها أثر عليه، وله رغبة في معرفتها وإنشاء التصورات عنها وتفسيرها وتأويلها. وإذا كان الإنسان يحيا على كثير من الأشياء، فإنه يمكننا القول إنه يحيا في جزء من تصوراته على معنى معين للتاريخ. فحاضر الإنسان، في مظهر من مظاهره، كامن في المعنى الذي يعطيه لما سبقه من زمن ولما مضى قبله من أحداث ووقائع وثقافات وحضارات. وهذا معناه أن الإنسان لا يعيش حاضره مفصولا عن ماضيه، وأن محاولات تفسير الماضي وتأويله وتكوين معنى عنه عنصر من العناصر الفاعلة في حياة الإنسان. فكيرا ما نلاحظ أن جزء من فعالية الإنسان المعرفية تتجه إلى البحث في التاريخ ومعناه، في الميادين المختلفة للمعرفة، وكأن تحديد هذا المعنى ضرورة بالنسبة للحاضر وكثيرا ما نلاحظ أن الصراعات الفكرية تدور حول تأويل التاريخ، لأن الانطلاق من معنى معين للتاريخ هو أحد السبل لتغليب معنى معين للحاضر. فلأن حاضر الإنسان في عدد من مظاهر استمرار للماضي، ولأن عوامل عدة من الماضي تلعب دورا في تشكيل الحاضر بما في ذلك توجهاته، فإن تشكيل تصور، عن التاريخ يصبح لأهداف قد تكون متباينة مهمة راهنة.
هذا هو الإطار العام الذي سنعالج ضمنه فكرة نهاية التاريخ، وهي الفكرة التي صاغها المفكر الأمريكي “فوكوياما” في كتابه الذي يحمل عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، وهو كتاب ترجم إلى اللغة العربية مثل عدد آخر من اللغات، وهو كذلك الكتاب التي أثار ردود فعل كثيرة نظرا للموضوع الذي يتحدث فيه(1).
غايتنا في هذا البحث الذي حددنا إطاره العام أن يكون اقتراحا بإجابة عن أسئلة ثلاثة تتعلق بتصوراتنا عن التاريخ:
السؤال الأول: ما المقصود من القول بنهاية التاريخ عند “فوكوياما”؟ وما هو بالذات التاريخ الذي يوسم اليوم بأنه انتهى؟
السؤال الثاني: لماذا، ندعو من جهتنا إلى التنبه إلى تاريخ نقول بأنه لم ينته بعده؟ وما علاقة هذا التاريخ بذلك الذي يقال بأنه انتهى؟
السؤال الثالث: ما المقصود، أيضا، بالتاريخ الذي نقول إنه لم يبدأ بعد؟ وما هي النقطة التي نتصور أنها يمكن أن تكون منطلقا لهذا التاريخ؟
– 2 –
لقد حددنا في السابق الإطار الذي يتم فيه البحث من جانبنا عن التصور القائل اليوم بنهاية التاريخ، إذ نحن نتحدث عن ذلك في إطار يتضمن القول بأن كل حكم على التاريخ لا يستند إلى الواقع الموضوعي فحسب، بل يستند أيضا إلى عنصر ذاتي هو المعنى الذي نعطيه للماضي والدور الذي يلعبه هذا المعنى في الحاضر بتوجهاته وصراعاته المختلفة المستويات. وهذا الإطار العام كما حددناه يسمح لنا بإضفاء النسبية على كل قول عام وشامل حول التاريخ، ويسمح لنا من أجل ذلك بالتعامل مع هذا القول في حدوده مثلما نتعامل معه في قوته.
