الرئيسية | سرديات | إهداء خاص| إدريس خالي

إهداء خاص| إدريس خالي

إدريس خالي  ( المغرب):

 

        فيما مضى كان ولد يسرح قطيعا من البقر. حدث هذا في زمن كانت كل مجموعة بشرية تنظم نفسها بنفسها.  وذات ضحى مر رجل بالصدفة بالمرعى الذي كان فيه الولد صحبة قطيعه. كان تاريخ القرية يخلو من حوادث اختطاف أو اعتداء قام بها الكبار في حق الصغار لذلك اطمأن الولد وازداد فضوله لمعرفة ذلك الشيء المكتوب على القطعة المعدنية الصغيرة التي كانت معلقة على الجيب الأيسر لسترة الرجل.

        في ذلك الزمن لم تكن هناك  أجهزة اتصال متطورة. وكان ذلك سبا وجيها كي يجلس الولد كل بداية  ليل قرب حجر أمه ويستمع إلى حكاياتها التي لا تنتهي. لم يكن الرجل الغريب شخصية أساسية في حكايات الأم. كان ذلك واضحا؛ فهي لم تجعله مصارعا للغولة غير أن الولد استطاع أن يُدخِل الرجل إلى ذلك العالم بفضل كلام قاله له في ذلك اللقاء العابر:

أَحِبَّ الكتاب والحيوانات. سيكون يوما مشهودا أن أقرأ  لك شيئا ما يا ولدي.

     وقد كان لهذا الكلام وقع الحكمة في نفسية الولد لذلك اشتد فرحه وزهوه  وهو يستمع إلى الرغبة  التي أبداها الرجل الغريب في حضوره.

 مع بداية أكتوبر كان الولد  قد التحق بالمدرسة بعد التحاق العديد من أقرانه.

  وعلمه المعلم الأسماء والأفعال فيما تكلفت أمه بالقطيع. ولم ينصرم وقت كثير حتى حفظ الولد سَبِّح وتبارك والفيل في حين استعصت عليه البقرة.

وصار يقرأ كل كتاب تصل إليه يداه.  كان يقرأ  أنى ذهب. يقرأ وهو  في السرير، يقرأ وهو في زيارة خالته في المدينة، يقرأ بينما أصدقاؤه يسبحون في النهر. كان يقرأ حتى وبنت عمه النافرة النهدين نائمة بالقرب منه. يقرأ وإخوته المناضلون ينصبون المقالب لبعضهم البعض.

 وواصل الولد القراءة إلى أن عثر ذات ظهيرة على كتاب المخلوقات النورانية لبورخيس.

 ثم  قرر التوقف قليلا خشية أن يفقد بصره كما فقده هذا العجوز ذي العينان الكبيرتان اللتان تبدوان كما لو أنهما تنظران إلى عمق أعماق كل إنسان.

 وفي الليل كان الولد يحلم أحلاما كثيرة. وبعد استيقاظه كان يمر مباشرة إلى دفتر ويكتب كل تفاصيل  أحلامه. بيد أن حلما واحدا كان يدق كل ليلة جدران نومه. كان حلم الولد بسيطا وغريبا في نفس الوقت. في حلمه كان الولد  يرى نفسه وقد أصبح كاتبا. وقد أسعده  في الحلم أن يرى اسمه مقرونا بصفة كاتب. وعزم على أن  يهدي النسخة الأولى من كتابه الذي سيكتبه للشخص الغريب.

    طبعا كان ذلك مجرد حلم. وعلى الرغم من ذلك فقد وضع الولد  كل ثقته في حلمه وآمن به ثم صار يعمل بجد كي يتحقق.

 ومرت السنوات. مرت كما العربات التي تجرها البغال.

 وحين تجمع لديه ما يكفي من نصوص استشار صديقا في جواز طبعها في كتاب. هكذا، ذات يناير، وجد الولد بإرادته نفسَه وقد أصبح كاتبا. وكم كانت فرحته كبيرة و هو يرى اسمه وقد أصبح أخيرا على غلاف كتاب.

وبكل الفرح الدفين عزم الكاتب على انتظار الرجل الغريب كي يأتي إلى القرية مع مطلع الربيع ويهديه نسخة من كتابه. وانتظر الكاتبُ الرجلَ الغريب. انتظره طوال سبع ليال وسبعة أيام.

ولم يأت الرجل الغريب.

ولم ييأس الولد الذي صار كاتبا.

وفي اليوم الثامن قرر أن يذهب بنفسه إلى المدينة   كي  يلتقي بالرجل ويهديه  نسخة من كتابه.

في المنعطف الثالث عن يسار زقاق بلا اسم كان الرجل الغريب يسكن.

وتقدم الكاتب من الباب. تحسس النسخة التي بين يديه. ولسبب خفي خالجه شعور لذيذ وهو يقترب  من المنزل. وحين  رفع كفه ليضغط بسبابته على زر الجرس راودته الجملة التي قالها له ذات زمن بعيد الرجل الغريب. وقبل أن يضغط على الزر أخرج النسخة  من جيب سترته وكتب  بخط جميل على صفحتها الأولى إهداء:

السيد عين:

أتمنى أن تروقك عوالم هذه النصوص

مع موفور المودة والتقدير.

ووقع الكاتب النسخة باسمه.

ثم صر الباب وانفتح.

 هناك، في وسط الباب، كانت تقف سيدة قصيرة. وبعد أن حيا الرجل الكاتب السيدة عبر لها عن رغبته في رؤية صاحب المنزل. كان واضحا أنها قد ألفت زيارة الغرباء.

وتلعثمت السيدة قليلا ثم تشجعت  وطلبت منه أن ينتظر قليلا.

ثم  سرعان ما عادت تدفع ببطء رجلا فوق كرسي متحرك. كان هو نفس الرجل الغريب وقد تقدمت به عربة الزمن نحو عمق الشيخوخة. غير أنه إذا كانت السنوات قد أقعدت الرجل العجوز فإنها لم تستطع أن تمحو تلك الحكمة المكتوبة بدقة على القطعة المعدنية الصغيرة التي يبدو أنه  حرص على أن تبقى علامة مميزة على صدره. كانت عينا الكاتب  حادتين لذلك استطاع قراءة الشيء المكتوب على القطعة:

 ليست الحيوانات مصدر لحم ولبن فقط  بل هي مصدر إلهام أيضا.

وخجل الولد الذي صار كاتبا من الموقف الذي حط فيه نفسه. وعند محاولته  جر الرجل المقعد ذي العينين المطفأتين للحديث كانت نظرات السيدة  تلمح له أن لا يتعب نفسه.

وحاول.   حاول مرة ثانية وثالثة غير أن الرجل كان يبدو وكأنه قد غار في بئر بلا قرار.

هامش:

فيما مضى كان الولد يرتاح في رفقة القطيع. قبل أيام فقط صار الولد، هكذا يعتقد، كاتبا.

ولم يفزعه، بينما مجموعة من الطيور تعبر الفضاء الممتد للقرية، أن يخرج طائر من المجموعة ويطير منفردا.

في الآتي من الأيام سيجلس الكاتب وحيدا على كرسي هزاز  أمام باب بيته،

من الواضح أنه سيكون في حل من مشاغل تلهيه عن النظر إلى الطيور وهي تحط مجتمعة فوق شجرة،  سلك كهربائي،

أو تطير

بحثا عم يبقيها عاشقة للأشجار والريح و الثرثرة.

أمام الباب قد  يغفو الرجل الكاتب ويحلم بالولد الذي كانه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.