د. يسري عبد الغني عبد الله:
عن الأسلوب واللغة:
بداية نحب أن نؤكد على أنه من الضروري في دراسة الأدب المقارن أن نجعل التأثر والتأثير أهم محاوره واتجاهاته، إذ لا يكفي مع اتساع دائرة النشر ووسائل الإعلام والاتصالات الوقوف عند ظاهرة أوجه الاتفاق أو الاختلاف، إذ أنها غير محددة الأبعاد، وتبدو غير ذات جدوى إلا في مجال تاريخ الآداب العالمية.
نعود فنقول: إنه من المعروف لنا أن الأفكار حظ يشترك فيها جميع الناس، و كما يقول الجاحظ فإن: (المعاني مطروحة في الطريق يعرفها البدوي والحضري)، ولكن التعبير الشخصي الذي تصاغ به الأفكار هو الذي يختلف من أديب إلى آخر.
والأسلوب مرتبط باللغة، وهو لذلك يحتفظ بطابع شخصي لا ينفصل عن روح الأمة التي تعبر بلغتها عن روحها، ومع ما يبدو من أصالة الكاتب الشخصية، فإن أسلوبه يختلف باختلاف تيارات المؤثرات الأجنبية فيه.
وغني عن البيان أن الأسلوب الأدبي أسرع العناصر إلى التنقل أو التناقل، فالكتاب قسمان: كتاب على بداية الطريق، وكتاب كبار وضعوا أقدامهم بالفعل على الطريق، وتمكنوا التمكن التام من أدواتهم الإبداعية والفنية.
فالكتاب المبتدئون في تقليدهم قد يبلغون حد النقل الحرفي أو النسخ من كتابات الكتاب الكبار المعروفون.
أما الكتاب أصحاب الإبداع المتميز فإنهم لا ينساقون إلى تيار التقليد حتى يعودوا إلى أنفسهم، فيستردون أصالتهم، وكلما زاد شعور المبدع المتميز بأصالته وتميزه، كلما طرح جانباً بعض عناصر الأسلوب المقلد، وبدل في بعضها الآخر من عندياته حتى يتمثله حق تمثيل، وحتى يهضمه الهضم السليم.
ويمكن لنا القول على الإجمال: إن أسلوب الكتابة يتألف من عناصر ثلاثة: الإبداع الشخصي، والتقليد القومي، والمؤثرات الوافدة أو الأجنبية، التي تبدو قوية أحياناً، وضعيفة أحياناً أخرى.
وقد يحدث تأثير كاتب بأخر في المواقف التي تتصل بالفكرة والموضوع، كما قد يحدث التأثير في الأساليب والصور البيانية والخيالية، ومع هذا التأثر تبدو للكاتب المتميز أصالته، ويبدو طابعه الخاص الذي يعرف به.
ومن أمثلة التأثر: الرومان أعجبوا بالكاتب المسرحي اليوناني / أرستو فانيس، وقلدوا مسرحياته.
وهذا هو الناقد والمعلم والخطيب / كانتليانس الروماني، يمتدح مؤلفاته، ويؤكد على ضرورة الرجوع إليها، ويفرض تلاوتها على تلاميذ المدارس ليفيد من نقاء أسلوبها ورشاقته، ويقفوا على قوة تركيبها، وتدفق حوارها، وبخاصة في الأجزاء الخطابية منها.
وهو يعتبر هوميروس وأرستو فانيس نموذجين ممتازين لتعلم الأدب والخطابة، أما الخطيب / ششرون الروماني فقد اعترف لهذا الشاعر المسرحي مؤسس الملهاة ببراعة النكتة، وتوقد القريحة، وطلب من الكتاب الأخذ منه.