إن سؤالنا الأول كما أبرزنا ذلك يتعلق بالمعنى المقصود عند فوكوياما من القول بنهاية التاريخ. ولتحديد هذا المعنى نبادر إلى القول بأنه غير ما يتبادر إلى ذهننا عندما نقرأ عبارة نهاية التاريخ لأول مرة كعنوان للكتاب. فليست هنالك في الواقع نهاية واقعية للتاريخ يريد فوكو ياما أن يشير إليها بهذه العبارة، إذ الوقائع والأحداث التي يتشكل منها التاريخ مستمرة خارج كل حكم عليها، ولا يمكن لفوكوياما أن يعارض واقعية استمرارها والوقائع التي يتشكل منها لم تتوقف عن الحدوث، والأفعال البشرية المحدثة لهذه الوقائع أو المستقبلة لها لم تتوقف. ومن جهة أخرى، فإن القول بنهاية مطلقة للتاريخ تصريح ميتافيزيقي يخالف ما أراد فوكو ياما الإشارة إليه. ما يقصده فوكوياما بنهاية التاريخ لا يتعلق بالتاريخ الوقائعي، بل يتعلق بمعنى عام ومجرد للتاريخ يستلهمه فوكوياما من فيلسوفين سابقين عليه، هما هيغل وماركس. يقول فوكوياما محددا هدفه هذا: “إن الذي أشرت إلى نهايته لم يكن بالطبع التاريخ كتتابع للأحداث، وإنما التاريخ كمسار متماسك للتطور الذي يأخذ في الحساب تجربة جميع الشعوب في آن معا. هذه النظرة للتاريخ تقترب كثيرا من نظرة الفيلسوف الألماني الكبير هيغل(…) كان هيغل وماركس أيضا يعتقدان أن تطور المجتمعات البشرية ليس بلا نهاية، ولكنه قد يكتمل عندما تجد البشرية الشكل الاجتماعي الذي يشبع حاجاتها الأكثر عمقا والأكثر أساسية. وهكذا يكون المفكران قد وضعا “نهاية للتاريخ” : فبالنسبة لهيغل، تتجلى تلك النهاية في الدولة الليبرالية، أما بالنسبة لماركس ففي المجتمع الشيوعي. هذا لا يعني أن الدورة الطبيعية للولادة والحياة والموت سوف تتوقف وأن أحداثا مهمة لن تحصل أو أن الصحف التي تتحدث عنها سوف تتوقف عن الصدور. ولكن ذلك يعني أنه لن يكون هناك إمكانية للتقدم في تطور المؤسسات الرئيسية والمبادئ المتعلقة بها، لأن كل المسائل الكبرى سيكون حلها قد تم”(2).
هكذا، إذ كانت الوقائع مستمرة لا تنبئ بنهاية واقعية لما يتشكل منها، فإن القول بنهاية التاريخ سيصبح حكما ذاتيا ومجازيا، وسيصبح القصد منه هو نهاية عصر من التاريخ وبداية عصر آخر جديد منه. العصر الذي يتحدث فوكوياما عن نهايته هو مضادات الدولة الليبرالية الديمقراطية والمتمثلة في نوعين من الحكم هما الديكتاتوريات اليمينية والعسكرية والدولة الشيوعية من جهة أخرى. فنهاية التاريخ عنده مرتبطة بما وقع في العالم من تطورات سارت بها النظم الديكتاتورية والشمولية نحو الأفول، وهو أيضا التطورات التي سمحت بألا يظل أمام الإنسانية إلا اختيار واحد هو الدولة الليبرالية الديمقراطية، إذ هذا هو الطريق الممكن الوحيد لتطور كل المجتمعات الإنسانية. إن نهاية التاريخ، حسب ما أراده فوكوياما من هذا التعبير، لا تعني أن التاريخ سيتوقف ما دامت هناك حياة إنسانية فاعلة فيه وموجهة لأحداثه، بل تعني فقط أن التاريخ انتهى اليوم لأن اتجاهه بعد هذا لن يكون إلا في طريق واحد هو التطور نحو الدولة الليبرالية الديمقراطية. ويرتبط بهذا مفهوم الإنسان الأخير الذي يكون هو إنسان هذا المجتمع الذي تسوده هذه الدولة الليبرالية الديمقراطية. تعني نهاية التاريخ أن اتجاه السير فيه أصبح واحدا، وهذا لا ينفي وجود تطورات ضمن هذا الاتجاه، ولا ينفي وجود إبداع إنساني فيه للجديد في جميع الميادين، ولا ينفي كذلك وجود وقائع جديدة في التاريخ الذي يستمر.
