وائل الناصر (سوريا-ألمانيا):
الإنسان هو البيان، ويُقاس أصالة وجوده، بمدى قدرته في الإبانة عن نفسه، لأنّ كلامي يبقى ملكي طالما أنه محبوس في قرارة نفسي فإن تحرّك به اللّسان فقد وقع عنك وأصبح في متناول الآخرين، وبما أنّ الكلام هو حروفٌ تجتمع في جوفي فتؤلّف ألفاظاً، جالت في أعماق نفسي وقلبي، معانيها، فيخرج منّي هذا الكلام ،إمّا صوتاً أو كتابةً وإمّا رسماً أو موسيقى، فقد تعامل الخليل بن أحمد الفراهيدي مع أحرف كلامنا كما يتعامل مع قطعةٍ منّا فصنّف كتابه “العين” -وهو أول معجم يصنّف في اللغة العربية-وفق مخارج الحروف من الجسد فبدأ به بحرف العين، على خلاف الترتيب الهجائي الذي اعتمده اللسانيون فيما بعد، لو أخدنا ألفاظاً مثل “عين” “علم” “عمل” “عشق” هذا يعطيني أنّ الألفاظ التي تبدأ بحرف العين هي ألفاظ ثقيلة فناسب هذا أن خروج حرف العين هو من جوف المعدة، ولو أخدنا “حب” “حياة” “حنان” “حمْل” نجد أن حرف الحاء يخرج من موازاة القلب، فناسب ذلك الخروج مع ما يحمله اللّفظ من معنى قلبي، كما أنّ السيوطي في كتابه “المزهر في اللغة” ذكر كلام الببّغاء وقال : هو كلام فصيح وليس بليغاً، لأن الفصيح ،كلامه يخرج من لسانه فقط،فقلبه أعجميٌّ عن كلامه، وهذا هداني إلى ضربٍ آخر من ضروب معرفة مقتضى حال الشخص من كلامه، فأنت تجد أنّ من كلامه من لسانه مغايراً لما في قلبه يطلقون عليه كلمة منافق أو كذّاب، ومن كان كلامه خارجاً من قلبه،وصدّقه لسانه بنطقه يُطلقون عليه كلمة،صادق ومخلص ومحب ..الخ.
لذلك وبما أنّ الأحرف قائمة على أساس التصاقها بنا، فأدى ذلك إلى أنّ كل كلامٍ يخرج منّا فلابدّ أن يكشفنا، أن يُبيحنا أمام الآخر، لهذا الذي ذكرت، سأحاول أن أدرس ومضة للشاعر فايز العباس، دراسة سيكولوجية بلاغية،بحيث أُفَذْلكُ ما أردتُ أن أوصله، يقول:
بيني وبين البحر، هدنةٌ:
“لا أبني قلعةً، فلا يهدمها”.
“الهدنة” بيني وبين البحر، هي مزاج نفسي منّي تجاهه، وبما أنّ هذه الهدنة ،يستحيل حدوثها وفق مقتضى الحال وبقائها خارجه، وأيضاً،ب ما أن إيجاد الهدنة أو تصوّر معنى وجودها، قائم على مقتضى حالي أنا فقط،فمعناه أن وجودها معدوم وفق مقتضى حال البحر.
لنفرض أن “لا” في “لا أبني” هي “لا” التحسّر، أو لنفرض أنها،استغراب تكرار حدوث الفعل بمعنى سقط من يدي الأمر،لأني ضمنياً أعرف أني أنا من افتعل وجود الهدنة،فجاء النفي “لا”بمعنى تأكيد فعل البناء والتحسر عليه، لأن البحر سيهدمه.
من خلال استعراض الصور الذهنية لكلمة البحر في عقلي ومقارنة دلالاتها اللفظية وبِنى معانيها،كل ذلك،معي أنا،مفتعل الهدنة،وماتعنيه الهدنة من حالة وقوف مؤقت للحرب حتى وإن استمر،ومقارنته بقول سيبويه: العرب يُقدّمون الأهم والأبين في كلامهم،لذلك فإن قولي:”بين البحر وبيني هدنة”يعني إعطاء الأهمية للبحر، وجعل الشاعر نفسه في مكافئ البحر،لذلك قال الشاعر”بيني وبين البحر”لأنه هو المهم،وقوله “لا أبني” أنا من أبني أو لا أبني فالفعل لي،وحين أفعل الفعل،الهدنة تقتضي بقاءه، ولما كان ذلك كذلك،فحالتي النفسية التي خلقت الهدنة هي التي تبني وتهدم،ومجازها هو،لضعفي أمام البحر،اختلقت حربا متكافئة،بيني وبينه،فلا أبني قلعة كي لا يهدمها،”حقيقة”،بهذا يناسب الكلام مقتضى حال المتكلم الواقعي، وأن ضعفي النفسي وتصوراتي الذهنية عن ضعفي هذا، هي التي واجهت البحر في حرب نفسية أنا طرفٌ فيها،لذلك كان كلامي:
“بيني وبين البحر هدنة:
لا أبني قلعة، فلا يهدمها”
هو كلام ناسب مقتضى حالي النفسي، وحرّك بي دونكيشوت الحرب خاصتي،ورحت أبني قلاعي ويهدمها البحر،أبني ويهدم،حتى صار نفي فعل البناء مني، تأكيداً لفعل البناء،ونفي فعل الهدم من البحر، تأكيداً لفعل الهدم.
قمة الاناقة