كما كان تأثير أرستو فانيس أشد وضوحاً في عصر النهضة الأوربية، حين اهتم أدباء إيطاليا بنشر أشعاره وترجمتها، تبعهم في ذلك شعراء فرنسا وكتابها، الذين ذهب بعضهم إلى تقليد أرستو فانيس في أسلوبه وسخريته اللاذعة، ومنهم من تقمص روحه، وحاكى طريقته في النقد الاجتماعي والسياسي، ومنهجه في التصوير، ويعتبر (رابنيه) زعيماً لهذا الفريق من الأدباء، ثم جاء راسين وموليير واقتفيا أثر أرستو فانيس اليوناني في مطالع حياتهما.
كما قلده في انجلترا (بن جونسون) وغيره من شعراء المسرح الإنجليزي، ولما بدأ القرن التاسع عشر الميلادي ونشطت الحركة الرومانسية، حاز أرستو فانيس اليوناني إعجاب كثير من الكتاب مثل: بروننج، و سورنبرن، فتعددت ترجماته، وراجت مسرحياته، وأخرجت في العديد من المسارح الإنجليزية والفرنسية والأمريكية.
كما أعدت مسرحياته للإذاعة في مختلف بلاد الدنيا، وأذكر هنا أن البرنامج الثاني (البرنانج الثقافي الآن ) في الإذاعة المصرية، قدم بعض مسرحيات أرستو فانيس الكوميدية مثل: الضفادع، والسحب، والسلام، بترجمة محمد صقر خفاجة، التي نشرها ضمن سلسلة مشروع الألف كتاب الأولى بمصر، وقد لاقت إعجاباً كبيراً من المثقفين العرب في تلك الآونة.
وقد تأثر العديد من الكتاب العرب بأفكار مسرحيات أرستو فانيس، فعالجوها في كثير من القصص والمسرحيات والمسلسلات، كما اقتبسوها في بعض الأفلام السينمائية.
ومثال أخر على ذلك: شعراء جماعة أبوللو الرومانسية العربية، وكذلك شعراء المهجر الشمالي العرب، هؤلاء تأثروا بشكل كبير بالشعراء الرومانسيين والرمزيين الغربيين في: تشبيهاتهم، ودلالات ألفاظهم , وتجسيد معانيهم، ورغم ذلك ظلت لهم شخصيتهم الأصيلة العربية الشرقية التي تميزوا بها.
ونذكر كذلك: خليل مطران الذي ينسب إليه بعض الباحثين ريادة الشعر الرومانسي العربي، مطران تأثر بالشعر الفرنسي الرومانسي في مضمونه وبعض صوره، وفي التزامه بالوحدة العضوية , وذلك أثناء هروبه من لبنان إلى فرنسا إثر الاضطهاد التركي.
وأيضاً: جماعة الديوان (العقاد و شكري و المازني) تأثروا إلى حد كبير في شعرهم ونقدهم بالرومانسيين الإنجليز.
وشعراء الواقعية الجديدة أو مدرسة الشعر الحر، تأثرت بأشعار وكتابات ت.س. إليوت، الإنجليزي الأمريكي، بالإضافة إلى الشعر الغربي الحديث بوجه عام، وكذلك الشعر الروسي.
وكتاب القصة القصيرة من العرب، لا يمكن أن ينكروا أثر الروسيين: جوجول وتشيكوف، والأمريكي / إدجار ألن بو، عليهم بشكل أو بأخر.
والكاتب القصصي / محمود تيمور تأثر بشكل كبير بأعمال الفرنسي / موباسان، ولذلك أطلق عليه (موباسان الشرق ).
ونجيب محفوظ في كتابته لرواية الأجيال تأثر بالكاتب / بلزاك، وقد صرح بذلك أكثر من مرة.
ويقال: أن الشاعر المهجري / جبران خليل جبران ( 1883 م ـ 1931 م)، تعرف على الشاعر / بليك، وعالمه الشعري، وقد صرح بذلك في أكثر من موضع، بل أنه كان يعتز بأن يشبهه الناس ببليك، ويكفي أن الناقد والأديب / رودين وصف جبران بأنه (بليك القرن العشرين)، ورغم هذا التأثر فأننا نؤكد على أن جبران رغم حياته التي قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم كتاباته العديدة باللغة الإنجليزية، بما فيها كتابه المثير (النبي) إلا أنه لا يعد شاعراً أمريكياً، ولم يعده مؤرخو الأدب الأمريكيين كذلك، وإنما هو شاعر وكاتب عربي لبناني مهاجر إلى أمريكا، ولكنه حقق شهرة عالمية وصلت إلى حد يفوق شهرة بعض الكتاب العالميين.