إذا أردنا أن نعبر عن مقصد فوكوياما تعبيرا آخر قلنا إن ما يعنيه تعبير نهاية التاريخ هو نوع من القطيعة التي تتحقق مع الماضي. فإذا كان ما يوجه الماضي هو الصراع بين الدولة الليبرالية الديمقراطية وضديها المتمثلين في أنواع الحكم التسلطية وتلك التي تقوم على أساس من فلسفة شمولية، فإن ما نشهده في زمننا هو انتصار لشكل الدول الليبرالية الديمقراطية، وهو انتصار يعتبره فوكوياما نهائيا، وهذا ما جعلنا نعبر عن فكرة بالقطيعة لأن نهاية التاريخ تعني بهذا المعنى مرحلة لا يكون فيها تراجع إلى الوراء، بل السير فيها دائما هو نحو الدولة الليبرالية الديمقراطية. وكل مجتمع لا يسير الآن نحو هذا التطور سيواجه أكثر فأكثر التناقضات التي تقوده بالضرورة نحو السير في هذا الطريق. لم يعد هناك إلا طريق واحد دون أن يعني ذلك رتابة في التاريخ. فالأحداث والوقائع ستستمر في الوقوع، والأفعال الإنسانية التي هي مصدر هذه الأحداث ستستمر في الوجود، ولكن الفارق بين الماضي والحاضر يكمن، كما نستفيد ذلك من فوكوياما، في أن الماضي كان يوجهه صراع يجعل الطريق مفتوحا أمام إمكانات متعددة لتطور المجتمعات وأن الحاضر لم يعد يخضع لهذا التوجه وأصبح ما يوجهه نموذج واحدا أصبح هو الأسمى في تصورنا للمجتمع. فهناك إذن زيادة على مفهوم اللاعودة في تاريخ الإنسانية مفهوم اكتمال تصورها عن المجتمع. وإذا ما كان هناك من فضل تحتويه المرحلة الراهنة من التاريخ فهي أن الصراعات التي دارت فيها بين أشكال مختلفة من نظام الدولة والمجتمع قادت إلى الوعي بأن الشكل الأسمى الذي يضمن في الوقت ذاته انسجام الحياة المجتمعية وعدالتها وتحقيقها لسعادة الفرد والمجموع هو الدولة الليبرالية الديمقراطية. لقد تم في هذا الشكل من الدولة التفكير في صورة الدولة المثلى، ولن تكون هنالك من تطورات في التفكير أو العمل على السواء إلا داخل هذا النظام المجتمعي. والتناقضات الجديدة التي ستظهر في سيرورة التاريخ في أي مجتمع، أو في المجتمعات الإنسانية عامة، لن تكون إلا تناقضات داخلية تعمل على تفعيل نفس النظام ولكن دون أن تضع أمامه نظاما آخر ممكنا يناقضه. أما الإنسان الأخير فهو الإنسان الذي سيحيا داخل هذا النظام المجتمعي السياسي يستفيد منه كأسمى تطور ويدفعه إلى تطورات أخرى أسمى مما هو عليه. سيتعرف هذا الإنسان الأخير سعادته في هذا النظام المجتمعي السياسي ويجد نفسه لذلك مستجيبا للرغبة في تطوره.
