الرئيسية | سرديات | إيزيس | محمد عبد النبي

إيزيس | محمد عبد النبي

محمد عبد النبي (مصر):

الشتاء الماضي كذبتُ على جميع أصحابي، حتى أكثرهم صدقًا معي، أو مَن أظنهم كذلك، فقد رويتُ عليهم تفاصيل قصة حبي الشجيَّة، والتي لم يكن لها وجود من الأصل.

لمَّا اختنقتُ من حكاياتهم العاطفية، يصبّونها على رأسي ليلَ نهار، دون أن يكون لديَّ ما أخبرهم به في هذا الشأن، قررتُ أن أستغل مواهبي القديمة كطفلٍ اشتهر باختلاق الأكاذيب وإحكامها، فنسجتُ لهم حكاية من التي تُوجع القلب. انتظرتُ حتى سهرة ليلة رأس السنة لأبدأ سرد وقائع الحب الخرافي، وقد اجتمعنا كالعادة في بيت أحدنا واشتركنا في شراء لوازم الليلة.

تهيأ الجو إذَن لاستقبال اعترافي، الذي لا بُد لم ينفلت مِني إلا تحت وطأة الألفة والدفء، رغم برودة الجو، وأغانينا المترنحة وطعم البيرة اللاذع اللذيذ:

[تعرفون أن معهدنا اتضح أنه آيل للسقوط، وعليه نقلونا إلى معهد آخر في ميدان الحجاز فترة مسائية، هكذا مرة واحدة من المطرية إلى مصر الجديدة، طبعًا صدمة حضارية بالنسبة لجميع الطلبة، لكن المهم أنني خرجت بتجربة حب حقيقية، كنتُ في انتظارها من زمان…]

ومن ثَمَّ تشتبك الحكاية بأمور لا أحد يساوره الشك بشأنها أبدًا، هكذا اعتدنا، نحن الكَذَبة، خلط الأوراق ببراعة الحُواة، فنُكسِب وقائع التاريخ مثلًا خفّة الأطياف، ونُلبس الأساطير ثوبَ الأخبار في جريدة يومية. توقفتُ عن الكلام لبعض الوقت وأنا أبالغ في مزمزة الترمس، والكل ساكت، حتى سألني “س.ع.” -الشاعر الذي لا تنتهي مشاريع حياته الخسرانة-كيف عرفتَها، استأنفتُ وقد ملكتُ زمام السهرة:

[قابلتها يا سيدي في الترام الذي آخذه للمعهد، كنتُ جالسًا أطالع ديوان “لماذا تركتَ الحصان وحيدًا” عندما لاحظتُ أنها تنظر نحوي باهتمام، ثم طلبتْ أن تلقي نظرةً على الكتاب، قالت إنه الديوان الوحيد الذي لم تقرأه بعد لدرويش، فقلتُ طبيعي لأنه صدرَ حديثًا جدًّا، وقالت إنها مغرمة به بالوراثة عن أمها الصحافية في (نصف الدنيا)، وقلت إنني مُغرم به بالزمالة لأن لي محاولات في الشِعر وأمي لا تفك الخط أساسًا… وهكذا يا عيال تدفق بيننا الكلام سلسًا وعذبًا، كأننا اثنين من أبناء بلدة واحدة جمعتهما صدفة حلوة في قلب الغُربة…].

التقطوا الطُّعم، وكان سهلًا أن ترى الغيظ والحسد في عيونهم، إمعانًا في إذلالهم شرعتُ أرسم لها صورة شبه أسطورية بخطوات مُعدَّة سلفًا:

  • جعلتُها قبطية الدين، فُيولد الحب محكومًا عليه بالموت من أول لحظة، ولأن تراث المسيحية ملآن بالرموز التي قُتلَت استدعاءً في نصوص أصحابي الرهيبة.

  • وضعتُها في طبقٍة مرتاحة جدًّا، لتكون فوق المشكلات المادية الصغيرة، التي تثقل أيامنا نحن الفقراء، وليمتزج جمالها الحسِّي بهشاشة وَسَطها القاسي أو كما يقولون.

  • لم أصفها وصفًا دقيقًا قط، مُكتفٍ بملاحظات عابرة عن لون عينيها الغامض بين الزُّرقة والبنفسج والذهبي، وعن فوضى شعرها الدائمة، وقدها النحيل، ليكملَ كل واحد منهم الصورة بخياله الشخصي.

  • ثم اخترتُ لها اسمًا نادرًا وهو إيزيس،ما يستدعي الإلهة المصرية القديمة بكل دلالات الخصوبة والبَعْث وخلافه.

[وهكذا يا بؤساء، فإنه بالطابق الرابع من عمارة في شارع منصور تسكن الربة “المودرن”، إيزيس، تلك التي سلبتْ مني العقل والحواس يومَ استعارت ديوانَ “…الحصان وحيدًا”].

سعدتُ بإتمام الفصل الأول، وظللتُ أنسج التفاصيل كلما التقينا على المقهى أو في أحد المنتديات الفظيعة، وأحيانًا أنسى الموضوع كله حتى يذكّرني واحدٌ منهم بسؤال عن أخبار الحب الأوّل، فأجيبه متظاهرًا بنشوة بلهاء: آه، إيزيس. وفي الحال أتصيَّد الكلمات من الهواء، مرتجلًا مئة في المئة:

[ذهبتُ معها أولَ أمس لزيارة عمتها العجوز، بقصرها المنيف وشبه المهدَّم نواحي دير الملاك، ست وحدانية وساحرة، لها ضحكة مخبولة وبصَّات مُخيفة. مثقفة ثقافة فرنسية رفيعة، بل وتكتب شعرًا بالعربية موزونًا في غاية النعومة، وما زالتْ تتحسّر على أيام مجدهم الإقطاعي الغابر. على أي حال فقد باركتْ علاقة حفيدتها بواحد من أبناء الشعب، وعندما عرفت اهتمامي بالشِعر أهدتني نسخة نادرة من الأعمال الكاملة لإبراهيم ناجي، لن تصدّقوا، على الصفحة الأولى إهداء إليها منه شخصيًّا، بخط رقعة رشيق وقلم حبر أزرق مكتوب: إلى الآنسة المهذبة “اسكندرة” مع خالص المودة…].