نقول: نحن نعرف جيداً أن جبران متأثر بدرجة كبيرة ببليك الإنسان والشاعر والرسام، وقد وضح نفوذه الكبير على إبداعات جبران الشعرية والنثرية والفنية، إذن: تعرف جبران على أعمال بليك حقيقة مؤكدة، أشار لها في خطاباته لصديقة عمره / ماري هاسيكيل التي نشرت سنة 1972 م، والتي كانت محفوظة في جامعة نورث كارولينا، وفي عدد من مقالاته.
وتشير إلى فكرة النبوءة والأدب عند جبران، التي ربما تكون قد جاءته من بليك، حيث نجد أن جبران يجعل الشاعر في مرتبة النبي.
ويقول البعض: إن الدكتور / طه حسين قد سبق واقتبس اسم حيث الأربعاء من اسم مؤلف ضخم للكاتب الفرنسي / سانت بيف هو (حديث الأثنين)، وكما اقتبس هو هذا العنوان من سانت بيف، فقد اقتبس منه الكاتب الزنجي الماريتنكي / فرانس فانون اسم (المعذبون في الأرض ).
وردنا على هذا الرأي: إن ذلك حكم لا يسهل الأخذ به قبل أن نتأكد تماماً من أن كتاب طه حسين قد ترجم إلى اللغة الفرنسية، ونتأكد أن فانون قد اطلع عليه، هذا فضلاً عن أن اسم كتاب فرانس فانون هو (الملعونون في الأرض) !!
كما يقولون: إنه مما لا شك فيه أن الدكتور / طه حسين تأثر أسلوبياً بالأسلوب الفرنسي بوجه خاص، وبالأسلوب الغربي بوجه عام، ويكفي أن نقارن بين أسلوب كتابته في فترة العشرينات من القرن العشرين، بأسلوب التأليف في عصره، الذي كان يحتوي على الكثير من المحسنات البديعية، وصيغ البناء التي بها الكثير من الحشو والتطويل.
وفي رأينا: أن نظرة واحدة على أسلوب الدكتور / طه حسين من خلال سيرته الذاتية (الأيام) نلمح وعلى الفور هذا الأسلوب السلس، الرائق، الشائق، وكذلك التراكيب الشعرية التي تغلف جمله والمستخدمة للمفردات ذات الدلالات الخاصة، مما يجعلنا نقول: إن طه حسين بأسلوبه المتفرد، ليس في حاجة الباتة إلى أن ينقل من أساليب الفرنسيين أو غيرهم من الأوربيين.
ونحن لا نشك في أن طه حسين قد تأثر بكتاب فرنسا، مثل: ديدرو، وفولتير، وروسو، سانت بيف، وغيرهم، ولكن هذا لا يجعله على الإطلاق يصل إلى مرحلة نقل بعض فقرات كاملة، وأمثال، وكلمات مأثورة فرنسية طرقها الكتاب الفرنسيون من قبله.
وهنا نحب أن نشير إلى الدراسة القيمة التي قام بها الدكتور / كمال قلته في هذا المضمار حول أثر الأدب الفرنسي على طه حسين.
ويؤكد عدد من الباحثين أن الشاعر المصري/ صلاح عبد الصبور تأثر في أسلوبه، وفي مضمون أشعاره بكل من: فاريكو جاراسيا لوركا الأسباني، وبابلو نيرودا الشيلي، وإيفتوشنكو الروسي، وولت ويتمان الأمريكي، وت. س. إليوت الإنجليزي / الأمريكي، وهو أكثر الشعراء تأثيراً في شعره، وفي شعر مدرسة الشعر الحر أو الواقعية الجديدة، وقد أشار عبد الصبور إليه في عدة دراسات ومقالات له.