– 3 –
لقد عنونا بحثنا هذا بعنوان يشير إلى فكرة نهاية التاريخ بشكل مضاد لما أراده فوكوياما منها، إذ بدل أن نسايره في القول بتاريخ ينتهي لأن المجتمع الإنساني بلغ فيه غايته القصوى، فإننا وجهنا تفكيرنا نحو اتجاهين آخرين هما التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد. وتوضح هذه الإشارة إلى أن تفكيرنا يتجه في اتجاه نقد فكرة فوكوياما وإلى إرادة التعبير عن تصور مخالف لتصوره لتطور المجتمعات الإنسان ولسيرورة التاريخ بصفة عامة. وليس هدفنا هنا أن نعيد فوكوياما إلى وقائع لم يلاحظها كمؤرخ، إذ لم تكن غايته هو ذاته أن يكون كذلك، ولن تكون غايتنا كذلك أن نعرض وقائع تاريخية محددة تضع فكرة نهاية التاريخ أمام محك النقد، إذ سنحاول مناقشة فكرته في إطارها الفلسفي الذي يتم فيه الحديث عن التاريخ بمعنى مجرد وعام لا يهم وقائع أي مجتمع خاص بقدر ما يهم التطور العام للإنسانية في سبيل بحثها عن أفضل نظام مجتمعي سياسي يمكن أن يؤطر أفضل شكل من أشكال وجودها في هذا العالم.
من هذا المنطلق، فإننا نريد قبل أن نتحدث عما نقصده بالتاريخ الذي لم ينته بعد أن نضفي النسبية أولا على قول فوكوياما بنهاية التاريخ. وفي هذا الإطار نقول بأن ما يقوله فوكوياما هو معنى للتاريخ وليس ذلك التاريخ نفسه. فالتاريخ انتهى بالنسبة لذات هي فوكوياما وما ترمز إليه هذه الذات من كيان جماعي تنتمي إليه، ولكنه لم ينته في ذاته. إن ما قاله فوكوياما عن التاريخ حكم عليه وليس وصفا علميا له. ومن الواضح أن كل من يتخذ مهنة المؤرخ منطلقا لتقويمه للأفكار والأحكام الصادرة حول التاريخ لن يقبل من فوكوياما قوله ذلك. إذ أن ما يبحث فيه المؤرخ هو التاريخ الذي وقع في الماضي أو يقع الآن أو يمكن أن يقع في المستقبل، دون أن يدخل بصدد ذلك في أي حكم فلسفي عام مثل القول بنهاية التاريخ. فالمؤرخ لا يعرف إلا ما وقع ولا يصف إلا ذلك، ولا يخطر له أبدا أن يحكم على التاريخ بنهاية ما لأنه لا يلاحظ هذه النهاية في الوقائع المعروضة على تأمله التأريخي.
من جهة أخرى، فإن القول بنهاية التاريخ كخلاصة لمعرفة به هو قول يصدر عن ذات عارفة خاصة تريد أن تعبر عن معرفة، ولكنها تريد في الوقت ذاته أن تقول شيئا يتجاوز حدود هذه المعرفة. إن هذا القول محاولة لتأطير التطورات التي يعرفها العالم المعاصر انطلاقا من نظام مرجعي خاص إليه وهو الاعتقاد بأن التاريخ قد انتهى بالفعل بفعل الصراعات التي عرفها إلى إلغاء تناقضاته وإلى الوصول بالإنسانية إلى النظام المجتمعي السياسي الذي يحقق لها غايتها القصوى. وليس هذا الأمر مجرد استنتاج من جانبنا نستنتجه لكي ننقد به تصور فوكوياما أو نضفي عليه النسبية، كما نريد ذلك، بل إنه قول لفوكوياما ذاته يساعدنا بفضله على فهم حدود قوله وعلى اتخاذ الطريق إلى تجاوزه.