وتتوالد الأكاذيب، دون أن يعترض أحد أو يتساءل هل حقًّا طُبعَت الأعمال الكاملة لإبراهيم ناجي قبل وفاته. وقبل أن يتسرَّب الملل إلى الحكاية، تقول لهم إن إيزيس يا جماعة بدأت تكتب خواطر مضطربة قليلًا، لكن فيها روح حُلوة، مما اضطرك لاختلاق عدد لا بأس به من القصائد الساذجة، مُستلهمًا روحًا رسمتَ ملامحها في خيالك من قبل، ثم طلبتَ من الصحاب المهووسين أن يكتبوا تعليقات على أعمالها فلبّوا بزهوٍ أخرق، حتى تكوّم لديك ما أسميته فيما بعد (ملف إيزيس):

  • قصيدة “صليب على الجبين” ومعها قراءة الرمز في قصيدة “صليب…”.

  • ديوان “لماذا تركتَ…” بعد أن أعادته وقد تركت في صفحة 77 بنفسجة جافة.

  • الرسائل الملهوفة التي بعثتْ الربّة بها إليَّ من أماكن ومصايف سافرت إليها مع الأسرة الكريمة.

  • أعمال ناجي وعليها الإهداء المزوّر للآنسة اسكندرةالتي لم توجد في أي زمن أو مكان.

ودون إرادتي كانت الأباطيل تُصمّم عالمًا متكاملًا، لعلّه أصبح لفترة أكثر قوةً وحضورًا من حياتي العادية بطولها وعرضها. لكني مللتُ الحكاية تدريجيًّا وتهرّبت من إلحاحهم عليَّ بمقابلتها بكل الوسائل، إلى أن استيقظتُ ذات صباح وقد عقدتُ العزم على كتابة كلمة النهاية.ولأجعلهم يتخبطون أكثر رسمتُ لكلٍّ منهم مظهرًا للفراق يناسب مزاجه.

فلما سألني (ج.ف.)، مجنون السينما وكاتب السيناريو عاثر الحظ، عن سبب قطع العلاقة، رحتُ أصف له مشهدًا شفيفًا، بالضبط مثل نهاية فيلم فرنسي لمخرجي الموجة الجديدة:

[كان ذلك في عيد الميلاد المجيد، كنا نجري تحت المطر ونحن نتصايح كالأطفال والدنيا ليل، علّقتُ السلسلة الفضّية التي أهديتُها إيّاها في رقبتها فقبَّلتني، المجنونة، بسرعة. كانوا، هُم، ينتظرونها في الكنيسة وبعد أن اختفت وراء الأسوار العالية، خيَّم عليَّ شعور حاد بعبث كل هذا، وأنني لا بدّ أن أجنّبها وأجنب نفسي عواقب تطور علاقتنا أكثر من هذا. كنتُ أمشي تحت المطر هائمًا لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم، يُطفئ المطر سيجارتي مرة بعد أخرى. وقد قررتُ أن أتركها للأبد…].

ومع شيوعي سيخ مثل (أ.ع.) سيكون مبرري، بيني وبينه بالطبع، ذلك التناقض الصارخ بين عالمي وعالمها، وكلام من نوع:

[طوال الوقت كنت أصطدم بمفردات حياتها الغريبة عني. فمهما كانت فورة مشاعرنا، الفوارق هناك دائمًا وأبدًا، لا الثقافة ولا الحب يُلغيها بأي شكل، فإذا دخلنا مثلًا مطعمًا محترمًا لم أكن أسلم من التلعثم وأنا أطلب، ومن التخبّط وأنا أتناول الطعام بأدوات المائدة التي تجعل الأكل مسألة تعذيب، نعم، كانت هي تتفادى هذه المواقف على نحو لا يُشعرني بأي حرج، وهو ما كان يغيظني أكثر… ويُحمّلني باغترابٍ مُضاعف حتى تركتها للأبد…].

نعم، (أن أتركها للأبد)، العبارة التي تكررت في كل النهايات، إذ كيف يتسنَّى لأيِّ واحدة أن تتركني، حتى ولو كانت ربة مصر الجديدة إيزيس؟ تلاشت البنت تدريجيًّا وارتحت، لكنها كانت تطل عليَّ، بين الحين والآخر، بابتسامتها الماكرة، فأتذكر كلمة قالتها أو لحظة حميمة أو موعدًا مغدورًا، فأعود أتصفح الملف الخاص بها مُفعمًا بالحنين وخيبة الأمل، لذا لا تظنوني كاذبًا إذا قلتُ لكم:

[إنّ الأمر المضحك، حتى بعد اعترافي بأكذوبتي، هو أنني كلما مررتُ بالشارع الذي تسكنه، أشعر بعينيها تتابعني من فوق، من شرفتها العالية، فيداهمني يقينٌ مدهش أنها ستنادي عليَّ بعلو حسّها، ثم تنزل في لمح البصر، لتصالحني بقُبلة، المجنونة، هكذا في عَرض الطريق وفي عز الظهر، لنستكملَ من جديد قصة الحب الفريدة…].

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.