ويمكن أن نضيف إلى الذين تأثر بهم صلاح عبد الصبور من الشرق، شاعر تركيا الكبير / ناظم حكمت (1902 م ـ 1963 م)، الذي كان له أكبر الأثر في الحياة الأدبية في تركيا، وأول من تحرر من قيود الشعر العامودي التقليدي، وأول من تزعم حركة الشعر الجديد في تركيا، وقد تأثر به كثير من الشعراء العرب في العصر الحديث.
كما قرأ عبد الصبور بودلير الفرنسي، وبوشكين الروسي، وبرخت الألماني، وفي المسرح تأثر بشكسبير، وبرخت، وسارتر، ويوجين أونيل، وأونسكو، وإبسن، ولوركا، وإليوت، وميللر، وجون أوسبورن.. وغيرهم.
ونحن لا ننكر عملية التأثر والتأثير وهذا أمر واقعي ومشروع، وما ذكرناه من أمثلة تتعلق بالأدب العربي الحديث، لا تعني بالمرة بعد من ذكرناهم عن الأصالة، وعن الطابع المميز لكل منهم، حيث ظلت لهم شخصيتهم العربية الشرقية المتميزة.
ويبدو التأثر واضحاً في شعر (التروبادور) الذين أخذوا صور الأسلوب شكلاً ومضموناً من الشعراء العرب في بلاد الأندلس.
والشاعر الإيطالي / بترارك تأثر بلغة الغزل التروبادورية، فشاع أسلوبه هذا بين أدباء وكتاب: إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، حتى رأينا الشعر الغزلي أو الغنائي أو الدرامي في الفترة الممتدة من القرن السادس عشر الميلادي إلى عصر ظهور الرومانسية الأوربية، رأيناه يفيض كله بألفاظ النيران، واللهب، والحديد، والقيود، والسجون، والشهداء.. الخ..
وفي مسرحيات الرعاة في الأدب الفرنسي، وقصصهم، تأثرت في كثير منها بالتشبيهات والاستعارات بهذا النوع من الأدب الإيطالي فأخذوا يعبرون عن حبهم وعاطفتهم بألفاظ من المرعى والحقل، وعديد من المفردات المتصلة بحياة الرعاة.
ومن تأثيرات الأدب الفرنسي في الأدب العربي الحديث، ما نلاحظه في عبارة قالها طه حسين في مناقشته لمصطفى صادق الرافعي، فقد وصف طه حسين الرافعي بأنه في إخراج مؤلفاته يعاني من آلام الوضع !!
والواقع أن طه حسين كان يعني رمي الرافعي بالتكلف في التأليف، وهذه العبارة مألوفة في الأدب الفرنسي، لكنها لا تؤدي المعنى الذي أراده طه حسين.
فقد وصف فولتير نفسه بهذه العبارة، ولكنه كان يريد أن يعبر عن الجهد الذي يبذله، ويعانيه في إحكام أسلوبه وصياغته.
ونحن إذا أقصينا جانباً مسرحيات توفيق الحكيم المتعاملة مع التراث اليوناني القديم، مثل: أوديب، وبراكسا، وبجماليون، وعكفنا على كتاباته ومسرحياته الأخرى، لأمكننا الكشف عن آثار الأدب الفرنسي بوضوح، في موضوعات مسرحه، وطرائق المعالجة ومناهجها، ووسائلها، بل قد يتسرب في بعض الأحيان التأثير على اللغة والأسلوب والحوارات، وغيرها من عناصر تكوينات البنية الفنية عند الحكيم.
ومن يراجع مسرحية (مصرع كليوباترا ) لأحمد شوقي، يلمح فيها تأثيرات في الصور مستمدة من مصادر فرنسية وإنجليزية، ويلحظ تأثر شوقي الكبير بمسرحية شكسبير، وبالتحديد في آخر الفصل الثاني من مسرحية شوقي، بل إنه ينقل نفس كلام شكسبير في المنظرين السادس والسابع من مسرحيته.