إن الشرط التاريخي الخاص الذي يؤطر حكم فوكوياما على التاريخ بأنه بلغ نهايته هو أولا اندثار عدد من الأنظمة المجتمعية السياسية التحكمية التي تتموقع على يمين الليبرالية الديمقراطية وعلى يسارها على السواء، ثم بروز هذا النظام ذاته بوصفه الأسمى والوحيد الذي يضمن لذاته الاستمرار إلى ما لا نهاية له من تاريخ الإنسانية. نقرأ لفوكوياما محددا الشرط الخاص لقوله بنهاية التاريخ قوله: “النبأ السار قد حل. إن التطور الأبرز لهذا الربع الأخير من القرن العشرين هو انكشاف الضعف الهائل الملازم للدكتاتوريات العالمية التي تبدو وكأنها قوية جدا، أكانت ديكتاتوريات “يمينية” عسكرية متسلطة، أم “يسارية” شيوعية توتالتارية. فخلال العقدين الأخيرين انهارت حكومات كثيرة “قوية” من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية، ومن الاتحاد السوفياتي إلى الشرق الأوسط وآسيا. حتى ولو أنها لم تفتح الطريق دائما نحو ديمقراطيات ليبرالية مستقرة، فإن الليبرالية تبقى التطلع السياسي الوحيد المتماسك الذي يربط مناطق وثقافات مختلفة في جميع أنحاء الكرة الأرضية”(3).
إن فكرة نهاية التاريخ عند فوكوياما محاولة للتأطير النظري، أو إن شئنا أيضا الإيديولوجي، لهذا الوقائع. ولذلك نقول إنه بالرغم من أن فوكوياما يصرح بأن معنى التاريخ عنده لا يعني ذلك التاريخ المتعلق بالوقائع، فإن هذا لا يعني أبدا تجرد هذا التاريخ الذي انتهى عند فوكوياما عن كل الوقائع. أنه، على أقل تقدير، انتباه نظري إلى التطورات الكيفية التي عرفها العالم المعاصر، ومحاولة تنظيرها انطلاقا من موقع مرجعي معين هو النظر إلى الأحداث والتغيرات من خلال الانتماء إلى استراتيجية الدولة الأقوى في العالم الحالي. وفي هذا الإطار لا تصبح الليبرالية واقعا قائما فحسب، بل تصبح نموذجا لكل تحليل يمكن أن يقوم باستيعاب تطورات العالم المعاصر. يؤكد فوكوياما ذلك بقوله: “يبدو أن الديمقراطية الليبرالية إذا ما قورنت بحسب هذا المعيار، بالبدائل التاريخية التي وصلت إلينا، فإنها تقدم أفضل الاحتمالات المتعلقة بالأجزاء الثلاثة.
وإذا لم يكن بالوسع اعتبارها أصوب الأنظمة “نظريا”، يمكن القول إنها الأفضل “عمليا”. وفي الواقع، كما يعلمنا هيغل، ليست الليبرالية الحديثة مؤسسة على إبطال رغبة الاعتراف، بل على تحويلها إلى شكل أكثر عقلانية”(4)
من الواضح أننا عندما نربط فكرة ما بالسياق المجتمعي والتاريخي الذي رافقها، والذي يكون انبثاقها تلبية لمقتضياته، فإننا لا نضفي على هذه الفكرة النسبية المجتمعية والتاريخية فحسب، بل نضفي عليها أيضا النسبية المعرفية. فنحن لا نتعلم من التحليل الذي يربط الفكرة بسياقها العام أن نرى كيف انبثقت هذه الفكرة عن سياقها وكيف كانت محاولة لتفسيره والتأثير فيه فحسب، بل نتعلم أيضا السير في الطريق الذي يبرز لنا حدود تلك الفكرة أو المفهوم، أي حدود قدرتها على التحليل عندما نخرج عن سياقها أو عندما نضع أنفسنا في موقع مرجعي آخر غير موقعها.
إن ما ندعو إليه هو النظر الموضوعي إلى فكرة فوكوياما في ضوء سياقها وكذلك التموقع خارجها في موقع مرجعي آخر يتيح لنا شرطنا الحضاري الراهن أن نوجد ضمنه باعتبارنا ننتمي إلى عالم غير الذي أرادت فكرة نهاية التاريخ أن تعبر نظريا عن الموقع الذي يحتله في العالم المعاصر، وبتعبير آخر، فإن ما ندعو إليه هو النظر المزدوج إلى فكرة نهاية التاريخ. فإذا كانت هذه الفكرة تحاول أن تكون إيديولوجيا الواقع العالمي المعاصر من موقع معين، فإننا زيادة على كشفنا على صفتها الإيديولوجية، وهي نسبية معرفية لها، نحاول ألا تكون تلك الفكرة إيديولوجيا بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، أي علينا أن نتأمل الوقائع التي لا تفسرها هذه الفكرة إلا بصفة تعميمية زائفة ومضللة، مثلما هو حال الإيديولوجيا في أغلب الحالات.
حين نضع أنفسنا في موقع مرجعي غير الذي انطلق منه فوكوياما فإننا نمنح أنفسنا فرصة لكي نرى الواقع المعاصر لا من حيث هو نهاية للتاريخ، بل هو استمرار لتاريخ في الماضي القريب والبعيد نسبيا لم ينته بعد، وذلك بالمعنى الذي يقصده فوكوياما ذاته. وبتعبير آخر، فإننا نقول وانطلاقا من نفس المعايير التي يعتمدها فوكوياما ذاته، أي وجود صراعات أساسية، بأن التاريخ لم ينته بالنسبة لأجزاء كثيرة من العالم، وبأنه قبل أن تكون الليبرالية الديمقراطية هي المطلب الأساسي، فإن المطالب الأساسية تكون بالنسبة لجهات كثيرة من العالم متعلقة بما يمكن أن نسميه ما قبل الليبرالية الديمقراطية، أي بالخروج من دائرة هيمنة أطراف محددة على سياسات العالم واقتصاده وتطوره العلمي والتقني والتنظيمي.
فضلا عن ذلك يمكننا أن نقول إن فكرة نهاية التاريخ لا تعبر عن مطمح جزء كبير من البشرية. فتاريخ الصراعات التي تهم الجوانب الأساسية من حياة الإنسان ما تزال مستمرة، مع العالم غير الغربي الذي ننتمي إلى جزء منه يشكل مركزا لأغلب هذه الصراعات وأشدها قساوة على وضع الإنسان في العالم الراهن. فالتاريخ الذي يتحدث فوكوياما عن نهايته يكون على العكس من ذلك قد بدأ.
إذا كنا نقول بأن التاريخ لم ينته بعد، انطلاقا من العالم غير الغربي الذي ننتمي إليه، فلأن هناك مشكلات كبيرة ما تزال قائمة تبعد الإنسان عن أن يكون طموحه متجها إلى الليبرالية الديمقراطية.
هناك الحروب التي لم تتوقف أبدا والتي تندلع باستمرار في جهات كثيرة من العالم دون أن تكون غايتها، على الأقل، هي الوصول إلى النهاية التي يتحدث عنها فوكوياما للتاريخ. الحروب التي ما تزال قائمة تجعل التاريخ مستمرا. وهكذا نرى، أن الحروب التي تدمر حياة الإنسان أو تنهي هذه الحياة بالنسبة لمجموعات كبيرة لا تترك الفرصة لانتهاء التاريخ.
وهناك أيضا تطور الصناعة الحربية في البلدان المتقدمة بصفة خاصة والتي تذكي الرغبة في الصراع وتمنع الإنسانية بذلك من إنهاء التاريخ بالمعنى الذي أراده فوكوياما نفسه.
وهناك الاختلال في توازن العالم وقيامه على أساس هيمنة طرف واحد قوي على سياسات العالم واقتصاده. وهذا اختلال يجعل التاريخ القائم على الصراع مستمرا.