ومنظر الوليمة يشغل معظم الفصل الثاني من مسرحية شوقي، وهو متأثر بشكسبير فيما يسوده من طابع المرح، ومن الشراب والرقص، وللمنظر بالطبع أصل تاريخي يعرفه كل من شكسبير وشوقي اللذان كانا لهما معرفة ودراية بما يدور في القصور الملكية.
وتبادل الأدب العربي والفارسي عملية التأثر والتأثير في مجال الأسلوب، فحين انتقلت المقامات والرسائل والقصائد الغنائية من العربية إلى الفارسية، نقلت صور الأسلوب معها إلى درجة التقليد الذي قد يفقد العمل الأدبي أصالته.
وفي الرسائل الديوانية والإخوانية أثرت العربية في الفارسية من نواحي الأسلوب تأثيراً واضحاً، كما يبدو ذلك من الرسائل التي جمعها وألفها الكاتب / بهاء الدين محمد بن مؤيد البغدادي، الذي توفي حوالي أواخر القرن السادس الهجري، في كتابه المسمى (التوسل إلى الترسل).
وفي الواقع أن العرب تأثروا بشكل كبير بالرسائل الديوانية الفارسية، حيث أن هذا النوع من الرسائل، لم يكن للعرب معرفة به، ولعل دور عبد الحميد بن يحيى الكاتب (وهو فارسي الأصل ) في نهاية العصر الأموي، وارتقائه بأسلوب الكتابة الديوانية، من الأمور التي يقررها ويعترف بها تاريخ الأدب العربي.
ونرى أن بعض شعراء العربية في العصر الحديث تأثروا باللغة الفارسية، كما يبدو في مسرحية (مصرع كليوباترا) لشوقي، فهو يقول عن اختفاء أنطونيو في الإسكندرية، وعزمه على ألا يظهر في قصره قبل انتقامه والثأر لهزيمته في موقعة اكتيوم البحرية، فقد عبر عن إخفاء شيء لابد من ظهوره بإخفاء الهشيم في النار، وهي صورة مقتبسة من الفارسية، وقد عرفها شوقي لانتقالها إلى الأدب التركي , الذي كان شوقي على علم كبير به.
وبهذا أتضح لنا كيف تجري عملية التأثر والتأثير في الأسلوب الأدبي بين الآداب المتعددة، وهذا يقتضي الدراسة على المنوال المقارني في الأدب.
وقد جرت دراسات في هذا الصدد، وإن كان الواجب أن تدرس التأثيرات العالمية، فهناك دراسات مختلفة عن فن الأقوال والتعبيرات في انجلترا، وعن الفكاهة أو السخرية أو التظرف في الأسلوب , كما جرت دراسات أيضاً في الأدب الألماني والفرنسي على هذا النمط، إلا أنه لا يزال هناك مجال عظيم مفتوح للدراسة في هذا الباب.
نقول: نحن لا زلنا في احتياج إلى دراسات منهجية صحيحة دقيقة لأساليب معظم كبار الكتاب، فإن ذلك يوقفنا على المؤثرات الأجنبية التي تأثروا بها في أسلوبهم، لنعرف تأثيرها في التعبير بل في الفن نفسه، وليس هناك أي مبرر للخوف من مثل هذه الدراسات، فالأدب أخذ وعطاء , تأثير وتأثر , وهذه أبرز سمة للإبداع الإنساني في مختلف العصور.
ثانيًا ـ النظم :
مما لا شك فيه أن الاختلاف في الأوزان الشعرية، أو في بحر من بحور الشعر، له أثره في اختلاف إمكانيات التعبير، فهو أحياناً يجعل الشاعر يميل إلى الإيجاز والاختصار، أو يجعله أقرب إلى الإطناب أو الاستطراد.
وبعض الأوزان تنفخ في القصيدة الشعرية نار العاطفة، وتجعلها أقرب إلى القلوب، وأنفذ في النفوس والمشاعر والأحاسيس.