لم ينته التاريخ كذلك لأن هناك تحايلا على نهايته، بالمعنى الفوكويامي، لدى جزء كبير من العالم. فالليبرالية الديمقراطية صارت في أجزاء كثيرة من عالمنا المعاصر مجرد أشكال لا تعكس أبدا طموح الإنسان إليها. إنها تغدو مجرد مؤسسات ذات وجود ووظيفة شكليين يوجهان المجتمعات إلى ضدها يريده منها. إذ تختفي خلف هذه المؤسسات التي تظهر المجتمع سائرا نحو النهاية المتحدث عنها رغبة في استمرار المجتمع في حالة ما قبل هذه النهاية(5).
يمكن أن نعدد مظاهر أخرى قد تفوق كما ما ذكرناه، وكلها تشير إلى تاريخ لم ينته، ولكننا نريد بدلا من ذلك أن نوضح المظاهر التي تدعو إلى تاريخ نرى أنه لم يبدأ بعد.
ما يهمنا هنا ليس مفهوم نهاية التاريخ فحسب بل مفهوم للإنسان الأخير أيضا. فنحن نرى بصفة عامة أنه إذا صح القول بتاريخ لم يبدأ بعد، وهو أيضا إضفاء معنى معين على التاريخ مثل القول بنهايته، فإن هذا التاريخ الذي لم يبدأ بعد سيكون تاريخ إنسان أخير ما يزال أملا وطموحا بالنسبة للإنسانية بدل أن يكون واقعا قائما كما يقول بذلك فوكوياما. وهذا الإنسان الأخير سيكون هو ذلك الذي تطابق الإنسانية فيه كل غاياتها التي تجعل من الإنسان قيمة عليا في العالم تسمو على ما عداها من القيم.
الإنسان الأخير الذي هو قيمة عليا هو الذي سيعمل على تحقيق سلام عادل يهم للإنسانية بأكملها، وهو سلام لا يمكن أن يتحقق خارج القضاء على شروط التسلح المتزايد كما وكيفا في اتجاه القضاء على الحياة الإنسانية، كما لا يمكن أن يتحقق دون القضاء على شروط الهيمنة التي تلغي السعي نحو تحقيق الغاية القصوى للإنسانية.
الإنسان الأخير سيكون هو ذلك الذي سيسعى إلى أن يجعل من التقدم العلمي والتقني أداة لتحقيق سعادة الإنسان وتوسيع مجالات كينونته واستفادته من معطيات الطبيعة ومن تقدم العلم في تحويلها لصالحه.
الإنسان الأخير الذي لم يبدأ التاريخ بعد في تحقيق شروطه هو ذلك الذي سيسعى إلى وحدة الإنسانية في العالم المعاصر بحيث تستفيد كلها بشكل متعادل من أنواع التقدم الحاصل في مجالات مختلفة.
هذا الإنسان بدأت محاولات تحققه في عصور ماضية مختلفة ولكنها كانت تنقطع باستمرار، ولكن ذلك لن يمنع من بداية تاريخه من جديد لأن الإنسانية تتعرف ذاتها من خلاله.
وإذا ما شئنا أن نعبر عن هذا كله بالنسبة إلينا كمجموعة بشرية، فإننا نقول إن نظرية نهاية التاريخ موقف متشائم بالنسبة إلينا، على الأقل لأننا لم نكن مساهمين فاعلين في هذه النهاية. ولهذا استعضنا عنها بتاريخ لم ينته بعد يمكن أن نساهم في إنهائه، وبتاريخ لم يبدأ بعد يمكن أن نساهم على صعيد الفكر والعمل في بدايته.
————————–
الهوامش
1 – راجع الترجمة العربية لكتاب فوكوياما الصادرة عن مركز الإنماء القومي، وهي من إنجاز فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايبي،
إشراف ومراجعة مطاع صفدي، بيروت 1993.
2 – المرجع السابق، ص 24
3 – نفس المرجع السابق، ص 25
4 – نفس المرجع السابق، ص 309.
الفلسفة محمد وقيدي 2017-01-24