والعلاقة بين القالب العروضي والفكر من أهم العلاقات في الأدب، وهناك أسرار وخصائص أدبية وراء اختيار هذه القوالب الموسيقية، تفهم من النماذج الشعرية التي حكاها الشاعر أو اقتبسها.
ومسألة اقتباس الأوزان الأجنبية أو إحداث تغيرات فيها قد تسهل في بعض أنواع النظم الشعري، وقد تستعصي في بعضها الآخر، ولا سيما أن لكل لغة خصائصها الذاتية.
وفي اللغات الأوربية أوزان لها حظ مشترك بين كافة الأمم الأوربية، وبعض هذه الأوزان والقوالب العروضية انتقل فيها من لغة إلى أخرى بناء على استهوائه للشعراء.
ومثال على ذلك (السوناتا) التي انتقلت بعد دانتي وبتررارك من إيطاليا إلى أسبانيا وفرنسا وانجلترا، ثم انتشرت في كافة أرجاء أوربا.
ومن القوالب العروضية التي انتقلت من أمة إلى أخرى القافية الثلاثية أو المقطع الثلاثي، وهو بحر الملهاة أو الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي الإيطالية، وقد استعمله في الفرنسية بعد انحصار التيار الرومانسي الأوربي، استعمله بعض الشعراء الأوربيين وتوسعوا فيه، ويمتاز هذا الوزن بشيء من القوة في رتابته، وهو يصلح للقصص الأسطوري.
ومن ذلك أيضاً نظام الأبيات الرباعية المؤلفة من مقاطع ثمانية، وقد استعمل في القرن التاسع عشر للتعبير عن التفكير العاطفي الشجي أو الحزين بوجه خاص، وعن إخفاء أسرار النفس الإنسانية.
وهناك المقطوعة الشعرية المؤلفة من أربعة أبيات طويلة متساوية، أو شبه متساوية، نظم عليها كل من: لامرتين، وفكتور هوجو، وجراي، العديد من قصائدهم، وهي تصلح لشعر الرثاء الحديث بنعومته ورقته وكأبته.
ويؤكد الباحثون بتأثير هذه الأوزان الأوربية في شعرنا العربي الحديث، وبالذات في جماعة أبوللو الشعرية، وفي شعراء المهاجر.
ويسلم الباحثون بتأثير الأوزان والقوافي الشعرية العربية في الشعر الفارسي، وأن الفرس نقلوا أوزان الشعر العربي إليهم، كما انتقلت إلى الأشعار الفارسية القافية الموحدة وفقاً للنمط الشعري العربي.
ومع القول بأن الفرس كان لهم أوزان شعرية قديمة، فقد لوحظ تشابه البحور الشعرية عند العرب والفرس، فبحور: المتقارب، والرجز الرباعي (الدوبيت) كانت من الأوزان المعروفة لدى الإيرانيين القدماء، وهي شائعة عندهم في الوقت الذي كانت أقل شيوعاً في الشعر العربي القديم خلال العصر الجاهلي.
ذلك على حين تشيع بحور: الطويل، والوافر، والسريع، والبسيط، والمتقارب، في الشعر العربي، وبعض البحور الأخرى التي تتفاوت شيوعاً وكثرة بين الفارسية والعربية.
ولا شك أننا نؤمن بالتأثير العربي في الأدب الفارسي، ومن جوانب هذا التأثير بعض هذه الأوزان الشعرية، إلى جانب التأثير في الموضوعات والأساليب والأفكار.
وكان للموشحات والأزجال الأندلسية أثرها البارز في أشعار التروبادور الأوربية.
والموشحات الأندلسية هي فن جديد ابتكره شعراء الأندلس، وجددوا به نظام وزن الشعر وقافيته ن فلم يلتزموا الوحدة فيها، وأنواعها كثيرة، ولكنها تشترك في اشتمال كل منها على أجزاء يسمى كل جزء منها مقطوعة، وله قافية مستقلة تنتهي بلازمة أو قفل يتكرر مع كل مقطوعة.
ويقال إن من أسباب ظهور الموشحات الأندلسية: تأثر شعراء الأندلس بالغناء الشعبي المتحرر من الوزن والقافية والذي وجدوه بين سكان الأندلس عندما دخلها العرب، وميلهم إلى الدعابة والعبث بالتعبير السهل البسيط، الأمر الذي يجعلهم يضيقون بقيود الوزن والقافية.
وشاعت الموشحات في الأندلس حتى تناولت أغراض الشعر، من مدح ووصف وغزل، وغيرها.. ولم تعد مقصورة على الغناء والمرح.
نعود لنقول: إن الموشحات ظهرت في الأدب الأندلسي مع أواخر القرن السادس الهجري، التاسع الميلادي، وهي تشتمل على أجزاء: الأول هو المطلع، والثاني الذي يليه هو الغصن، وتختلف قافيته عن قافية المطلع مع موافقته له في الوزن، والجزء الثالث هو القفل، ويتحد مع المطلع في القافية والوزن، والغصن والقفل معاً يسميان بيتاً.
وقد ظهر في شعر التوربادور تقليد للموشح الأندلسي، وعندهم أسماء متعددة تقابل أجزاء الموشح الأندلسي، ففوق التأثير في موضوع الشعر عموماً والموشح خصوصاً، يظهر التأثير في الوزن واضحاً.
ففي شعر التوربادور كما في الموشحات تظهر شخصية الرقيب أو العزول أو الواشي أو الحاسد، الذي يمنع المرأة من الاتصال بأي أجنبي، وتوجد شخصيات أخرى مثل الكاشح أو الرسول بين الحبيبين.
ولا يصرح باسم المحبوبة، بل يكنى عنها، مثل أن يقول الشاعر: أملي أو بغيتي.
ويعبر شعراء التروبادور عن ميلاد الحب من أول نظرة، وعن قسوة المحبوب الذي يخلف مواعيده أو يتجاهل الحبيب، وكذلك خضوع المحب وإخلاصه.. إلى آخر هذا الذي نعرفه في شعر الغزل العربي بنوعيه العذري والحسي.
وللموشحات العربية التي تتكلم عن الحب والهجر والمعاناة، وما يفعله الحساد نظائر في الشعر الأسباني، ذكر بعضها أستاذنا المرحوم الدكتور / محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن).
وقد حاكى شعراء التروبادور الموشحات والأزجال الأندلسية في المقطوعات التي تتكون منها القصيدة، وقد جعلوها سبع مقطوعات، وهو العدد الغالب على الموشحة والزجل.
ويغلب على الموشحات العربية الألفاظ العربية الفصيحة، وقليلاً ما كنا نجد فيها ألفاظا عامية، أما الزجل فكان يصاغ باللغة العامية الدارجة التي انتشرت في الأندلس آنذاك، وتختلط بها ألفاظ أجنبية .
ومن المرجح أن تكون الأزجال الأندلسية قد نشأت في أواخر القرن الرابع الهجري، مع أن ما وصل إلينا منها ينسب إلى القرن السادس الهجري.
وكان الزجل يصاغ في بداية الأمر على منوال الموشحات مع اختلال قليل فيما يسمى الخرجة التي هي القفل الأخير من قصيدة الموشح أو الزجل.
والزجل كالموشحات الأندلسية كان مجالاً للتأثير في شعراء التروبادور، وانتقال ذلك الأدب إلى الآداب الأوربية كلها.
وختاماً نقول: إن التأثير والتأثر موجود لا محالة , وهذا ما يقرره المنطق والحياة الإنسانية، هناك تأثر بالسيرة الروحية أو الفكرية لكاتب معين، وتأثر بالموضوعات التي يتضمنها الأدب، وتأثر بالمضامين أو الأفكار التي يحتويها… الخ..
نعم هناك تأثير وتأثر، رغم وجود من ينكر هذه الفكرة , واصفاً إياها بالإبهام والغموض وعدم الواقعية.
باحث وخبير في التراث الثقافي